كان لفوز الأديب التنزاني “عبد الرزاق قرنح”، بجائزة نوبل هذا العام، في وقت يشهد فيه العالم توترات حول الهجرة وتدفق النازحين وما يكتنفهم من معاناة أثناء هذا الترحال، دلالته التى فسرت أسباب انتزاع “قرنح” هذه الجائزة الهامة، إذ تميزت أعماله بالاستغراق العاطفي والانساني فى تأثيرات الاستعمار ومصائر اللاجئين، فضلاً عن توثيقها ذاكرة اللجؤ ومغادرة الوطن وظلال هذا الفقد التى تظل تلازم هؤلاء.. عمل “قرنح” أستاذاً للغة الإنجليزية في جامعة كنت البريطانية ولمع نجمه كـ “روائي” بارز، فقد حصل على جائزة راديو فرنسا الدولية “Temoin du Monde” عن روايته “By the sea”. كما نال جائزة “Withbread” عن روايته “Paradise” التى وصلت أيضاً للقائمة القصيرة لجائزة البوكر، فيما وصلت روايته “هجران” للقائمة المختصرة لجائزة (كتاب الكومنولث).
كان لموقع “Africa in dialouge” هذا الحوار معه بمناسبة صدور روايته الأخيرة “ما بعد الحياة” فى عام 2020، والتى حققت إشادة نقدية، حيث وصفها “ديفيد بيلينج”، من صحيفة “فاينشيال تايمز”، بأنها “رواية هادئة الجمال والمأساة”، فيما أشاد “مازا منجيست”، بصحيفة “الجارديان”، بـتفاصيلها السردية عن الاستعمار وتصويرها العلاقات المجهدة نفسياً ببراعة.
رواية “Afterlives ” تمتلئ بالمغامرة وتهيئ القُراء للاشتباك مع قصص عايشتها أجيال متعاقبة، لكونها تدور داخل سياقات تاريخية و اجتماعية متعددة.. لقد أتيح لي، هذا العام، فرصة الاطلاع على العديد من روايات الخيال التاريخي لـ “كُتاب أفارقة”، يحاكون نفس تيمة روايتك. كل كتاب قرأته شعرت وكأنه بمثابة تجربة فريدة تعلمت منها الكثير عن تاريخ هذه البلدان الأفريقية. ترى كيف تُعلِل أهمية سرد القصص التاريخية إلى جوار القصص الحالية، خاصة في سياق الأدب الأفريقي؟
الكتابة في لحظة تاريخية يمكنها أن تعمق، فى كثير من الأحيان، فهمنا لحقبة زمنية أو فترة تاريخية لا نعرف عنها سوى خطوطها العريضة أو ندركها، فقط، باعتبارها حدث تاريخي دون النظر إلى ما وراء الحدث من مدلولات انسانية. فى النهاية، لا اعتقد أن القالب الزمني أو الفترة التى تدور أثناءها القصة بهذا القدر من الأهمية، سواء كان موضوع الكتابة عن الماضي أو الحاضر. الأهم، فى رأيي، الموضوع نفسه وطريقة المعالجة وزاوية التناول، باعتبارها الأجدر على حياكة منظور الكاتب حول هذا التاريخ وتلك الذاكرة، ما يؤثر بدوره على كيفية توصيل الرسالة للقراء.
يمتد زمن الرواية عبر فترة تاريخية طويلة منذ فترة الاحتلال الألماني لمنطقة شرق أفريقيا وحتى نيل الاستقلال.. ما نوع البحث الذي أجريته لإضفاء مزيد من الروح والحيوية على هذه الفترة الزمنية الطويلة في رواية “ما بعد الحياة”؟ وهل كان هذا البحث مشابهاً لما قام به “إلياس”، بطل روايتك، في نهاية الأحداث؟
المكان الذي دارت فيه أحداث الرواية ليس بعيدًا عن موطن ولادتي، حيث ترعرعت بين قصص الحرب وتداول الروايات المختلفة حول هذه الحقبة الزمنية. لذلك كنت أمتلك، بالفعل، بعض الخبرات الشخصية الحية حول موضوع الرواية. وعلى الصعيد البحثي، لقد شكل “الاستعمار الأوروبي” مرتكزاً رئيسياً فى عملي الأكاديمي ومحاضراتي بالجامعة. بالفعل لى بعض الأوراق البحثية والقراءات الموسعة حول منطقة “شرق إفريقيا الألمانية”، ما عزز من فهمي لطبيعة وتحولات تلك الحقبة. على عكس “إلياس”، فلم أكن بحاجة إلى البحث فى الأرشيفات التاريخية أو مقابلة الناس لجمع التفاصيل والتقاط ذكرياتهم.. لقد نشأت فى قلب الحدث ذاته ولدي نصيبي من التجربة كـ “شاهد عيان”، فضلاً عن إكمالي مسيرتي العلمية في نفس الخط.
“ما بعد الحياة”.. قصة ترصد معاناة أجيال متعاقبة، حيث يعيش فيها العديد من الشخصيات نفس الظروف القاسية جراء الاستعمار والحرب ويتقاسمون نفس مشاعر الخسارة والفقد. ومع ذلك، لكل شخصية تركيبتها الفريدة التي تتبنى وجهات نظر وردود أفعال مختلفة إزاء هذه الظروف. هل كان أي من هذه الشخصيات مأخوذة عن أبطال حقيقيين؟ وما هي الشخصية الأكثر صعوبة في إعادة البناء أو التخيل؟
لم تكن أي من شخصيات الرواية مأخوذة على أناس حقيقيين. يمكنني التوليف الدائم ما بين الحقيقي والمُتخيَل، حيث أضيف جزءًا من شخصية إلى جزء من شخصية أخرى، ومن ثمة، أخلِق شخصية جديدة تقترب وتحاكي ما يدور فى ذهني. فأنا أعيش مع هذه الشخصيات لعدة أشهر أو سنوات أثناء عملية الكتابة، حتى تكتسب بمرور الوقت مصداقية الواقع وصلابة الحقيقة، فتبدو حقيقية وبها قدر كبير من الاكتفاء ذاتياً، ثم يكمل تتابُع الأحداث بناء وتعضيد وجودهم المُتخيل. وبمجرد أن يشرع أبطالي فى الحديث وينساب الحوار فيما بينهم، يتحقق ميلادهم الجديد الذي صنعته في مخيلتي بمزيج من بقايا الذاكرة.
هناك شخصيات أنثوية رائعة ومركبة في الرواية، مثل “آشا” و”عافية”. فعلى الرغم من حقيقة أن النساء في الفترة التي تدور فيها الرواية، تعرضن- أغلب الوقت- للتجاهل داخل مجتمعهن أو كان يُنظَر إليهن، فقط، على أنهن غير صالحات سوى للمنزل والزواج. لكنني شعرت أن طريقة كتابتك لشخصياتهن كانت أشبه بـ “توصية” أدبية تقول أن مثل هذا النوع من الشخصيات النسائية يمكن نسجها أدبياً – بشكل أكثر إيجابية – حتى لو تم تكييفها داخل فترات مختلفة تمامًا عن تلك التى نعيشها. أتعتقد أن الكُتاب، في وقتنا الحاضر، لم يعد بإمكانهم خلق مبررات للأقليات، فيما يفضلون الكتابة اليسيرة دون إبراز أقلية، وذلك بحسب الإطار الزمني الذي يتم فيه وضع القصة؟
من واقع خبرتي، لم يبد لي أنه يتم تجاهل المرأة كـ “تيمة” للكتابة. ومع ذلك، نجد أن بعض الكٌتاب تبنوا رؤى مختلفة حول المرأة، فقد جرى تمثيلها، في بعض الأحيان، كشخصيات لا يمتلكن صلاحية أو ليس لديهن طموح. وفي مواضع أخرى، يجري إظهارها كشخصية قوية، بصورة مبالغ فيها. وفي كلا الحالتين، أجد أن هذا الأمر متروكاً للقارئ إذا ما كان يقبل وجهة نظر الكاتب أو يرفضها، مهما كانت الأعذار التي يسوقها الكاتب ويبرر بها كينونة وشكل الشخصيات التى يرسمها داخل عمله الروائي. الإبداع عملية تبادلية مفتوحة لا حكر فيها على أحد.
لم تكن أي من شخصيات الرواية مأخوذة على أناس حقيقيين. يمكنني التوليف الدائم ما بين الحقيقي والمُتخيَل، حيث أضيف جزءًا من شخصية إلى جزء من شخصية أخرى، ومن ثمة، أخلِق شخصية جديدة تقترب وتحاكي ما يدور فى ذهني. فأنا أعيش مع هذه الشخصيات لعدة أشهر أو سنوات أثناء عملية الكتابة، حتى تكتسب بمرور الوقت مصداقية الواقع وصلابة الحقيقة.
“ما بعد الحياة”
رواية تمتلئ بالمغامرة وتهيئ القُراء للاشتباك مع قصص عايشتها أجيال متعاقبة، لكونها تدور داخل سياقات تاريخية و اجتماعية متعددة..
قصة ترصد معاناة أجيال متعاقبة، حيث يعيش فيها العديد من الشخصيات نفس الظروف القاسية جراء الاستعمار والحرب ويتقاسمون نفس مشاعر الخسارة والفقد. ومع ذلك، لكل شخصية تركيبتها الفريدة.
روايتك تمس العديد من المواضيع الحساسة التي يمكنها أن تُزعِج القُراء، مثل قرارات وأفعال “إلياس” (شقيق عافية)، إذ يقرر” إلياس” الانضمام إلى العسكريين، على الرغم من معارضة صديقه “خليفة” واحتجاجه على القتال إلى جانب الألمان. ونعلم أنه يريد عودة المستوطنات في نهاية الرواية. لقد أزحت الستار، بشكل مباشر، عن الدوافع الخفية وراء أفعال” إلياس” وآرائه؛ مثل نشأته مع الألمان. هل كانت هذه الدوافع كافية لتبرير تعاونه مع المستعمرين وقبوله لهم؟ وهل كان إفصاحك الكامل عن دوافعه بمثابة دعوة للقراء ربما لرؤية أشخاص حقيقيين مثله فى الواقع، من منظور أكثر دقة؟
نعلم أن معظم الجنود الذين قاتلوا وجرى استخدامهم في هذا الصراع كانوا أفارقة؛ بعضهم من السكان المحليين والبعض الآخر من أماكن أخرى بعيدة. تطوعوا، فى النهاية، للقتال كجنود مرتزقة إمبرياليين ضد الأفارقة الآخرين. بالطبع، كانت لديهم أسبابهم للانضمام؛ مثل: العمل بأجر، الوصول إلى مكانة تقربهم من السلطة، وأخيراً حب المغامرة. من خلال موقعنا في التاريخ، قد تبدو هذه الارتباطات غير مفهومة أو منطقية ولا تبرر أفعالهم. ولكن الأمر ليس كذلك، إذا نظرنا إلى السياق العام للأحداث. ففى النهاية، أرى أنه لا جدوى من الكتابة عن حدث تاريخي مثل هذا دون تعاطف أو فهم لدوافع ممثليه أيان ما كانت.لا أمارس دوراً تنظيرياً ولا أنصب نفسي قاضياً بيده ناصية الحكم على الأخرين. ولكن دوري ككاتب يلزمني بأخذ مسافة متساوية من كافة الأطراف، فأنا منوط بالتحليل دون انحياز أو تهوين.
“وقف خليفة لفترة من الوقت ينظر إلى نفسه، كيف صار نحيفًا ومنكمشًا على مشارف الموت، بينما كان قوياً وبطلاً في الحياة التى أدارت له ظهرها”.
فكرة “المرض” حاضرة، بقوة، فى الرواية، منذ البداية. تصوّر كتاباتك، ببراعة، ما يعنيه أن تكون مريضًا، بصورة قاسية، لدرجة أنني توحدت مع شخصياتك وانتابني الشعور بالألم الذي يشعرون به، من دقة التوصيف. هذا المقطع من الرواية، الذى تقول فيه: “وقف خليفة لفترة من الوقت ينظر إلى نفسه، كيف صار نحيفًا ومنكمشًا على مشارف الموت، بينما كان قوياً وبطلاً في الحياة التى أدارت له ظهرها”. لقد جعلتنا هذه الكلمات القليلة أن نرى كل ما يمكن أن يفعله المرض بشخص ما، بغض النظر عن مدى قوته و عنفوانه من قبل.. هل تميل إلى الإغراق في وصف المرض كـ “دليل” على وهن الحياة البشرية وإظهار مدى هشاشتها؟ وما دلالة هذه الفكرة، تحديداً، اتساقاً مع عنوان الرواية ؟
فى الواقع أنا أميل للكتابة عن الأمراض خلال تلك الحقبة، كى أعكس مدى تفشيها وكونها أحد الآثار المدمرة التى خلفتها الحروب وألقت بظلالها الثقيلة على كاهل المجتمعات.كذلك لإظهار مدى ضعف الناس وهشاشتهم أمام عواقب المرض، سواء كان مُستعمِر أو مُستعمَر، فالمرض خصم أبدي للانسان تطول يده الجميع دون تفريق. لكنني لم أختر عنوان روايتي من باب التعبير عن ذلك، وإنما يتعلق اختياري للاسم بالطريقة التى يستعيد بها الناس حياتهم وذكرياتهم بعد تعرضهم لـ “صدمة” عاصفة.. الأثر النفسي الذى يعيد صياغة كل شىء من جديد، حتى الذكرى تختلف ملامحها تحت وطأة هذه الصدمة.. وهذا بالتحديد ما رغبت فى التدليل عليه من اختياري للعنوان. ببساطة الحياة تتبدل فيما بعد الصدمات ولا تعود أبداً نفسها.. هذه العودة المغايرة ما أردت إيضاحها.
رغم أن الرواية تقوم، فى الأساس، على تيمات قاسية جداً، إلا أن “الحب” له حضوره اللافت داخل الأحداث. يبدو أن معظم الشخصيات رغم شقاءها، يربطهم جميعاً الحب والحنان، والمشاعر الإيجابية تجاة الأشياء وتجاة بعضهم البعض. فنجد قصة الحب بين “عافية” و”حمزة”، ارتباط “إلياس” الشديد بشقيقته “عافية”، فرحة “حمزة” بامتهان حرفة النجارة وميل ابنه لـ “رواية القصص”. لقد كان لكل شخصية من شخصيات الرواية شغفها الخاص.. فى رأيك، هل هذا الشغف هو ما يحافظ على استمرارية الشخصيات ويحفظ لها ثرائها داخل نسيج الرواية، رغم محنتهم وحالة العالم الرثة من حولهم؟
بالتاكيد أن “المودة والطيبة ونقاء القلب” من الأشياء التي تحافظ على استمرارية الحياة البشرية رغم كل ما تواجهه من صعوبات وما يعصف بها من عراقيل. بل أعتبر مثل هذه المشاعر هى أقيم الهدايا لتي يمكن أن نقدمها ونتبادلها في أصعب الأوقات.. لا نحتاج فى الأوقات العصبية سوى إلى مشاعر حقيقية ومؤآزرة من القلب حتى تهون الصعاب.
بصفتك مؤلف وكاتب أفريقي ذو خبرة، ما هي نصيحتك للمؤلفين الجدد والقادمين من القارة الأم بمختلف خلفياتهم التاريخية؟
نصيحتي التي لا أعرف سواها: “ألا يكفوا عن الكتابة والتعبير عن ذواتهم وإطلاق سراح ما بداخلهم”.
أجرى الحوار: صليحة حداد
المصدر: africaindialogue.com/2021/01/18
شيرين ماهر؛ مترجمة ومحررة صحفية من مصر