مرايا فنّيةمسرحُ أفلام

حوار مع المخرج الفلسطيني محمد جبالي.. لابد من التشبُث بالأمل  

طالما أننا نتنفس، سوف نبذل ما في وسعنا لمواصلة العيش والبقاء على قيد الحياة وبذل المزيد في سبيل حريتنا

حوار مع المخرج الفلسطيني محمد جبالي.. لا أستطيع إعادة بناء السينما إلا إذا أعدت بناء مدينتي غزة

أجرى الحوار: ضحى المُصدر (مؤسسة روزا لوكسمبورج الألمانية)؛ مايو 2024

ترجمة وتقديم: شيرين ماهر 

إن الحرب التي تجتاح غزة منذ أكتوبر الماضي تؤثر على كل فلسطيني، سواء في فلسطين أو إسرائيل أو مَن يقطنون في الشتات. الجميع يعرفون أشخاصًا أُصيِبوا، أو دُمِرت منازلهم، أو لقوا حتفهم.. المخرج الفلسطيني «محمد جبالي»، منتج وفنان فلسطيني من مدينة غزة، صنع لنفسه خطاً سينمائياً مفعماً بقصة بلاده، حيث مزج فيه الوثائقي بالدرامي، مٌحقِقاً بصمة خاصة في مجال صناعة السينما العالمية بالنرويج منذ أن التحق بها سنة 2014. قدم جبالي فيلمه الوثائقي الأول «إسعاف» في العديد من المهرجانات السينمائية الدولية الكبرى وحاز على العديد من الجوائز، من بينها جائزة (One World Media) كأحسن فيلم وثائقي طويل سنة 2010، وجائزة (FIPA) الذهبية وجائزة التحكيم عن أحسن وثائقي بمهرجان (FIPA)، فرنسا، 2017.  كما حصل على جائزة أفضل مخرج في مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية عن فيلمه الأخير «الحياة جميلة». وهو فيلم تسجيلي طويل يوثق رحلة أمل ونجاح لشاب من غزة يرمز إلى جيله.

وخلال زيارة محمد جبالي الأخيرة إلى برلين لعرض ومناقشة فيلمه «الحياة جميلة”»، أجرت مؤسسة روزا لوكسمبورج الألمانية هذا اللقاء معه للحديث عن الوضع الحالي في قطاع غزة واستقراء منظوره حول حاضر ومستقبل وطنه كمواطن ومخرج فلسطيني، حيث تحدث جبالي عن حزن وأحلام الفلسطينيين حول العالم..

***

*لقد شهدتم وعايشتم العديد من الهجمات الإسرائيلية على غزة. كيف كان الوضع بالنسبة لك هذه المرة؟

في الواقع، لم يكن من السهل عليّ منذ يوم مغادرتي أن أعيش بعيداً عن غزة، خاصة عندما أخطط لزيارة لن تستغرق أكثر من شهر، أعود بعدها إلى عائلتي وإلى وظيفتي وحياتي. لكن الأمر تحول فجأة وأصبح يشبه أحد أشكال النَفي القسري عندما أغُلقِت الحدود ولم أعد أتمكن من العودة إلى وطني مجدداً. وبمرور السنوات أصبح الأمر أكثر صعوبة، لأنه لم يكن من السهل أن أبدأ حياة جديدة دون أن أعرف كيف أو متى سأتمكن من الذهاب لرؤية أمي، أو دخول مدينتي مرة أخرى.

على مدار كل هذه السنوات، كلما حدث شيء ما في غزة، كلما انخلعت روحي في منفاي. لم يكن سهلاً سماع الأخبار والمضي قدمًا. قبل مغادرتي، كنت دائمًا في المقدمة كلما جد جديد في غزة. كنت أذهب دائمًا للتصوير والتأمل في واقعنا، لكنني الآن أصبحت أراقب عن بُعد ما يحدث مثل أي شخص آخر. ومع ذلك، فـأنا أحمل تجاربي داخلي حتى وإن كنت بعيداً عن الوطن. أعرف جيداً ما تشعر به عائلتي الآن، وكلما وجدتهم عُزّل وسط هذا الدمار والموت ولا أستطيع أن أكون معهم، يزداد الأمر سوءً وقسوة.

يختلف الأمر كثيراً عندما نعيش الموقف، وليس عندما نراقبه من مسافة بعيدة. السنوات الأخيرة لم تكن سهلة، خاصة هجوم مايو 2021. المرة الأولى التي عدت فيها إلى غزة كانت في نهاية يونيو 2021. عندما غادرت عام 2014، كانت غزة مدمرة، وعندما عُدت إليها، كانت أيضاً شِبه مُدمرة. من ذاق الحرب واختبرها أو كان من بين الناجين منها، يبقى لديه انطباع مختلف راسخ في وجدانه؛ وكأنه لا توجد فواصل زمنية بين كل انتفاضة وأخرى. لم يكن لدينا بالفعل أي فواصل في واقعنا المعيش. حتى الآن، عندما نسمع أصوات سيارات الإسعاف، فهي تُعطينا فقط تنبيهًا بالخطر. نحن نعيش في حالة تأهُب طوال الوقت.

هذه المرة، أشعر بفارق جوهري.. أشعر أننا ضائعون. لقد فقدنا كل ما أحببناه: كل ذكريات طفولتنا، والمدينة التي نشأنا فيها – لقد دُمِرَت بالكامل. لا أعرف ماذا أقول لأطفالي، إذا كان لدي أطفال في مرحلة ما من حياتي. كيف يمكنني أن أخبرهم عن شوارع مدينتي؟ حتى بيت جدي دُمِر. لا أعرف حتى إذا كان منزل عائلتي لا يزال قائماً.. عندما نتحدث مع الأصدقاء، لا يمكننا استيعاب كمية الأخبار السيئة التي تلقيناها خلال الأشهر السبعة الماضية. الوضع يُعطِل عواطفنا ونعجز حتى عن التعبير عما نشعر. عندما أتلقى مكالمة تفيد بوفاة شخص ما، لا أعرف كيف أرد. لا أستطيع البكاء. فقط أشعر بحزن ثقيل اختبره وحدي، ليس كالحزن الذي نعتاد الشعور به، وإنما حجر جاثي فوق أنفاسي يعيق حتى الأنين، لأنني تلقيت بالفعل الكثير من الصدمات.

*تعيش في مدينة ترومسو بالنرويج منذ عام 2014. كيف تصف الموقف العام في النرويج تجاه فلسطين؟

كانت هناك حركة تضامن كبيرة في جميع أنحاء النرويج، والتي بدأت مع لجنة فلسطين النرويجية التي تأسست عام 1969 لزيادة الوعي والإلمام بالوضع في الأراضي الفلسطينية المُحتلة والتأثير على النقاش العام. كانت الحركة تنمو وتزدهر في النرويج، وكان الناس يتظاهرون في الشوارع منذ فترة قبل بدء الحرب.

لذلك، دائمًا نرى الناس يساندون حقنا في الوجود ويدعموننا. وأود أن أقول إن هناك فهماً جيداً لواقعنا وقضيتنا كفلسطينيين. وهذا يمنحني الأمل في مستقبل أفضل، وأن العالم أصبح أكثر وعياً بنضالنا. وأود أن أدعو العالم كله للانضمام إلى حركة التضامن العالمية هذه لتوحيد نضالاتنا، حتى نتمكن من العيش في أرض حرة بحقوق متساوية.

*باعتبارك مخرج أفلام عملت على توثيق النضال الفلسطيني في غزة أثناء الهجمات كما في فيلمك «سيارة إسعاف»، وأيضًا خارج غزة في فيلمك الأخير «الحياة جميلة»، ما هو دور الفن، وخاصة السينما، في تعزيز السرديات الفلسطينية؟

نحن نقول: إذا أردت أن تعرف مجتمعاً، فانظر إلى فنه وثقافته. وعندما ننظر إلى حاضرنا اليوم، الذي تعرض للضرر والدمار بسبب ممارسات الإبادة الجماعية التي تجري في غزة خلال الأشهر السبعة الماضية، نرى أن جميع الفنانين الذين كانوا يؤسسون فنهم خطوة تلو الأخرى، قد شهدوا بأنفسهم حرق استوديوهاتهم والهجوم عليها.

بالطبع، بوصفنا فنانين نعيش في الشتات وفي جميع أنحاء العالم، أعتقد أن دورنا أكثر أهمية. يبحث الناس بالفعل عن الفن ليعرفوا المزيد من خلال مشاهدة الأفلام، أو من خلال معالجة القضية بطريقة جديدة و/أو شرحها لهم بطريقة أكثر قُرباً – في حالتي، صناعة الأفلام هي فن بناء قصة شديدة القُرب تجعل العالم يستوعب نضالي ونضالنا الفلسطيني.

عندما ننظر إلى غزة اليوم، ترادوني الرغبة في الحديث عن تاريخ كامل تم طمسه وتحطيمه. إذا نظرنا إلى المباني التاريخية التي دُمِرَت، مثل قصر الباشا، سنجد إنه، في الأساس، لم يتبقى لنا شيء. لكنني سأظل أقول، إن الأمل كلمة حاسمة في تأثيرها ووقعها. أعتقد أنه من المهم الإصرار على التشبُث بالأمل مهما حدث، سنعيش وسننجو، وسنكون قادرين على خلق المزيد وإعادة بناء ما تم تدميره.

*تستخدم في أفلامك أرشيفاً عائلياً ولقطات من مدينة غزة أثناء الهجمات الإسرائيلية، وأيضًا من أوقات “«السلم» مع الأصدقاء. ماذا يعني لك هذا الآن، كلما عاودت النظر إليه مرة أخرى؟

هذه الذكريات والصور، تساعدني على أن أظل أتذكر مدينتي دائمًا. وكما نعلم فإن الذكريات لن تموت أبداً، خاصة إذا قمنا بتوثيقها. وهذا ما فعلته خلال السنوات الماضية. تمكنت من توثيق مدينتي بأكملها حتى من خلال لقطات الهاتف المحمول. كل هذه الذكريات تلعب الآن دورًا مهمًا في إعادة بنائها واستعادتها وإخبار العالم بجمال مدينتنا والأمل الذي عشنا من أجله وسنظل.

لكن للأسف، ننظر اليوم إلى الحاضر الذي يتم سحقه. كيف يمكننا أن ننظر إلى المستقبل إذا تعرض حاضرنا للضرر أو الدمار؟ ومع ذلك، هناك دائمًا أمل في أن نستفيق من هذا الكابوس وينبلج فجر يوم جديد وواقع جديد نأمل أن يولد من رحم هذا التضامن والوعي في جميع أنحاء العالم. الفاتورة بالطبع باهظة للغاية، لكننا نشهد اليوم كيف يتفاعل العالم ويتحرك نحو حريتنا. لقد أدى الدمار الذي حدث في غزة إلى زيادة وعي العام بنضالنا المستمر منذ 76 عاما. وطالما أننا نتنفس وما زلنا على قيد الحياة، سوف نبذل ما في وسعنا لمواصلة العيش والبقاء على قيد الحياة وبذل المزيد في سبيل حريتنا.

*ما الذي تأمل في العمل عليه مُستقبلاً؟

أحلم بتأسيس «وحدة» مخصصة لأفلام غزة تحت رعاية مؤسسة السينما الفلسطينية. لقد عملت في المعهد خلال السنوات القليلة الماضية، حيث أدرت مركزًا للأفلام الوثائقية هناك. نحن لنا حضور ومشاركات في مهرجانات حول العالم، وسيكون لدينا وفد إلى مهرجان كان وإلى شيفيلد. سيكون لدينا عرض في شهر مايو، ومن ثم سنطلق وحدة أفلام غزة. سنقوم أيضًا بمساعدة صانعي الأفلام على الأرض في جميع أنحاء العالم الذين يحتاجون إلى المشاهدة، بما في ذلك الفلسطينيين من غزة، لدعم قصصهم ومنحهم دَفعة عبر هذه المنصة الدولية. أحلم بإعادة بناء السينما في غزة. حتى أنني حصلت على موافقة بلدية غزة لتجديد السينما في مركز هولست الثقافي. لكنني اليوم، لا أستطيع إعادة بناء السينما إلا إذا أعدت بناء مدينتي. لذا، سنعيد بناء مدينتنا أولاً، ومن ثم السينما.

***

حوار مع المخرج الفلسطيني محمد جبالي.. لابد من التشبُث بالأمل؛ ترجمة وتقديم: شيرين ماهر

شيرين ماهر؛ مترجمة ومحررة صحفية من مصر

غزة

خاص قنّاص – سينما

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى