محمود عبدالغني في رواية «الجولة الأولى من مؤتمر الرياح»
تعيد رواية «الجولة الأولى من مؤتمر الرياح» أحداث واقعة مقتل شاب بمدينة الحسيمة بشمال المغرب بطريقة بشعة وغير إنسانية بطحن جسده بحاوية للأزبال بعد ارتمائه داخلها وهو يتبع أسماكه التي تم الحجز عليها من طرف سلطات المدينة. الحادثة الأليمة التي تركت أثرها الكبير في نفوس الجميع، وتركت هزة نفسية وانعدام ثقة داخل الأوساط الشعبية لسنوات. الحادثة التي جعلت مدينة الحسيمة تتبوأ الشهرة عالميًا وتحظى بالاهتمام على جميع المستويات؛ بل خلقت حركية سياسية وشعبية واجتماعية عادت إليها بالكثير من المنافع على المستوى التنموي والاقتصادي.
تعددت زوايا الرؤية لدى الروائي محمود عبدالغني حيث تعدُ عنصرًا مختلفًا من عناصر تعدد وجهات النظر والمواقف من الحادثة ومن باقي أحداث الرواية الأخرى؛ هذا فضلًا عن كل ما يستدعيه من مواقف إنسانية ووقائع شديدة الحساسية من أجل التعبير عن لحظات معينة واقعية أو متخيلة. كل هذا يخدم رؤية الروائي في تقديم الفضاء الروائي وفق نظرة فكرية وأدبية تمنحه رمزيته القوية في احتضان الأحداث والشخصيات والتفاعل معها.
يحتضن الفضاء الروائي العديد من العلاقات الإنسانية داخل المجتمع، كما يستقبل شبكة علاقات واسعة تتعزز معها الأحداث والمواقف بين شخصيات الرواية وفق رؤية الروائي الفكرية والأدبية والجمالية التي ينطلق منها قبل كتابة نصه أو أثناء كتابته أيضًا. وفي هذا الإطار، تتعدد دلالات الفضاء الروائي داخل النص، حيث يستقطب تأويلات متعددة تؤسس لرؤى نقدية مختلفة من حيث الفهم والتحليل؛ إذ يصير الفضاء إطارًا مكانيًا يمنح هوية للشخصيات والتعبير عنها وعن هوية الكاتب الروائي؛ حيث إن “الحياة الإنسانية خلاصة الظروف والبيئة المحيطة، والتاريخ، والعادات، والتقاليد، والأعراف. ونتيجة ذلك نجد الكثير من الكتاب يحاولون من خلال المكان التعبير عن تمسكهم بهويتهم، لاسيما إذا كانوا ممن يعانون أصلًا بسبب تلك الهوية، كأن يكونوا مقيمين بصورة قسرية، أو اختيارية، خارج المكان الذي عرفوه، وألفوه، وأحبوه، فتراهم دائمي الحنين، والتوق إلى ذلك المكان يصورونه فيما يكتبون، ويتلذذون بذكره، وذكر ما يتصف به من صفات تشير إلى ما يؤمنون به، ويفضلونه على غيره[1].
إن الوقوف على رمزية الفضاء الروائي في رواية “الجولة الأولى من مؤتمر الرياح” يقتضي منا التدقيق في كل التجليات والتفاصيل التي دفعت الروائي محمود عبدالغني توظيف هذا العنصر ودلالاته المتعددة، باعتباره عنصرًا أساسيًا في النص الروائي، وكونه استراتيجية تساعد في الوصول إلى المعنى وإدراكه دلاليًا وفهمه أكثر في إطار حضوره التركيبي والدلالي العام داخل النص. حيث يتم الاعتماد عليه بشكل متفاوت في الرواية من حيث التوظيف ومن حيث ارتباطه بالشخصيات وتشخيصه داخل أحداثها يوهم بوقوعها أو احتمالية وقوعها داخل الفضاء بشكل أو بآخر.
يكتسب المكان في النص أهمية باعتباره فضاء تتحرك فيه الأحداث والشخصيات بشكل دينامي وتفاعلي؛ خاصة عند استحضار فضاءات مدينة الحسيمة التي تعتبر البؤرة الأساسية لهذا الفضاء الروائي داخل النص، والمجال الأرحب والشاسع لاحتواء الأحداث والشخصيات بشكل كبير يؤكد تعدد العلاقات وتحرك الفاعلين فيها. فمدينة الحسيمة باعتبارها الفضاء الواسع والفسيح الذي يضم كل الأشكال الحياتية والأحداث الأساسية يشكل ملاذًا للتحرر لدى البعض، ومكانًا للتواري عن الأنظار والابتعاد عن الملاحظات لدى البعض الآخر. بل يمثل في الوقت نفسه لكل هؤلاء معًا، رحلة ممزوجة بالحزن والألم والذكريات التي ترافقه في حله وترحاله.
لدى محمود عبدالغني رغبة واضحة في عدم تشويه صورة المدينة، حيث لم يقدمها فضاء للموت والعنف والخوف، بل أعطاها صورة حضارية ثقافية منذ اللحظة الأولى، رغم وقوع جريمة طحن الشاب بائع السمك. لقد بدت الحسيمة في الرواية مدينة للأمل والحب والطمأنينة يتعايش فيها الجميع في إطار عقد اجتماعي يعزز الصورة الحضارية لسكانها وأهلها الطيبين الذين يتوارثون الجوهر العفوي ويحافظون عليه؛ فطيورها تحلق منخفضة وأهلها يأكلون السمك دون أن يسألوا عن أثمانه الباهظة، وكل فرد فيها أصبح يعتبر نفسه سيدًا ينجو من الموت بعد مغامرته في قوارب الموت يعيش فيها دون مفاجآت لأنها “اختصرت كل المدن، وابتلعت عواصم أسطورية في جوفها، دلت عليها وأحالت على ما يتجاوزها. هكذا أتاح لها الله فرصة أن تصبح كل شيء، ولو لفترة زمنية قصيرة”[2].
إن الحسيمة الرمز، المدينة الآهلة بالطيبين الذين وإن تألمت قلوبهم، يمكنها أن تلتئم بسرعة لأنها لا تكف عن العطاء. لقد تعرضت لزلزال مدمر قبل سنوات عديدة، لكنها تجاوزت كل مخلفاته ونتائجه المدمرة للعمران والأذهان والأنفس؛ لأنها عصية على السقوط النهائي؛ ففي كل سقوط نراها تخرج سالمة قوية بعمرانها وأهلها وجبالها المحيطة بها والواقفة بصمود وتحدٍّ كبير كناسها، شامخة في عنفوانها تمثل الإنسان المغربي الأمازيغي الحر الأبي الصابر لا يتزحزح من مكانه ووطنه مهما تعرض له من ظلم وطغيان واحتلال غاشم.
ورغم الغربة التي يعاني منها بعض أهلها المغتربين في بلدان أوربا من أجل لقمة العيش، فإنها تظل في قلوبهم رمزًا للتعلق والرابطة المكانية الأليفة التي لا يمكنهم نسيانها؛ وأكبر مثال على هذا هي تلك اللهفة التي تبرز عليهم وهم عائدون إلى أرض الوطن، إلى المدينة الأم التي تجمعهم وتعيد إحياء ذاكرتهم الطفولية والشبابية وخاصة عند الرعيل الأول والثاني من المهاجرين. ففيها يشعرون بالدفء والحركة والأمان النفسي والعاطفي والنشاط والتسامح والتعايش والهدوء: “لم أعدْ أسمع شيئًا عن الحسيمة، تبدو هادئة، هل هي حقًّا هادئة؟”[3].
هدوء المدينة عنوان لهدوء ناسها الذين يتصفون بالبساطة والعنفوان والحيوية المتدفقة في العمل والنشاط؛ مدينة ساحرة تعيد سيرة مدن المغرب التاريخية وعظمتها وقدرتها على الحفاظ على تاريخها وتراثها العظيم. أما روحها المجروحة التي أصابها العنف في لحظة معينة كان أهلها غافلين، خائفين من الحاضر والمستقبل، فاقدين للثقة في كل شيء وفي كل سلطة، فقد تعرضت للألم في وقت قصير سرعان ما تجاوزته ونسيته لتعود الحسيمة فضاء للأمل، مدينة للحب والطمأنينة والهدوء المعهود عليها منذ زمان بعيد. “روح الحسيمة المجروحة هناك في أعلى غصن أو أبعد. ربما حتى روح حسن بائع السمك تقبع هناك وتشرف على كل شيء. جعل من نفسه نقطة بعيدة ليكون الأقوى من هذه الكائنات البائسة التي تتحرك ببطء، تبكي وتتألم وتبوح بشكواها لأي شيء تجده أمامها، حتى لو كان حجرًا أو رصيفًا”[4].
تتيح لنا رواية “الجولة الأولى من مؤتمر الرياح” الفرصة للتفكير في المكان وتفاعل الشخصيات داخله وتعبيرها عن أعماقها وأسرارها ومشاعرها تجاه الأشياء والعالم، ونظرتها للحياة وكيفية التعاطي معها وفق رؤية خاصة بكل فرد على حدة داخل مجتمع متنوع ومتعدد التقاليد والعادات والثقافات واللغة كالمجتمع المغربي. كل هذا ينعكس على الوعي الفردي والجماعي داخل المجتمع، وبالتالي لدى القارئ الذي يتعاطى مع النص الروائي بمنطق المؤول والناقد المحلل الذي يعتقد أنه أمام نص نقدي ومتشكل وفق رؤية نقدية للروائي. إننا أمام نص روائي يتحدث عن هموم المجتمع المغربي المصغر والمكبر، المصغر في شكل جماعة معينة أو مدينة أو حتى حي سكني، والمكبر من خلال الوطن/ البلاد ككل وقضايا الشعب المغربي جميعه.
المراجع والهوامش
[1]– إبراهيم خليل، بنية النص الروائي، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط. 1، 2010، ص. 141.
[2] – محمود عبدالغني، الجولة الأولى من مؤتمر الرياح، دار خطوط للنشر والتوزيع، عمان، ط. 1، 2020، ص. 72.
[3] – محمود عبدالغني، الرواية، ص. 187.
[4] – الرواية، ص. 158.
عزيز العرباوي؛ كاتب وناقد مغربي