أهوى الهوى كتابمكتبة بورخيس

«شعراء السمو والضلال والخلود» في ضيافة أسعد الجبوري | سلوى عباس

كنت دائم البحث عن المختلف، عن الآخر غير المكتشَف أو المكشوف، عبر السبر في باطن تراب الآداب والفنون، لإعادة اكتشاف رموز الشعر في العالم، والعمل على تأهيلهم من أجل العودة للأرض ثانية

أسعد الجبوري وبريد السماء الافتراضي يستضيفان «شعراء السمو والضلالة والخلود»

«موسوعة بريد السماء الافتراضي» مشروع أدبي متفرد للشاعر العراقي أسعد الجبوري، بدأه قبل سنوات يستضيف فيه شعراء موتى، يستحضر تجاربهم الشعرية والحياتية عبر بوحهم الذاتي الذي سكبوه على ضفاف شغفهم بالقصيدة، يطرح عليهم أسئلة عن الحب والجمال والموت والحياة، وهذه الأسئلة مجتمعة هي روح الفكر والعلم والأدب، روح الوعي المتفائل الذي يكشف تناقضاتنا فيدفعنا إلى الضحك والبكاء معاً، ويحفز عقولنا على البحث عن النهايات المعقولة لما يحدث وبخسائر أقل.

تتواصل إنجازات الشاعر أسعد الجبوري في هذه الموسوعة فبعد كتاب «شعراء نائمون في غرف الغيب»، و«شعراء برائحة الكآبة والجنس والانتحار»، و«شعراء خارج موسوعة العدم»، و«شعراء ما بعد الورق»، و«شعراء بنسخ منقحة»، يستكمل الشاعر حواراته الافتراضية مع مجموعة أخرى من الشعراء، في كتابه الصادر عن دار الينابيع بدمشق تحت عنوان «شعراء السمو والضلالة والخلود»، حيث نتعرف في هذا الكتاب على تجارب الشعراء (ابن الفارض، فرناندو بيسوا، نجيب سرور، تشارلز بوكوفسكي، أحمد بركات، والاس ستيفنز، تيسير سبول، اليزابيث بيشوب، أمجد ناصر، جورج شحادة، دنيس بروتوس، مارك ستراند، معين بسيسو، جوزيف برودسكي، جان جينيه، زينادا غيبيوس، محمد حسين هيثم، يفغيني يفتوشينكو، ممدوح عدوان، وأوجين غييفيك). إنها حواريات جمالية تغوص في أعماق الشخصيات الشعرية الراحلة، تسعى إلى سبر العوالم الشعرية لهؤلاء المبدعين،  إذ يدمج حيوات الشعراء بما قيل عن أعمالهم من قبل نقاد عصرهم، أو في عصور لاحقة، حوارات فيها صور شعرية كثيفة وثقافة عالية تحتفي بالشعر والشعراء.

وعن اندلاع الفكرة الأولى لحواراته الشعرية، يتحدث أسعد الجبوري قائلاً: «كنت دائم البحث عن المختلف، عن الآخر غير المكتشَف أو المكشوف، عبر السبر في باطن تراب الآداب والفنون، وكذلك ما فوق الأرض بالضبط، فكان وصلي إلى نفسي في النقطة المركز أو اللحظة الحرجة في محور إعادة اكتشاف رموز الشعر في العالم، والعمل على تأهيلهم من أجل العودة للأرض ثانية».

وإذا اعتمدنا مقولة الروائي الأمريكي أرنست همنغواي عن العزلة بأنها «وطن للأرواح المتعبة» حيث أن إنسانا عارفا في مجتمع بدائي متخلف، في مدينة لها قوانينها التي لا يمكنه الانسجام معها تؤدي لهذه الغربة، وتبقى وقود كتاباته، وربما هي وقود حياته برمتها، في محرابها  فقط يتنفس الأديب والمثقف ويروي مشاهداته، وحكاياته، وسيرة أحلامه، فإننا نرى السؤال عن العزلة يتردد في حوارات الجبوري مع أكثر من شاعر فنتوقف عند أجوبة «ابن الفارض» عن العزلة إذ يقول: «هي منزل من منازل السموات، وكنت هائماً بها وقتما وقع عليّ قدري، وقيمة العزلة فيما تنتج، وفيما تصير نصوصاً عابرة للأنفس والجغرافيات وللمدارس التي يتدرب فيها الناس على النسيان، بينما يراها الشاعر أمجد ناصر صاحب كتاب «رعاة العزلة»: «جرأة لتعميق وجود المخلوق داخل المباني المشفرة في الذات، وليست مكاناً منعزلاً بين حيطان أربعة وسقف».

ويجيب الشاعر فيرناندو بيسوا عن سؤال الجبوري إذا كان قد تشبع بالعزلة من خلال الفلسفة وحدها أم اعتبرها جسراً يوصله بالعالم الفردوسي الآخر، فيقول: «ليس بالضرورة أن يؤدي الخروج من الجحيم إلى ما يوصف بالجنة، ثمة احتكاك عنيف ما بين الاثنين في صالونات الرأس لذلك ترى نزلاء النار الافتراضية وهم يقومون بعيادة أهل الفردوس كما أظن، فالعزلة الثانية قد لا تكون شبيهة بالعزلة الأرضية تماماً، لأن أجسادنا تتطور هناك»، وفي سؤاله له عن ما بعد الموت حيث تتفكك الأجساد لتأخذ أشكالاً أخرى يجيبه بيسوا: «لم أشعر أن الموت استعمرني إلى ذلك الحد الذي استعمرتني فيه الآلام، وبعبارة أدق لقد مشت سعادتي الشخصية على لغم، وانتهى أمرها إلى الزوال، بعد افتراس الديناميت لها»، فيما نتوقف عند قراءة مختلفة للموت لدى الشاعر جوزيف برودسكي إذ يراه «مجموعة أقنعة تتعايش معنا على الدوام، ولكنه عادة ما يفضل السهر بعيداً عن المدافن، لذلك تراه ينتزع الجميل والجميلات من تحت التراب ويذهب بالموتى إلى حاناته المحصنة بالملائكيين والمصابيح السحرية».

وعن علاقة الشاعر بالجحيم وتغييب الفراديس، يجيب جورج شحادة قائلاً: «لأن لا نضوج للشعر إلا تحت تأثير الحرارة العالية، فقد يعرقل برد الفراديس البناء الروحي للغة الشعرية في النصوص»، وفي سؤاله لممدوح عدوان عن التمرد في تجربته الشعرية يجيب عدوان: «كنت أحب الاقتراب من حافة الجحيم، فما كان يهمني هو الاكتشاف، هي المعرفة، هو فعل تحطيم الشرنقة، لا التأقلم والتقوقع والاستسلام للقدر الذي فرضته علينا أمّنا الطبيعة وأمراضُها المتعددة المختلفة الصامتة منها والصارخة».

وفي سؤاله للشاعر الجنوب أفريقي دينس بروتوس متى تصبح كلمة الشاعر أو الكاتب الإفريقي بمثابة سلاح يجيب بروتوس: «بمجرد أن يستخدم دم الشمس حبراً ويكتب عن مختارات فلزات الكائنات السوداء التي منحت البيض الأفضلية بالاستقرار على الأرض واحتلالها كمنازل يضاف إليها ملايين العبيد في طاقم الخدمة»، وعن لون الدم في الجسد الافريقي يضيف بروتوس: «دم الافريقي مشتق من قوس قزح كل لحظة بلون ويتعايش مع حركة الغيم والرياح وسقوط المطر».

ويقتحم الشاعر الجبوري حياة الشاعر معين بسيسو ليسأله كيف قابله الموت وفيما إذا كان سلب منه الروح بطريقة مختلفة عن الآخرين فيجيب بسيسو: «مهما كان شكل القبض على الروح واستلابها، فذلك ليس مهماً بقدر ما كان الموت صوتاً أتاني واحتواني، ذلك الصوت الذي غلّفني مثل كتاب ثم دفع بي إلى مطابع العدم، ذلك الصوت كان تناغمياً، يدخل الجسد بعد أن يحطم سلالمه الموسيقية، فتصبح الروح نوتة ضيقة وتضيق حتى تصبح نقطة سرعان ما تنفجر فلا تكون في المكان ولا في الزمان».

وفي سؤال الجبوري للشاعرة اليزابيث بيشوب عن برجها تجيبه: «الرحم»، لأنه من وجهة نظرها هو البرج الأعظم الذي يستوفي شروط الانتماء إليه من قبل ملايين البشر، ولأن الرحم هو مكان التدوين الأول لتواريخ المواليد المعذبين، أو أولئك الذين تنتظرهم الكوارث والمصاعب في خزائن المستقبل المفتوح».

ويرى الشاعر خزعل الماجدي عبر تقديمه لهذا الكتاب أن «هذه الحوارات تستدرج الشعراء الموتى إلى الحياة مرة أخرى وتسألهم عن عالمهم الذي هم فيه، فهي تذهب الى ناصيتهم البعيدة، تعيد إليهم الحيوية بكؤوس من النبيذ وتُسكرهم وتجعلهم يبوحون من جديد»، ذلك أن «ابتكار طرازٍ أدبيّ، في هذا الزمان، ليس بالأمر الهيّن، وبريد السماء الافتراضي طراز مميز، ينتمي إجمالاً إلى فانتازيا الأدب، لكنه مربوط بجذور تصله بالعالم الواقعي، فالأسماء التي يسعى للحوار معها موجودة في الماضي القريب أو البعيد، ولهؤلاء آراء واضحة أو مضمرة في جوانب شتى من جوانب الحياة والثقافة. لكنها تأتي هذه المرة عبر سياط بريد البرق».

*****

سلوى عباس؛ كاتبة وإعلامية سورية

خاص قنّاص – أهوى الهوى كتاب

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى