مرآة الضوءموسيقا

أم كلثوم التي لم تمت في الوجدان العربي | شيماء اليوسف

صحيح أنني أنتمي إلى جيل لم يعش زمنها، لكنني أراها كالأهرامات، لا تهزها الرياح، ولا يمحوها الزمن

عرفت أم كلثوم في طفولتي، حين كان صوتها يضيء أركان المنزل كل مساء، متسللًا من مذياع مقهى شعبي مجاور. هناك، على نغمات سيرة الحب، كان عم سعيد، القهوجي البسيط، يدندن معها وكأنها تعرفه ويعرفها. متذوقاً لفنها، بإحساس نادر، وبين سيرة أبو زيد الهلالي، ومواويل مكرم مطرب الجماهير في صعيد مصر، ومدائح الشيخ ياسين التهامي، لم يكن في كاسيت مقهاه إلا شرائط أم كلثوم، وكأنها الصوت الوحيد القادر على موازنة الحياة في زحام الواقع.

أم كلثوم في الوجدان المصري

كبرتُ وأنا أؤمن بأن السيدة ذات الصوت الشجي لم تمت. كنت أسمعها كل صباح في الراديو مع جدي، أرى صورتها معلقة في كل مدينة، وأردد أغنياتها في طريقي إلى المدرسة. حتى جاءت لحظة الصدمة، حين سمعت لأول مرة عن ذكرى رحيلها. لكنها، رغم ذلك، لم تغب عن منزلنا، ولا عن الشوارع، ولا عن وجدان المصريين. أم كلثوم لم تمت، لأنها ببساطة أكبر من الزمن.

كما يحكي الشاعر السوري محي الديني اللاذقاني، في كتابه الأنثى مصباح الكون، عن رحلته الأولى إلى القاهرة، قادمًا من الجزائر، ليشهد لحظة تاريخية فارقة: تشييع جنازة السيدة أم كلثوم. في ذلك اليوم، بدت الجموع المحتشدة خلف نعشها وكأنها تسير في وداع ليس لفنانة فحسب، بل لحقبة كاملة من الوجدان العربي. الأكتاف تتلاحم في مشهد مهيب، والمشيعون يتدافعون بحماس يشي بأنهم لا يودعون جسدها فقط، بل يتصرفون وكأن العالم بأسره قد انتهى برحيلها. لكنها في الوجدان المصري لم تمت.

مقاهي أم كلثوم في القاهرة

يدهشك ديكور مقهى أم كلثوم في شارع عرابي بوسط القاهرة، حيث تزين جدرانه صور وتماثيل كوكب الشرق بعناية أنيقة، فيما تصدح أغنياتها في الأرجاء طوال اليوم. وفي شارع الألفي، تتدلى صور نادرة لصاحبة المنديل الوردي داخل مقهى أم كلثوم، الذي أصبح مجلسًا لعشاقها ومحبّي فنها.

وفي كتابه شوارع لها تاريخ (1997)، يروي المؤرخ المصري عباس الطرابيلي عن مقاهي شارع عماد الدين، التي كانت ملتقى لعشاق الطاولة، الدومينو، والشطرنج. لم يكن صوت أم كلثوم هناك مجرد خلفية موسيقية للترفيه، بل كان طقسًا ثقافيًا متجذرًا في وجدان روّاد هذه المقاهي، يُضفي على المكان روحًا خاصة، حيث تجتمع الأصالة والتقاليد في لحظات من الإنصات العميق لصوتها، وكأن حضورها الغنائي طقس يومي لا يكتمل المشهد من دونه.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فهناك مقاهٍ أخرى في القاهرة استلهمت أسماءها من أغانيها، مثل مقهى الأطلال، أو من ألقابها، مثل مقهى كوكب الشرق. وعلى جدران الأزقة الشعبية، ينقش الفنانون صورها، رمزًا خالدًا يعبر عن جوهر الفن المصري، في انعكاس واضح لمدى تأثيرها العميق على الوجدان المصري.

لذلك فإن صوت أم كلثوم يشبه القاهرة، عاصمة عريقة، شامخة، مزدحمة، لكنها آسرة حد الغرام. كذلك هو صوتها: صاخب، ممتلئ بالطرب، قد يبدو بعيد كلياً عن إيقاع الجيل السريع. ومع ذلك فهذه الأجيال تقدر رمزية أم كلثوم الفنية، الصوت الذي يحمل ملامح المصريين في كبريائهم وكرامتهم، في صمودهم وشموخهم. وحين تغني: «أنا إن قدّر الإله مماتي… لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي»، فهي لا تصف نفسها فقط، بل تصف مصر، التي حملت على أكتافها معاناة الأوطان العربية، وظلت واقفة رغم كل العواصف.

لا يشيخ صوت أم كلثوم، فهو صوت عتيق، تمامًا كالقاهرة وتاريخها، وصوت صامد، كصبر وصمود المصريين في وجه المحن والحروب الطويلة. فلماذا لا تغيب؟ ولماذا تبقى حاضرة رغم الغياب؟ ربما لأن بعض الأصوات لا تنطفئ، بل تصبح جزءًا من الزمن نفسه.

صوت أم كلثوم نشيد الشعب

على مدى نصف قرن مضت، لم تشهد أجيال جديدة أم كلثوم على المسرح، ولم تنقطع عن مشاغلها لحضور حفلاتها الشهرية، ورغم ذلك، وقعت في حبها كما لو كانت تعيش عصرها الذهبي. هذه الظاهرة الفنية الاستثنائية لم تكن مجرد صوت عابر، بل صنعت أحلام المصريين في أزمنة مثقلة بالقهر والكبت والعزلة، حيث خيمت سحب الحرب على الواقع. بصوتها، أنست وحدتهم، جسدت آمالهم، وعبّرت عن مشاعرهم المكبوتة، حتى أصبح صوتها النشيد الوطني غير المعلن لوجدانهم اليومي.

لم يكن اختيار أم كلثوم لكلمات أغانيها عشوائيًا، بل كان انتقاءً مدروسًا لنصوص طويلة الأجل، تلامس القلوب وتعيش مع العشاق، تكبر معهم، يشيبون ولا تشيخ أغانيها، بل تظل تنبض بالحياة، تنتقل من جيل إلى جيل كميراث ثقافي خالد داخل الشارع المصري. وكلما وطأت أقدام زائر أرض المحروسة، استشعر تلك الهالة المقدسة التي تحيط بسيدة الغناء العربي في وجدان الشارع المصري نفسه.

تحولت أم كلثوم من مطربة بصوت متفرّد، إلى راهبة في محراب الفن، كرّست حياتها له، فعاش فنها أبديًا كما أرادت. ويقول محمد عوض، عالم الجغرافيا المصري وآخر وزير لوزارة المعارف (المعروفة اليوم بوزارة التربية والتعليم)، في كتابه أم كلثوم: سيرة الحب، إن الكثيرين حاولوا كشف سر عظمة أم كلثوم وتفرّدها كمطربة أسطورية خالدة في وجدان الشارع المصري، لكنهم أرهقوا أنفسهم في البحث دون الوصول إلى إجابة قاطعة.

ما هو سر خلود صوت أم كلثوم؟

ذهب البعض إلى اعتبار صوتها الفذ هو سر خلودها، بينما يعزو آخرون مجدها إلى الملحنين والشعراء الذين رافقوها في مسيرتها. لكن الحقيقة أن الإحساس الذي يصل إلى المستمع لا تصنعه الكلمة وحدها، ولا يُبدعه اللحن بمفرده. بل هو مزيج فريد من الصوت، واللحن، والكلمة، وشخصية أم كلثوم نفسها، وهو ما جعل منها أسطورة لا تتكرر.

غدت أم كلثوم، بصوتها الذي لا يعرف الموت، كظاهرة طربية أثرت الحياة الغنائية كنخلة باسقة على ضفاف النيل، غذّتها الأرض وسقتها من ماء الشعب، فكبرت وتمددت، وظلّت ثمارها يانعة، حتى وإن غاب الجسد.

كانت تغني كما لو كانت تحلم، تنبض كلماتها بنبض قلبها. حينما تقول «سافر حبيبي»، فهي لا تؤدي لحنًا فحسب، بل تعيش لحظة الفراق وكأنها فقدت حبيبًا حقيقيًا، وتركتها الوحدة نهبًا للألم. هذا الإحساس الذي ينتقل للجمهور هو شعورها الحقيقي النابع من نفس صادقة في عطائها للكلمة واللحن والجمهور الذي يترك الدنيا خلفه وينتظر حفلها، وحينما كانت طفلة، سحرت الجمهور بعذوبة صوتها وقوته، لكن سرّ خلودها لم يكن صوتها وحده، بل قدرتها على فهم الناس، احترام ذوقهم، وتلبية احتياجاتهم الروحية والشعورية. وهكذا، صارت شمسًا لا تغيب عن سمائهم حتى هذه اللحظة.

أم كلثوم في الوجدان العربي

لا تعد أم كلثوم مجرد متعة سماعية، بل إلهامًا بصريًا أيضًا، تجاوز حدود الموسيقى ليجد طريقه إلى الفنون الأخرى. أدرك ذلك الفنان التشكيلي العراقي علي حسين الودي، الذي حول كلمات أغانيها إلى لوحات نابضة بالحياة، مسجّلة في كتابه أغاني أم كلثوم في لوحات فنية. كان صوتها رفيقًا دائمًا له، في غرفته، في مرسمه، وحتى في أسفاره، فهو يرى في أغانيها أنها ليست مجرد ألحان وكلمات، بل ألوانًا وانفعالات تجسدت على القماش.

اختار أن ينسج كلماتها بالألوان، مقرونة بأسماء ملحنيها وشعرائها، كتقدير منه لأثرها العميق على ذائقته التشكيلية والموسيقية. لم يكن وحده في هذا الشعور، ففنانين من مختلف المجالات—من الرسم إلى السينما، ومن الأدب إلى المسرح، وجدوا في أم كلثوم مصدر إلهام خالدًا، تشكّل من صوتها، ومن عمق إحساسها الذي تجاوز حدود الأغنية ليصبح جزءًا من الوجدان الفني العربي كله.

الهرم الرابع

ليست مجرد مطربة بارزة، بل تعد تجسيدًا للصمود المصري. إذ كانت تقف لساعات طويلة على المسرح، تغني بلا كلل أو ملل، ترفع ذراعيها في الهواء، وصوتها يهز الأركان من حولها. حتى في أقسى لحظاتها، فلما كان الوجع يعض روحها أثناء الحرب على وطنها، ظلت حنجرتها متماسكة، صلبة، لا يقهرها الحزن ولا يسكتها الزمن. فهي تشبه مصر في أزماتها، حين تضيق بها الأحوال، لكنها تقاوم، تقاتل، ثم تنتصر.

أشعر أن المصريين، حتى اليوم، يستمدون القوة من صوتها. في هذا الزمن، حيث تثقلهم الأزمات الاقتصادية وتتكاثر الهموم على أكتافهم، لا يزال صوتها النابض بالحياة في أرشيف الإذاعة المصرية، أكثر من مجرد تسجيل، فهو روح حية، تخرج مع موجات الأثير، تتسلل إلى الصدور، توقظ الأمل، تدعو إلى المقاومة، وتُعيد شغف الحياة.

صحيح أنني أنتمي إلى جيل لم يعش زمنها، لكنني أراها كالأهرامات، لا تهزها الرياح، ولا يمحوها الزمن. وإن كانت الأهرامات معجزة معمارية خالدة، فإن أم كلثوم هي إعجاز فني متجذر في الوجدان المصري، محفور في الشوارع، والمقاهي، والقلوب.

*****

الكاتبة المصرية شيماء اليوسف

شيماء اليوسف

خاص قنّاص – موسيقا

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى