جَدَل القراءاتمكتبة بورخيس

عبد الجواد العوفير في «سماء بضفيرتين»: سؤال الفراغ واقتلاع للجذور

إنها نصوص تعيد تشكيل الخريطة الذهنية للمفاهيم وللأشياء. وأيّ شعر لا ينزلق من أصابع الأدب كسمكة ليكتب نفسه في مائه الخاص، مجرّد دعاية للماضي فقط. لا يثير سؤالا ويمتهن التدوير إلى حدّ السأم

المجموعة الشعرية «سماء بضفيرتين» للشاعر المغربي عبد الجواد العوفير: سؤال الفراغ واقتلاع للجذور

بقلم منير الإدريسي

عن دار راية للنشر، صدر (2023) ديوان جديد للشاعر المغربي عبد الجواد العوفير بعنوان: «سماء بضفيرتين». مجموعة شعرية تجعلنا نستمرُّ في الإصغاء لصدى المقروء عند نقطة نهاية كل نص. بل وندور أيضا، ونكاد ندور إلى ما لانهاية. ليس بحثا عن المعنى الجاهز، فالقصائد الجيّدة هي التي لا تشغلها القصدية أكثر من الشّعر. وبعبارة جون آشبري: «الشعراء الذين يمنحوننا المعنى لا يعرفون عن أيّ شيء يتحدثون». إننا لا نبحث عما قيل ويُقال، لكننا نبحث عن قول يعيد ترميم ثقتنا بالشّعر وبالحياة خارج المساحة الذهنية المعتادة لهما معا.

مجموعة عبد الجواد العوفير، هي مقص ليس للتشذيب فقط، وهو الأكثر تشذيبا، ولكنها للفصل والقطع. ونحن نقرأ المجموعة نشعر بالهواء بين كلمة وأخرى، وبالفراغ بين نص وآخر. للشاعر قدرة على الاقتصاد هذا مفهوم، لكن قدرته على ألا يُسمِع للكلمات صوتا سوى في أقصى الريح حيث تقلع الجذور وتُعرّى اللغة فهذا ما يسمح لنا بالتفكير أكثر في منطقة عجزنا عن قول أيّ شيء. ماذا نقول أمام الشّعر؟ نقول إصغاء جيّدا فقط، ملتمسين المزيد من الصمت.

كل نص من «سماء بضفيرتين» لا يريد أن يخبرك أو يعبّر عنك، بل أن يخطفك من نفسك ويعلّقك في الفراغ ثم يجعلك منتبها. لا يرفع عبد الجواد حنجرته وليس عليه أن ينشد قصيدته. هذا ليس نشيدا أو تعبيرا عن مشاعر راكدة أو متقلبة. ذلك هو حظ شعراء قصيدة النثر، والتي هي في الواقع ليست بنثر ولا جُمل خضعت للتقسيم الإيقاعي وإنما لشفرات الحدس الحادة. حيث على الجملة أن تتوقف أو تقطع لينزل رأسها أسفل كلويس السادس عشر. إنّه قطعٌ مع إرث الماضي دون شك.

لقد صيغت كل كلمات المجموعة من البرد والوحدة. بعض النار التي تحمي من هذا الصقيع هي جمرات قليلة من تصوّفٍ وحكمة أو دعابة أو حتى سريالية مغشوشة، وأحيانا فكرة مفخخة. وذاكرة أصبحت صورة شعرية بلا بصمات.

يا فتاة البورتريه أخرجي

قليلا،

أيتها الحزينة كفاكهة عفنة.

سنحتسي كأسا ونلوّث هواء الغرفة بأفكارنا.

ليس بالضرورة أن يملأ الشّعر فمنا بالكلمات ورأسنا بالأفكار، بل صدرنا، كالهواء. الحزينة كفاكهة عفنة جملة لا تُشَبِّهُ شيئا بشيء، بل تشعرنا بحالة أسفل الشعور كنهر يجري ولا يتوقف. لا يُذكر التشبيه إلا ليموت. ولا تكون لغة القاموس إلاّ لتتحطم. تبدو هذه الجملة أبسط وأقل تعقيداً، لكنها أبعد من أيّ كلام. ونحن نقرأ هذه الجملة نعيدها في اللاشعور إلى إطار آخر سديمي، على الأرجح.

هناك موتيفات أخرى مجرّدة أو محسوسة هي بمثابة جزيئيات المادة المظلمة للمجموعة الشعرية. مثل الوحدة، العزلة، البرد. الغرفة، البحر، المطر، الظلمة، المرأة، العصفور، البار، القديس، المتصوّف…الخ.

تلتقي مع بعضها في كل مرّة، وتتصادف لتشكّل سماء النّص وأفقه التأملي الذي يبدو عدميّا دائما. لنقل أنها عدمية صاغتها وحدة الشاعر العميقة. أثرت عليه من جهة، ودفعته إلى التمرّد والكفر بأي طابو من جهة أخرى.

في كل تكرار نعثر على علامة، ومفتاح لقراءة الشاعر. تتكرّرُ أيضا بعض العبارات في أكثر من صيغة وفي أكثر من نص: «لا يحلمون بالمدن التي لا توجد» صـ37، «نحبك هكذا من دون أن توجدي» صـ38ـ، «امرأة بقفطان لا يوجد» صـ74، «هفيف شعر جارة لا توجد» صـ87، «كل عالم خارج ذاكرتي لا يوجد» صـ87، «مناجم لا مرئية»، «لا نرى الممشى» صـ84، «نشعل مصابيحنا بقوة فلا نرى شيئا» صـ80، كما تتكرر أيضا عبارة (لا ينتهي) في أكثر من نص.

فوراء كل مرئي لا مرئيٌّ أو عدم خالص. ولعلّ الفراغ الذي يبقى في قبضة اليد هو تفسير للمجهول أو للا نهاية. فكل ما لا يرى ولا يوجد لا يمكنه أن يُحدّد أو ينتهي أيضا. يروّض الشاعر صاحب ديوان «راعي الفراغ» الأشياء في هذا الديوان الجديد على أن تقول مرّة أخرى هذا الفراغ وتجعله محسوسا لنا بهذه الكيفية الصاعقة.

في كل نص تتسرّبُ نفس الهواجس لكن بطريقة تجعل من كل نص عالما خاصا، يُسطّر أفقا بِكرا نقيا وسؤالا قد لا ينتهي بعلامة استفهام دائما ولا بجملة استفهامية بقدر ما يسوق حقيقة أن الشّعر سؤالٌ غائب. لا يسميه ولا يضيء غيابه سوى الشعراء.

إنها نصوص تعيد تشكيل الخريطة الذهنية للمفاهيم وللأشياء. وأيّ شعر لا ينزلق من أصابع الأدب كسمكة ليكتب نفسه في مائه الخاص، مجرّد دعاية للماضي فقط. لا يثير سؤالا ويمتهن التدوير إلى حدّ السأم.

***

المجموعة الشعرية «سماء بضفيرتين» للشاعر المغربي عبد الجواد العوفير: سؤال الفراغ واقتلاع للجذور، بقلم منير الإدريسي

عبد الجواد العوفير: شاعر ومترجم مغربي، من مواليد الرباط 1980 ، صدر له في الشعر «راعي الفراغ» عن منشورات بيت الشعر في المغرب 2010، «ضحكات الكركي» دار التكوين دمشق، بيروت 2015. ترجم مختارات لمجموعة من الشعراء: كلود إيزو، هومبريتو أكبال، أنطونين أرتو، كلود فيجي، ألبيرتو كورابيل، جوليان فريديناند، نيجي فويونو. يعمل حاليا على إعداد أنطولوجيا الهايكو الياباني الجديد. تُرجمت قصائده إلى الاسبانية ضمن مشروع «جنوب الكلمة أنطلوجيا الشعراء المغاربة» سنة 2018. وإلى الإنجليزية ضمن مشروع أنطلوجيا «شعراء العالم» سنة 2022.

الصورة: عبد الجواد العوفير alquds.co.uk

منير الإدريسي، شاعر وكاتب مغربي. أصدر شعريا: مرايا الريش الخفيف 2007، انتباه المارّة 2017، بنظارة أشف من الهواء 2021. وهو عضو اتحاد كتاب المغرب وعضو بيت الشعر بالمغرب. اختيرت نصوصه ضمن انطلوجيات عالمية، منها: “أصوات شعرية العالم” بالمكسيك 2020.  “شجرة شعر العالم” تم اطلاقها بالجناح الوطني لدولة الإمارات  إكسبو 2020 دبي، واليابان 2022.

خاص قنّاص – جدل القراءات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى