عشرون يوماً في ماريوبول
بقلم وداد سلوم
عرض الفيلم الوثائقي «عشرون يوماً في ماريوبول» أول مرة في مهرجان صندانس في لندن عام 2023 وحصل على جائزة بافتا لأفضل فيلم وثائقي، ثم جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل في آذار عام 2024، وجائزة نقابة المخرجين الأمريكيين لأفضل مخرج فيلم وثائقي عام 2024، وهو أول فيلم أوكراني ينال جائزة الأوسكار.
يروي الفيلم قصة حصار المدينة الأوكرانية ماريوبول خلال الحرب مع روسيا وحتى احتلالها من قبل القوات الروسية. بعد حصار طويل ومعارك استمرت 86 يوماً ومقتل 22 ألفاً من الضحايا واستماتة الجيش الأوكراني في الدفاع عنها رغم فقدانه الإمداد. إلى أن سقطت المدينة.
ومدينة ماريوبول بلا شك ذات أهمية كبيرة من حيث الموقع الجغرافي، فهي ميناء هام يشكل نافذة أوكرانيا على بحر آزووف كما أنها طريق روسيا إلى شبه جزيرة القرم، ويزيد على ذلك أهميتها الاقتصادية إذ تشتهر بصناعتها التعدينية وفيها أكبر مصنع للفولاذ والحديد الصلب.
قام الصحفي تشيرنوف ويفعيني مالولتيكا وبالتعاون مع وكالة اسوشيد برس وبدعم من المنظمة الدولية لحماية حقوق الانسان بتوثيق فترة الحصار وتصوير حياة السكان المدنيين تحت القصف الروسي المستمر الذي لم ينل المراكز الحيوية عسكرياً واقتصادياً فحسب، بل امتد إلى أجزاء المدينة وأحياءها السكنية، ومن ثم بدأ اقتحام المدينة من قبل القوات الروسية مع استمرار القصف خلال تقدمها وما رافق ذلك من تدمير البنى التحتية سواء فقدان الكهرباء والاتصالات والانترنت والغاز وتدمير البيوت والمخازن التي صارت بعهدة اللصوص أو حتى استبيحت من جيران الأمس، ففي الحروب تسقط الأخلاق وتظهر كل الأمراض الاجتماعية في كلا الجانبين المتحاربين، حيث يمكن أن تكون السرقة ليس تحت ضغط الحاجة، بل لمجرد أن المجال مفتوح؛ وهوما نراه في مشهد اقتحام أحد المتاجر وسرقته من قبل السكان المرتعبين من استمرار الحصار وازدياد الحاجة لمواد ضرورية للحياة، تحضر صاحبة المخزن وترى كيف استبيح متجرها بشكل كامل، تخاطب أحدهم وقد سرق كرة قدم فتسأله: وهذه هل ستحتاجها؟ فيتركها ويمضي بما حمله.
يسجل الفيلم أيضاً كيف تم قصف مَشْفى التوليد مما أسفر عن فقدان أمهات وأطفال لحياتهم. وكيف تم اسعاف الباقي في لحظات حرجة.
يقول المتحدث عن تجربة التصوير خلال الفيلم ويمكن تسميته بالراوي:
«قال لي أحدهم الحروب لا تبدأ بالانفجارات، يبدأون بالصمت».
إذ يبدأ الفيلم بتصوير مجموعة مواطنين في ملجأ يترقبون وينصتون، لا أحد يتكلم لكن الذعر يخرج من الوجوه والكل يستمع بترقب إلى صوت صافرات الإنذار المستمر. كأنهم يتتبعون صوت وقوع القذيفة، وينتظرون احتمال النجاة.
ومع مشهد تقدم الدبابات الروسية حاملة حرف z في المدينة يقول:
«بدأت الحرب وعلينا أن نروي قصتك» مشيراً إلى الدافع الذي جعلهم يخاطرون بحياتهم لإتمام الفيلم. إنه الواجب المهني أولاً وطبعاً الوطني فتشيرنوف أوكراني الجنسية.
يقول الراوي «عندما علمنا بأن الاقتحام كان وشيكاً قرر فريقنا الصحفي التوجه إلى المدينة».
يعرض الفيلم وجهة نظر روسيا عبر التصريح عن أسباب قيامها بهذه الحرب وتكذيبها لبعض الأحداث، إذ كان فريق العمل يرسل مقاطع من التصوير بصعوبة بالغة إلى العالم، لكن من يهتم، إذ سنرى خلال الفيلم أن من يدفع الثمن جراء الحروب وصراع السياسيين هم المدنيون وحسب، وأن حجم الخسائر البشرية لا أحد ينظر لها.
كان الطفل والعجوز والنساء كل يصرخ بطريقته أريد أن أعيش بسلام وأعود إلى بيتي وملعبي وأولادي. ولكن لن يسمعهم أحد وستستمر الحرب.
يتحلق الناس حول فريق التصوير للسؤال عن حال الحرب إذ كانوا مقطوعين تماما عن آخر الأخبار ولا يعرفون مستجدات الأحداث، ولا ما حل بالبلاد وهل مازالت تقاوم أم انتهى كل شيء.
على مدى عشرين يوماً هي عنوان الفيلم وتحت الخطر يقوم الفريق الصحفي بتصوير حياة المدينة في مشاهد حَيّة يتم عرضها يوماً إثر يوم في الفيلم على الشكل التالي: «اليوم الأول ثم الثاني وهكذا». لنشاهد مع كل يوم اتساع الدمار والموت وما جرى خلال ذلك للمدنيين وكيف عاشوا الرعب والخوف والنزوح واحتمال الموت في كل لحظة.
كيف عمل الأطباء على اسعاف المصابين في ظروف فقدان الأدوية والمسكنات والأمان حيث انحشر المرضى والفريق الطبي في الممرات والأقبية بعد التعرض للاعتداء المتكرر بالقصف، يقول أحد الأطباء للمصور حين فشلوا بإنقاذ طفلة رضيعة: صوروا عيون الطفلة وبكاء الأطباء.
مشاهد كثيرة يعمل الفريق عليها في مسافة صفر من الخطر تهتز الكاميرا جراء الانفجارات القريبة تارة وتارة أخرى وهم يركضون من مكان لمكان على مقربة من الدبابة التي تقصف وتدور كأنها تبحث عن أي مظهر للحياة، لقد تم انقاذهم بأعجوبة أكثر من مرة ليغادر الفريق مع أشرطة التصوير ملتحقاً بقافلة الصليب الأحمر خارج البلاد. حاملين صوراً أبكت العالم ونالت جوائز المهرجانات.
العالم الذي لم يحرك ساكناً وهو يرى كل يوم جرائم ترتكب في أنحاء مختلفة جراء حروب مستمرة. ليس ما يحدث في غزة سوى مثال وكيف يتعرض الفلسطينيون لحرب إبادة جماعية فيها أثارت سخط الإنسانية حتى في أوساط اليهود في أماكن شتّى حيث شاهدنا تعاطفاً ورفضاً لما يحدث والذي يشبه الهولوكوست الذي حدث بحقهم ذات يوم.
بينما تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مئات وعشرات مقاطع الفيديو التي تصور أطفال غزة وهم يعانون أشد حالات اللا إنسانية، حفاة يقطعون المسافات من مكان لآخر هرباً من القصف الذي طال حتى خيام اللجوء فاشتعلت بالحرائق فيها وهم نيام تحتها.
لا تقل عن تلك الفيديوهات التي تم فيها توثيق قتل المدنيين في سوريا في ظل الحرب السورية سابقاً ولا التي يتداولها العالم حالياً.
ليست المقارنة بين حرب وأخرى فكل الحروب فاجعة وكلها لا إنسانية وكل اعتداء مسلح مرفوض، لكن العجز عن كبح الجريمة في القرن الواحد والعشرين نبوءة سيئة لمصير الإنسانية.
ويبقى السؤال: من سيروي قصص الضحايا ذات يوم؟ وكم قصص ستموت مع أصحابها.
شاهد العرض الاعلاني >> الفيلم الوثائقي الأوكراني «عشرون يوماً في ماريوبول»
الكاتبة السورية وداد سلوم







