(إذا كنت أكتب ما أحس فلأنني أخفض من حمى الإحساس، ما أحكيه لا يكتسي أي أهمية تذكر)… بيسوا
في هذا القبو المظلم الرطب هجرني مالكي بعد أن قرر أنني لم أعد صالحة للكتابة، فأزراري بدت متهالكة وقد تقشرت معظم الحروف المكتوبة عليها وأصابها العطب حتى أنها لم تعد صالحة للقراءة، إلا أن هذا ليس سبباً كافيا لهجري فأنا أعرف أن صاحبي يحفظ أماكن كل حرف حتى وهي بهذه الحالة المزرية، ولا يمكنكم تصور وضع آلة رثة في مثل حالتي فقد أَلِفْتُ مالكي وألِفَني وأحزنني أن يتم التخلص مني بهذه الطريقة البائسة بعد أن تشاركنا معًا حياة كاملة. كنت تلك الوصلة الرفيعة التي تربطه بمخاوفه وهواجسه، عرفت أدق خباياه حتى تلك التي لا يجرئ أن يُفصح عنها. فرغم أنه كان يكتب بضمير الغائب أو كأنه ذات غائبة، فأنا أعي أنه يكتب عن نفسه ليس إلا. نفسه بصيغ كثيرة ومتعددة. كان بطريقة ما في خصام دائم معها، لم يكن صريحاً معها أبدًا. لذلك دأب على أن يكتبها بهذه الطرق الملتوية. كانت هذه طريقته في الوصول إليه. ولأنه كان يحس أنه غريب عنه قرر أن يعيد اكتشاف أُلْفَتِه عن طريق الكتابة. في ذلك اليوم الذي قرر فيه أنني لم أعد أكثر من آلة صدئةـ إذ أنه جردني من شاعريتي التي أكسبني اياهاـ فلكي يسهل عليك التخلص من شيء ما ليس عليك سوى أن تجرده من ألفته وحميميته بعدها سيسهل عليك أن تهجره كما لو كان أمر لا قيمة له البتة.. أذكر أنه لم يكن كما هو كان كأنه شخص آخر. شخص آخر تَلَبَّس ملامحه وألقى بروحه في أحد المكبّات. هذا ما تهيئ لي حينها. أدركت في تلك اللحظة أنه لا يمكن أن يعود أبدًا. فشيء من روحه ليس في مكانه المعتاد. لم يقل شيئًا يومها، تقدم ناحيتي بهدوء ثم تناولني كما يتناول أي خردة فألقى بي في هذا المكب. ليته فقط منحني آن ذاك كما يمنح أشياءه الأخرى شيئًا من الاعتراض ونوعا من الشكوى إلا أنه أخرسني هكذا إلى الأبد. وأخرس كل الأشياء من بعدي. وكأنه انتزع الأبواب والنوافذ والردهات من مكانها واستبدلها بكيانات جديدة. كيانات جامدة مملة لا تحلم ولا تتأمل. وكأن فكرة المكان انْتُزِعت بكاملها وغدا فارغًا من شاعريته الأولى التي مُنحت له. وكنت بطبيعة الحال جزءًا من شاعرية ذلك المكان ومن المؤكد أنني أنا الأخرى انتزعت فكرتي وأصبحتُ فارغة كما هو. وصرت أفكر هل كنا مجرد أشياء له يمنحها عاطفة ثم يجردها منها في أي وقت يشاء. وأحزنني فكرة أن أكون شيئًا مهملاً كهذا.
إننا جزء من مزاجه فحسب وأفكاره العابرة جزء من كيانه المتغير إلا أن المرء يرتبط بالحياة بهذا الجزء المتقلب منه حتى أنه قد يرتبط بها بطريقة مرضيّة فالتعلق يكون أقرب إليه من فكرة التخلي وكان مالكي أقرب إلى فكرة التعلق من فكرة التخلي هذه. حتى أشيائه القديمة لم يكن يتخلص منها كان يعتبرها جزء من روحه تلك وخريطته الممتدة. فكيف يتخلى عن فكرة التعبير تلك!
كان شغوفًا بها.. كان يكتب كثيرًا عن كل شيء تقريبًا عن النوافذ والمرايا وحجرات الانتظار، يبعث الحياة في أشد الأشياء سكونًا عن شجرة وحيدة في تل منعزل وقلم منسي في أحد الأدراج العلوية وكتاب مهجور لكاتب مغمور، كان لا يتكلم إلا بلسان الأشياء نفسها لأنها في تصوره أكثر ما يمثل قصص أصحابها.. أراد أن يري الحياة من زاوية أخرى غير التي ألفها أن يعيد اكتشاف الأشياء مجددًا بطريقته هو فأعطاها صوتاً وشفتين ومخيلة خصبة لتعبر بها عن حالها بل وأعطاها فضولاً أيضًا وقدرة على الاعتراض، منحها كل ما يمكن أن يمتلكه انسان ما بطريقة ما أعاد أنْسَنتها لتعبر عن أحلامها وهواجسها وفي نفس الوقت أراد أن يجعلها امتداد له، لتلك المخاوف التي تسكنه والآمال التي تراوده فإن مَثُل فيها فهو لم يتمثل فيها إلا روحه هو فقد جعلها مرآة لروحه المضطربة وكأنه أراد أن يعكس نفسه في أشياء كثيرة عله يستوضحها بطريقة أعمق. كانت الأشياء وسيلة بالنسبة له حتى يتعمق أكثر في ألمه. كان فقط شخصاً خائفاً في أن يظل بمواجهة هذه المخاوف إلى الأبد. فأعطاها هذه الصبغة الشعرية. لم يكن بإمكانه أن يخرس تلك الحياة التي كان يختنق بها لذلك قرر أن يُجَمّلها أن يجعلها مؤهلة أكثر فكانت الكتابة بالنسبة له نوعاً من المسالمة وبتعبير أدق هدنة مؤقتة يكافح بها بؤسه. إلا أنه إذ أصبح يرى المكان الذي ألِفَه انعكاس لتلك المخاوف ليس إلا فقرر هجره وهجر كل شيء يَمتُّ إليه بصلة لعله ينسى أو تتوقف تماثيل تلك المخاوف عن اقتفاء أثره. ولأني أعرف أن المرء لا يمكن ان يقتطع حياته أو أن يتملص منها للأبد كنت أملك أملاً واهنًا في أن يعود مجددًا ويعود للمكان أُلْفَته السابقة.
هذه القصة من مجموعة قيد النشر
خاص قناص
وفاء حمد الحوسني؛ كاتبة عُمانية