
فصل من رواية «آيس هارت في العالم الآخر» لـ محمد بركة
فيروس شديد الخطورة يفتك بالجهاز المناعي للتقاليد والأصول.
لا بد من استعمال مطهر قوي عند التعامل معي حتى أتقيأ آخر أنفاسي الشريرة، كتلة دموية تربك الأشباح في مستشفى قديم مهجور.
أرسم فأجلب لأهلي العار.
ألوّن فأجعلهم «لبانة» في فم كل نذل.
لم أنجز معرضي الأول بعد، لكن ما رأوه على صفحتي الشخصية من نماذج سيئة الإضاءة للوحاتي المُتْربة كان كافيًا كي يضربوا كفًا بكف: سبحان من أخرج الطالحين مِن ظهر الصالحين.
تأكل النار مرسمي في «الحسين»، فيهلل أحدهم:
- عدالة السماء تقتص من صاحب الرسومات العارية.
عشرون عامًا من الأحلام المؤجلة والزيوت المسفوكة على توال تتحول في عشرين دقيقة إلى خرائب سوداء تنز أنفاسًا واهنة من الدخان، فيهتفون:
- ليت الغبي يفهم الرسالة، ويتعلم احترام سيد شباب أهل الجنة.
أدخل المصحة الشبيهة بمعتقل نازي على ضفاف النيل، فيهزون أكتافهم ويعلقون باقتضاب:
- لو كان يركعها، ما كان أصابه مس من الجنون.
تتفحم «آيس هارت» وهي حامل، فيشيعونها بالدعاء إلى مثواها الأخير:
- في ستين داهية!
ثم يتساءلون بمنتهى التهذيب:
– هل كانت، عدم المؤاخذة، من بقية أهله؟
يتحولون إلى حرباء طيبة القلب تقف على شجرة الأخلاق الحميدة وهم يرحبون بي:
- أهلاً بالفنان.
يمنحونني اللقب من باب التمويه، خطة خداع استراتيجي تناسب لؤم فلاحين عاشوا في كنف قاعدة صاروخية قديمة بُنيت من الخشب وسط الحقول لتضليل الطيران الإسرائيلي، أما لقبي الحقيقي الذي حملته عن جدارة فهو «الابن العاق» وفي رواية هامسة «ابن أمه». الوحيد الذي أخذ عن الست الوالدة بياض البشرة والعين الملونة، سمرة الأب المشوبة بزرقة خفيفة كانت من نصيب بقية أخوتي. خيارات جينية لا يد لي فيها، لكنها أيقظت عقدة النقص القديمة التي تحس بها عائلة والدي ذات الأصول المتواضعة تجاه عائلة أمي ذات الماضي الإقطاعي والجذور الأرستقراطية.
رفضتُ دخول كلية ذات وجاهة اجتماعية تليق بالعائلتين اللتين تتسابقان في إحراز أكبر عدد من مناصب الشرطة والنيابة والبرلمان. اخترت واحدة غامضة مريبة يقال لها «فنون جميلة»، فلا نامت أعين العاقين. أفسدت خطط أبي الذي جهّز لي شقة فاخرة لأتزوج فيها وأكون ذراعه اليمنى في إدارة مملكته من حقول الموالح والمانجو بعد أن أصبح الحمل ثقيلاً على أخي الأكبر الذي لم يكمل تعليمه مكتفيًا بدبلوم التجارة. ألقى الأب/ الفرعون تعويذته الشريرة بصيغتها الكهنوتية المدونة على جدران هرم سري:
- اذهب فلا أنت ابني ولا أنا أعرفك!
لكن ما هذا الرعد؟
إنه تثاؤب ملائكة العذاب، تستيقظ في الملكوت الأعلى استعدادًا لعقاب العصاة من أمثالي. يرتج الفضاء معلنًا عن بصمة صوتية تؤكد هويتي الخبيثة.
والبرق؟
سيف من الضوء يتحالف مع الرعد ليكشف ما في قلوبنا نحن الخطاة من ظلام غائر.
- قسمًا بالله لساني لا يخاطب لسانك يا بتاع المؤخرات البرونزية والأثداء العارمة حتى تعود عن غيك أو يقتص منك المنتقم الجبار.
من أين أتى بـ «العارمة»؟
الكلمة التي أصبحت سيئة السمعة بسبب استخدامها الكثيف في المواقع الأمريكية التي توفر خدمة الترجمة بالعربية الفصحى الرزينة، فرع الجمال الياباني، قسم نهود ضخمة.
يبرّ أخي بقسمه حتى في وفاة أبي.
ليس مهمًا أنني أصغر إخوته أو مصاب بعيب خِلقي في القلب كان من المفترض أن يودي بحياتي وأنا طفل، لكن لسبب غامض قالت الأقدار: فليعش الفتى الانطوائي بوجهه الشاحب ونحوله الشديد سنين عددا. من لم يمت بثقب في الجدار الفاصل بين البُطينين أو ضيق المجرى الواصل بين البطين الأيمن والشريان الرئوي، مات كمدًا في بلد يستهجن الفساد ويلتمس العذر للفاسدين.
لم أتصور أن أخي يحفظ أسماء لوحاتي القديمة بهذه الدقة، لكن من بين عشرات الأعمال الأخرى التي نشرتها «كريستين» لماذا لا يتوهج سوى «جمال برونزي» و«أنوثة» في ذاكرته؟
لا يلوث أذنيه بسماع صوتي، ترك ابن عمي «فرغلي» يوقظني وقت الفجر ليبلغني بالخبر:
- البقاء لله الحاج تعيش أنت.
خمس كلمات توالت دون فاصلة أو نقطة، كأنها خمس سحالٍ صغيرة تتقيأها معدة مضطربة. الخبر الصاعق ألقاه ببساطة وكأنه جملة عابرة في ركن الكلمات المتقاطعة بصحيفة قديمة من مقتنيات المرحوم. محدثي على الطرف الآخر من الهاتف يستحثني كما لو كنت طفلاً عنيدًا، قليل التربية: قل لا إله إلا الله، قل لا إله إلا الله!
يتوحش صمتي كأني أوجه إليه اتهامًا خفيًا. يسارع باتخاذ موقف دفاعي:
– عملنا كل ما في وسعنا، لكن هبوط الدورة الدموية كان حادًا والقلب كان ضعيفًا كما تعرف.
كم أكره ذلك التقليد الفرعوني التافه.
الغفران التلقائي لكل من لفظ أنفاسه الأخيرة، هالة التبجيل التي ترافقه إلى التراب. لم يكن أبي ضعيف القلب يومًا. باستثناء الأيام الأخيرة حين أحس بدنو الأجل، ظل قلبه صخرة مستعارة من الكوكب الأحمر. جدار من الصلب وعضلة من الفولاذ وشرايين مصنوعة من أسلاك نحاسية لا تضخ سوى سائل أسود.
- ستأتي الآن؟
كأنه يسألني عن قهوتي، مضبوطة أم سادة.
- سأنام قليلاً، ثم أتصل بك.
كأن إجابتي لم تصدمه، قال متبسطًا:
- على مهلك، معك حق، أمامك يوم طويل ولا بد أن تكون مستعدًا.
يطمئنني بأن كل الترتيبات معمول حسابها. فقط يحتاج اسم جدتي الثلاثي من أجل استخراج شهادة الوفاة. أخبره أني بالكاد أذكر اسمها الأول، فيطالبني ألا أقلق، سيتصرف.
تستيقظ «كريستين» بعينين زادهما الاحمرار جمالاً. فتنة الأنوثة كانت نائمة، فعلى من أيقظها اللعنة. يتساقط النعاس المتقطع من صوتها وهي تسألني في قلق إن كان هناك جديد. تشهق كمن خدعتها السماء. تعانقني وهي تبكي. تلاحظ شرودي، فتسأل بحساسيتها المعتادة:
- تحب تقعد لوحدك؟
أطلق الدفقة الأولى من دخان السيجارة وأنا في البلكونة. أحكم غلق باب «الألوميتال» من ورائي حتى لا تبتل السجادة الإيرانية «التاريخية» التي ورثتها حبيبتي عن الفرع اليوناني في العائلة. المطر من أمامي مستثار يضاجع كل شيء بشراهة سجين لم يمس أنثى منذ سنين. أتأمل لوحة الخلق بحثًا عن معنى.
إذا أحزنني أمر فزعتُ إلى المطر شتاء أو الشمس الحارقة صيفًا بحثًا عن إجابة مهتديًا بهدى أمنا الطبيعة وهي في أشد حالاتها المزاجية اعتلالاً.
- لماذا يعود والدي إلى حركاته السخيفة معي؟
- ما الرسالة وراء هذا التوقيت؟
حقائب السفر ترقد في الصالون مثل جميلات يلعبن مباراة شطرنج ضد القسمة والنصيب. ظننتُ في البداية أن الأمر مجرد مقلب آخر من مقالبه الصحية التي لا تنتهي مؤخرًا. تخبرني «هدى»، أقرب إخوتي لي سنًا وروحًا، أن ضعفًا مفاجئًا ألزمه الفراش مع فقدان تام للشهية. رفض الذهاب إلى المستشفى بعناد عجوز ثمانيني لا يثق في أي علاج لا يخرج من الأرض. تدهورت حالته سريعًا، فأتوا بالشخص الوحيد الذي يملك القدرة على إقناعه. رفض تعليمات الأطباء الغاضبين واستجاب لراعي الغنم حين ضاحكه قائلاً:
- اسمع الكلام يا حجيج، لازم تخف بسرعة لأن العروسة في انتظارك.
ثم التفت جارنا الشاب بجلبابه البلدي ورأسه الحليق إلى أمي الجالسة في صمت على الكرسي المتحرك:
- بعد إذن الحاجة طبعًا.
جاءت سيارة الإسعاف لتركض صوب «المستشفى المركزي» الذي كنا نسميه فيما بيننا «مستشفى الراحة الأبدية». أوصاهم المسئولون هناك الذين يعرفونه جيدًا بضرورة الرجوع فورًا إلى مستشفى «نور الشفاء» الخاص الذي لا يبعد عن منزلنا النائي نحن بالذات سوى دقائق معدودات. اعتذر الطبيب العجوز عن النقص الحكومي الحاد في كل شيء، من بنك الدم إلى قفازات الجراحة:
- لم يعد لدينا ما نقدمه للمرضى سوى الدعاء بالشفاء العاجل.
في المستشفى الصغير المختبئ داخل الحقول، ردت «الدموية» في وجهه وتورد خداه وعاد لهوايته القديمة في ملاحقة كل أنثى تلوح في محيطه:
- تتزوجيني يا بت؟
وبصرف النظر عن هوية العروس المحتملة، كان وعده واحدًا لا يتغير:
- علي الطلاق، أرحمك من بهدلة المستشفيات وتقعدي أميرة في «البيت الأبيض».
كان يطلق هذا المسمى على «سراي» بيضاء اللون تتكون واجهتها من أعمدة على الطراز الروماني، وتتوسط حديقتها نافورة صاخبة تحاكي مقر الرئيس الأمريكي في 1600 شارع بنسلفانيا. لابد أن شراهته في قراءة صحف المعارضة التي تصف واشنطن بـ «الشيطان الأشقر» لها علاقة بالأمر.
تمتزج الحداثة بالسياسة إذن في تلك التحفة المعمارية المقامة على عدة أفدنة وسط بقعة من أخصب الأراضي الزراعية. دُفع المعلوم وشرب موظفو البلدية شايًا بالياسمين في عهد «الرئيس المؤمن»، فانتصر الإسمنت على السيقان الضخمة للذرة ودهس الزلط ذاكرة المحاصيل الحقلية.
دخلت أرضه الزراعية «كردون المباني» فتضاعف سعر المتر ليتحول فجأة من رجل مستور إلى واحد من أشهر الأعيان. اشترى «البيت الأبيض» من ورثة «حنا باشا» برخص التراب مستغلاً هجرة ورثة الوجيه القبطي إلى كندا التي وجدت سلطاتها فيهم التركيبة المثالية: شبهات اضطهاد ديني تحت ظلال وارفة لشجرة الأصل النبيل.
- صحيح أنتِ في سن بنتي، لكن الشباب شباب القلب، ومن الصبح أنسلك الذرية الصالحة من واحد لعشرة.
ثم يهمس في أذن ضحية التحرش الضاحك وكأنه يدلي بسر الخلود:
– أنا متربي على هواء الفجر والسمن البلدي وفحل البصل.
يضرب الممرضة على مؤخرتها فتضحك، يضغط أصابع الطبيبة فتسحب يدها مبتسمة، أما التي تحمل صفة «زائرة» فهي الوحيدة التي لا تتعامل معه كطفل كبير مخرّف، تعقد حاجبيها مستعيذة بالله من غضب الله.
لم تستمر ابتسامة السماء الحانية طويلاً.
تناقص منسوب الدم في جسده. أسعفوه بعملية نقل جديدة، سائل أحمر يهب الجسد سره لكنه لا يعرف الروح. الفحوصات الأولية أخفقت في حل اللغز: أين يذهب الدم بهذه السرعة؟ لا يوجد نزيف بجدار المعدة أو التهاب بالأمعاء أو فشل كلوي مزمن أو تليف بالكبد. لابد من جولة جديدة في دهاليز الأشعات والتحاليل.
لن أعمل بنصيحة «هدى»، لا يمكن تأجيل نزول البلد أكثر من ذلك.
ردت «كريستين»:
- أجهز ملابسنا ونتحرك مع أول ضوء. المهم أن ننام على الأقل ساعتين.
لم يمنحني أبي فرصة وداعه.
حمل عصاه وقرر الارتقاء فجأة في يوم غائم يصلح خلفية للوحة انطباعية عن قصة حب لا تكتمل أبدًا حتى تستحق أن تُروى.
الأمطار أمٌّ رؤوم تهدهد الأشجار وتنظف مؤخرة البيوت وتبعث الأرصفة من مرقدها، لكن من يغسل قلبي من ذلك الشعور العارم بالذنب؟ بفضل زخات السماء، تحصل البلاد العتيقة على هدنة مؤقتة في حربها المستعرة مع الغبار، عدوها القديم الذي لا يعرف شرف الخصومة، فمن يمنحني هدنة مماثلة؟
الصوت الرتيب للمسّاحات على زجاج السيارة يغريني بغفوة سريعة لكن ذهني المشتعل بالحرائق يرفض الاستسلام. تخف قبضته قليلاً فأختلس دقائق لا تكتمل أبدًا. أرى «آيس هارت» وهي تقترب من وجهي استعدادًا لحركتها التاريخية الأثيرة: لعق أنفي. أمد يدي لمداعبتها، لكن صوتًا يشبه انسحاق الطين الجاف يفاجئني. تتحول قطتي التي لم أحب مثلها إلى كومة من التراب تنساب بين ذراعيّ. أفيق مفزوعًا.
تنتبه «كريستين» لكني لا أخبرها بالحلم المشئوم. بدأت الحكاية بكرة أنيقة من الفرو الثلجي بعينين ناصعتي الزرقة عثرت عليها في زقاق متفرع من «خان الخليلي». ضلت طريقها، لكنها لم تفقد أبدًا نظرة التعالي واللامبالاة التي تميز تلك السلالة العجيبة من القطط الشيرازي. كنت أنانيًّا، بل كنت لصًا في الواقع. لم أبحث، أو أدعي البحث، عن صاحبها.
- والله إن تلك القطة لقطتي.
حدثتُ نفسي الأمارة بالسوء وأنا أمسح على رأسها، فلم تكذّب نفسي خبرًا. اقتنيتها رسميًّا فلم تُظهر عاطفة ما تجاهي وكأن التنويع في طعامها واحتمال الرائحة الكريهة لمخلفاتها والانتظام في زيارة الطبيب البيطري بأسعاره السياحية حق مشروع اكتسبته بجمالها الصاعق الذي لا ينتمي لأجواء الشرق الأوسط.
لم يبدأ موقفها في التغير إلا بعد أن أصبحتُ أجد صعوبة بالغة في مغادرة فراشي كل صباح. أنام ساعتين مضطربًا وأقضى بقية اليوم محدقًا في سقف الغرفة. ترهقني للغاية أقل حركة، نطقي للكلمات لم يعد شيئًا ميسورًا. اقترحت «كريستين»- التي لم تكن قد انتقلت بعد من خانة «الصديقة المقربة» إلى خانة «الحبيبة»- رحلة عاجلة لتغيير الجو. سحبتني من يدي كتلميذ مطيع، لكني حين شاهدت سربًا من السمان المهاجر في سماء الفيوم، صرخت مذعورًا:
- خدي ساتر.
لم أر في التشكيل البديع للكائن الرقيق سوى هجوم مباغت لمروحية عسكرية، لم أسمع في غنائه سوى طلقات مدفع رشاش عيار 30 مم.
في ذلك الخريف، بدأت «آيس هارت» ترفع الغطاء عن بئر حنانها. تشمني وتتمسح فيّ ولا تتركني إلا بعد أن أدلك ظهرها قليلاً فتعرف أن مزاجي أضحى أقل سوداوية. وحين طالت حالتي المستعصية بعض الشيء، بدأت تلعق أنفي حتى صارت تلك الحركة اللطيفة أخر ملاذاتي الآمنة بعد أن تحولت سكاكين المطبخ ومروحة السقف وشرائط «البنادول» إلى أدوات مقترحة لإنهاء معاناتي.
كان المرسم الذي نعيش به يشغل الطابق الثاني في بناية لا يبالي أحد بحقيقة أن عمرها يعود إلى 400 عامًا خلت. الخشب المخروط الملون هو النجم الأوحد. نوافذ ضخمة ومشربيات وسُلم داخلي ومقاعد في الباحة التي تتوسط الدار بنافورة معطوبة.
كانت مهمة النار سهلة حد التفاهة، لكن التوقيت كان قاتلاً. كنت قد بدأت أولى خطواتي على طريق التعافي بعد خروجي من «مصحة الأمل» التي تولى أبي تسديد فواتيرها بانتظام. جميع اللوحات احترقت، أما «آيس هارت» فلم يبق منها سوى جمجمة عصية على التفحم احتفظتُ بها رغم معارضة «كريستين». استعنت بأصدقائي من الأثريين لأحنطها ثم استعنت بخيالي لأعيد طلاءها بالأبيض الثلجي وأحفر لها عينين مستعارتين من البحر كنسخة رمزية من حيواني المغدور.
لم تزرني في الأحلام على خلفية من اللهيب أو الأدخنة كما حدث في مقاطع الفيديو التي توثق الحريق وتكفل أولاد الحلال بتوفيرها عبر «يوتيوب» بسخاء مدهش. كان التراب العنصر المشترك في جميع زياراتها لي، النهاية الحتمية التي يؤول إليها الجمال الفارسي في كل مرة. أراها تتهادى في حديقة ما كأميرة ملول، أو تعبث بالأطباق المتراصة على البار الرخامي في المطبخ، أو تغفو على أريكتها المفضلة تحت نسيم جهاز التكييف في نهارات صيفية. تختلف التفاصيل، لكن النهاية الترابية واحدة.
لم أفهم أبدًا المعنى ولم أستطع حل الشفرة، لكن «آيس هارت» لم تكف عن إرسال المزيد من رسائلها الغامضة.
طريق «الإسماعيلية الصحراوي» ناعم كسجادتنا الأصفهانية، واسع كحضن الجدات، لكن شيئًا ما تحت عينيه يشبه هالات سوداء. تمر فترات طويلة حتى تظهر سيارة كعابر ضل طريقه إلى سرادق عزاء منسي. تتبارى اللافتات الزرقاء والخضراء العملاقة في توضيح الاتجاهات بامتداد محافظات الوجه البحري، لكن لا أحد على الطريق المغسول بالمطر يبالي. بوابة عبور جديدة تلوح على البعد.
يطل موظف تحصيل الرسوم منتشيًا بتلك الفرصة السعيدة التي ستعينه على كسر الملل. يتبرع بالإجابة عن سؤال لم نطرحه ويتمنى لنا السلامة في رحلة سهلة نجتازها بسيارة دفع رباعي جديدة تصفها الدعاية عادة بـ «الوحش الياباني» الذي سيجعل منك «نجمًا» على الطريق.
- نحتاج بنزين.
تقول «كريستين» ثم تستدير بالسيارة لأجدني في قلب محطة تشبه مدينة ملاه يأتي التزود بالوقود في آخر أولوياتها. تركتني وحيدًا مع أشباحي وخرجت ببلوزة سوداء بنصف كم وبنطلون رياضي أحمر. لا تطيق الملابس الثقيلة، تقول إن التكييف الساخن يكفيها في السيارة وحضني يكفيها في البيت. نشترك في فصيلة الدم والبرج والشراهة في التدخين لكن أهم ما يجمعنا تلك البراعة في نطق il dolce far niente”” ثم تلك الراحة العميقة ونحن نشرح للآخرين كيف أنها مقولة إيطالية تعني «متعة ألا تفعل شيئًا».
قبل حادثة «آيس هارت»، اعتدت مشاركتها طقوس الحنان مع شركاء الكوكب البائس. نحنو على قطط الشوارع في مدينة جديدة على حدود الصحراء يقال إنها ذكية وتنتمي إلى مدن الجيل الرابع. نختلف في موقفنا من الكلاب العجفاء المتسخة، تلك التي تشعر بالغيرة فتأتي سريعًا حين تشم رائحة الطعام الجاف الذي نشتريه بسعر الجملة من عيادة بيطرية. تنبح بقوة ويتراقص ذيلها فرحًا، فتتخذ القطط وضعًا هجوميًّا. أبادر بالحل السلمي وأهم بإلقاء بعض «الدراي» للكلاب الجائعة، فتحذرني «كريستين»:
- حيوانات أليفة بدرجة بلطجية.
ترى في تصرف الكلاب تكريسًا لمنطق القوة وفرض الأمر الواقع، فضلاً عن قلة الذوق وانعدام التربية. أغيظها على طريقة اليساريين في السبعينيات:
- يا لك من برجوازية متعفنة!
فترد التحية بأحسن منها:
- يا لك من قروي ساذج خدعته كلاب المدينة!
في كل مرة ينتهي الأمر بأن تلقي حفنة من الطعام لكل كلب وهي تمسح على رأسه، ثم تخرج قارورة صغيرة لا تفارق حقيبتها الجلدية «الكروس» وتطّهر يديها بالكحول. تهمس:
- أعمل إيه في قلبي الوسخ؟
تعود من الكافيه بكوبين من القهوة وابتسامة حماسية هي كل ما أملك في مواجهة عالم غريب كففت منذ زمن عن محاولة فهمه.
***
فصل من رواية «آيس هارت في العالم الآخر» لـ محمد بركة، الصادرة عن منشورات إيبيدي؛ القاهرة 2023.
محمد بركة؛ روائي وقاص مصري، مواليد مدينة دمياط، يعمل كاتبا بمؤسسة الأهرام الصحيفة. صدر له في مجال الرواية: الفضيحة الإيطالية 2005، أشباح بروكسل 2019، حانة الست 2021، آيس هارت في العالم الآخر 2023. وفي مجال القصة القصيرة: كوميديا الانسجام 1999، 3 مخبرين وعاشق 2000، عشيقة جدي 2017، الحزن طفل نائم 2020.
