مقتطفات من مقالة لعيسى مخلوف
في الرابع عشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، غيّب الموت الشاعرة والفنّانة التشكيليّة إيتل عدنان في باريس عن عمر يناهز السادسة والتسعين. عدد كبير من الشعراء والكتّاب والنقّاد، ودَّعوها بمقالات تناولت سيرتها وتجربتها الأدبيّة والفنّيّة التي بلغت العالميّة في السنوات العشر الأخير. من هذه المقالات، ننشر، في ما يأتي، الترجمة العربيّة لمقتطفات من مقالة الشاعر والكاتب عيسى مخلوف التي صدرت في شهريّة “لوريان ليتيترير” في بيروت، تحت عنوان “التي عبَرت الحدود كلّها”.
“عندما التقينا المرّة الأخيرة في منزلها القريب من حديقة “لُوكسمبور”، كانت إيتل جالسة في قاعة الاستقبال حيث نلتقي في العادة. وكانت مُتعَبة ومتألّمة. لقد توقّفت عن تناول الدواء الذي سبّب لها الدوار. قلتُ لها: “سنتّصل بالطبيب، ونطلب منه أن يصف لك دواء آخر”. كان ردّها حاسماً: “لا توجد أدوية للشيخوخة”. في ذلك اللقاء، كان حاضراً كلّ من فوّاز ونوال وسيمون. لم نكن نشعر أننا التقينا حينئذ هناك لوداعها، بل لمتابعة حوار كنّا بدأناه منذ عقود. مرّات عدّة، كانت ترفع رأسها المنحني لإبداء رأيها بصوت خفيض، حول هذا الموضوع أو ذاك. كما تحدّثت عن نيتشه، وعن مفهومها للشعر. حتّى اللحظة الأخيرة، ظلّت إيتل عدنان تزاول الكتابة والرسم، كأنها لا تزال في صفحتها الأولى ورَسْمِها الأول، بالإرادة نفسها وبالحماسة نفسها.
توزّعت على جدران الغرفة التي حوّلتها محترفاً للرسم، وحتّى على الأرض، رسوم ولوحات كثيرة غير مكتملة، بدت أشبه بتخطيطات للوحات ستكتمل في الآتي من الأيّام. كانت هذه الأعمال كأنّها صلتها مع الحياة، تغرف منها جرعات هوائها الأخيرة. في الوقت نفسه، كانت أعمالها الفنّية، ولا تزال، معروضة في كبريات متاحف وغاليريهات العالم، ومنها غاليري “لُولُون” في باريس ومتحف “غوغنهايم” في نيويورك، و”مركز بومبيدو” في مدينة “ميتز” الفرنسيّة. هناك عُلِّقَت، الواحدة بجانب الأخرى، لوحاتُها الزيتيّة والرسومات التي أنجزتها بقلم الفحم والحبر الصيني، فضلاً عن “كُتب الأكورديون” التي برعت فيها وتشتمل، في الغالب، على رسوم ونصوص شعريّة. هذه الكتب التي تُفتَح على مصراعيها كأنّها منحوتات ورقيّة متطاولة عكسَت علاقتها باللون والكلمة معاً. وكم تشبهها هذه الأعمال التي تنتقل مثلها في الزمان والمكان، من لبنان إلى باريس وصولاً إلى سان فرنسيسكو، وتجتمع هنا وهناك، كأنّما لتستريح بعد سَفَر.
ما كتبته إيتل عدنان، شعراً ونثراً، يتحرّك في فضاء آخر غير الذي يتنفّس فيه نتاجها الفنّي. في أدبها، يتكشّف الطابع الملتزم عند شاعرة عُرفت بمساندتها القضايا العادلة، وفي مقدّمها القضيّة الفلسطينيّة. لكنّ الالتزام، هنا، لا يعني بالضرورة تحويل الأدب إلى خطاب سياسي، بل فتحه على آفاق إنسانيّة وجماليّة طبعت نتاجها بأكمله. أمّا أعمالها الفنّيّة فهي على صلة وثيقة بالطبيعة وعناصرها، وخصوصاً الشمس والبحر والجبال، وذاك الجبل بالتحديد، قبالة منزلها في “ساوساليتو” الأميركيّة، والذي انكبّت مراراً على رسمه، ومن وحيه كتبت كتابها الجميل “رحلة إلى جبل تَمَلباييس”.