مساراتملفات

حارس الخديعة خالد خليفة.. لا غفران لكلّ ذلك الموت | فاتن حمودي

خالد خليفة: كل كتبي عن حلب، إنها مدينتي، التي تعيش في أعماق نفسي، وروحي

حارس الخديعة خالد خليفة.. لا غفران لكلّ ذلك الموت

لا غفران لكل ذلك الموت، كما يقول الشاعر المكسيكي خافيير لوزانو، فما نعيشه هو رواية مفتوحة على كل الاحتمالات، والأهم أن يسقط احتمال اليأس، رغم قتامة المشهد، وهو ما تؤكده روايات خالد خليفة، الكاتب الذي رأى في حلب حبر روايته وألوانه وأنفاسه، لهذا قال عنها: «كل كتبي عن حلب، إنها مدينتي، التي تعيش في أعماق نفسي، وروحي»، وهو ما يدفعنا للتساؤل، ماذا يقول من شهد ورأى أماكن طفولته، وقد دُمرت، فقال «بقيتُ لأكثر من أربعة أيام أبكي».

وبالتأكيد فإنّ الوضع التراجيدي في سوريا، الحرب، تداعيات ثورة منهوبة، الفوضى، الاحتلالات، والصراعات، كل هذا جعل تجربته الروائية تنضج، وتنزاح إلى المكان والإنسان، وومضات التاريخ، فقارئ ديستوفيسكي، وماركيز، وتشيخوف، ونجيب محفوظ، وعبد الرّحمن منيف، والمعري وداتني، رأى بعين أخرى، ليكون أحد الشهود على الخراب الكوني الذي أصاب حلب، ودمشق، وكل المدن السورية، حارس الخديعة؛ وكأنني أسمع صوته يردد مع لوركا: «آه كم طويل هو الطريقُ، آه ليمهلني الموتُ قليلا حتى الوصول إلى قرطبة، قرطبة البعيدة، قرطبة الوحيدة»؛

وأقول هل بات الطريق إلى دمشق أشبه بالوصول إلى قرطبة؟

أم بات الطريق إلى حلب؟

أم صار الخراب لون الزمن، فلم يجد خليفة سوى الكتابة لينتصر عليه، فهل انتصر، وأسأل: لماذا نكتب، بل لماذا نعود إلى كتابات تشبه أرواحنا؟ وهل نستطيع القول بأن الحقيقة قبل 2011 غير ما بعدها؟

لا شك فإن سؤال الكتابة، هو سؤال الوجود، سؤال الكينونة، سؤال الهوية، وسؤال الأنا؛ فالكتابة فعل مقاومة، إنها لحظة ألم، تدعونا دائما لزمن ما بعد اليأس، وإلا ما جدوى أي شيء؟

روايات متتابعة كتبها خليفة، يشكل فيها الموت خيطاً، كأنه الطعنة، رواية «لم يُصلِّ عليهم أحد»، والتي دخلت في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، و«الموت عمل شاق»، و«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، التي حصلت على جائزة نجيب محفوظ. و«مديح الكراهية»، التي رُشِّحت لجائزة الأندبندت العالمية،  و«دفاتر القرباط»، و«حارس الخديعة»، فهل شكلت الكتابة حارسا للخديعة، في لحظة ما، فلم يحتمل القلب، فصمت لتكتمل روايته بغيابه، وبهذا الموت الفاجع.

النفي المؤلم

بعد عامين من الحرب، جاءت رواية خالد خليفة «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، فمن خلال أسرة، يرصد التحولات والمآلات التي تعرض لها السوريون منذ 50 عاما، ترصد آليات الخوف، والتفكك الأسري، والرغبات المقتولة، عبر سيرة عائلة، تضعنا أمام رواية أشبه بالدراما، أو فيلم سينما طويل، المأساة هنا هو تحوّل جثة الأم إلى خردة لابد من التخلص منها، وكأننا أمام محوٍ مريب، وهل يمكن للعالم الذي نعرفه أن يختفي، وأن تتلاشى الأمكنة، وأسماء الأشياء، وأن نخاف البوح، حتى بأسمائنا، وحاراتنا، ومدننا؟

لا أدري لماذا أعادتني صورة الأم، بل صوت الخوف إلى رواية «شرطة الذاكرة»، للروائية اليابانية يوكو أوغاوا، والتي تتوقد بالسرد الفانتازي الغرائبي، في محيط (جزيرة)، كل ما فيها خنق الذاكرة ومحوها، والتي يحاكم فيها الإنسان الذي يملك الذاكرة، بل يعتبر مجرما يستحق القتل، من لم يستطع أن يمحو ذاكرته، تخيل أن يختفي صوت الِّشعر، والأجراس، والزمرد والطوابع والورود، والحدائق، أن ترمى الأشياء إلى النهر، كي تُنسى، فتلجأ إلى الكتابة حتى لا تنسى أسماء الأشياء التي تختفي، وهو ما قام به  خليفة في رواياته، وما أكده في حواراته: «أريد من السوريين أن يعيدوا قراءة التاريخ، وأن أسأل من طرد السوريين المسيحيين واليهود من مدينتهم- من هم أبناء بلادنا- ومن أحبط مشروعهم الصناعي الكبير ومحاولتهم أن يكونوا جزءا من العالم المتحضر. والسؤال اليوم من قرر أن الديمقراطية محرمة على هذا البلد؟».

الموت عمل شاق

هنا يمكننا القول بأن المشكلة ليست في الموت، وإنما في الحياة، وهناك حدان البداية والنهاية لا يختارهما الإنسان مكان الولادة، هذه الحتمية بمكان الولادة، وحتمية الموت، وهو ما نعيشه، ونقرأه في الوصايا، والذي يحمل بعد وجودي، وكي تكتمل الدائرة، أي أن أموت في المكان الذي ولدت فيه تلك الحتمية المفروضة على الإنسان.

في «الموت عمل شاق»، ثمة رمز وهو رحلة الأخوة، وهم يحملون جثة أبيهم، لينفذوا له وصيته، بأن يدفن في مسقط رأسه «العنابية»، رحلة تبدأ من دمشق، وذاك الطريق، الذي يحمل إشارات اليأس، وما بعد الموت، في إشارة إلى حياة تتأسّن كما الجثة تماما، وتسري فيها الدود، حواجز الشرطة، والمسلحين من المتشددين، المزاجية، الأرق، فيفكر «حسين» برمي الجثة أو دفنها في أيّ مكان يجده، هنا نستطيع أن نصرخ، تؤلمني الحياة..

الموت هنا يتحوّل إلى عبء، إلى ماراثون، يلتصق بنا/ بثيابنا/ بهوائنا، لدرجة لا نستطيع الفكاك منه، وكأننا في متاهة، يصعب الخروج منها.

اللاموت اللاحياة

تصوّر الرواية، الموت الذي يلاحق الموتى، الموت الذي يلاحق الحياة، وصف طويل من المهمشين والخاسرين، والملاحقين بالتهم، لأنهم أبناء قرية أعلنت الثورة، الكل مدان هنا، وملاحق، وكأن «الموت» بطل الحكاية، ولا شيء غيره.

 ويشكل إصرار أحد الأخوة ويسمى «بلبل» على دفن والده في «العنابية»، وكأنه خيط الأمل الأخير، في اكتمال الدائرة، وحماية تقاليد الأسرة، وهذا ليس وهما، بل خيطا وجوديا، يربط الحيَّ بالحياة والمكان، وما تبقى من رمق، لكن بلبل عجز تماما، مثل «ليلى»، أخت عبداللطيف التي انتحرت حرقا، أشعلت نفسها كي لا تجبر على الزواج بمن لا تحبه، هكذا ندخل الحرائق ولا نستطيع الخروج منها.

هنا نرى الأسرة السورية تتداعى، 160 صفحة، نقلبها مع الألم، والعتمة، وحرب تأكل الأخضر واليابس، وكأننا أمام رحلة تحمل معها أسئلة بلا نهاية، من نحن، من أنا، من أنت، ما الوطن، ما الأسرة، ما المدن، من خلال وصية تشكل بطريقة ما، خطا بيانيا لسؤال الولادة والموت.

وكأننا أمام قراءة الصمت، والحركة، والداخل الذي ينعكس في العيون، بل اننا أمام فيلم من شدة واقعيته نرى لحظات الحرب، صوره، فالرواية ابنة الحرب، والأمل معاً.

وتبقى العائلة، وكأنها الخلاص، أو كأنها ما تبقى من وطن، لكنها في رحلتها بين دمشق وحلب، بين الحياة والموت، بين الموت والموت، والتي تعيدنا إلى هاجس السوريين، في التمسك بالعائلة، وهو ما نتلمسه في «مديح الكراهية»، وفي العمل الدرامي «سيرة آل الجلالي»، وفي «لا سكاكين في مطبخ هذه المدينة»، العائلة هي موضوع هام يأسره، وهو ما يؤكده خليفة في إحدى حواراته: «من المعروف بأن الكائن لا يختار عائلته، لكنه يستطيع اختيار حياته بعيداً عنها لو أراد. لكن الموضوع ليس بهذه البساطة، العائلة تنتج شكلها وسلطتها وأخلاقياتها التي لم تتفكك حتى الآن، وفي مجتمعات تشبهنا تعتبر العائلة والموقف منها الناظم الرئيسي للأخلاق»، فهل الموت يجمع، أم الحياة نفسها، وكأنها جذر الهوية، والسؤال الصارخ، في وجه وطن  يتفسخ، أمام هويات قاتلة، يصبح فيه المكان مقبرة جماعية، ورغم كل شيء هناك لحظة ضوء تشكلها الكتابة، هناك صوت جريء، وهناك الطريق المحكوم بالألغام والحواجز، من الشام  إلى العنابيّة، زمن كابوسي، مسرح عبثي، وتساؤلات قلقة يحملها أولاد عبداللطيف، حسين وبلبل وفاطمة، الألم طريق، يدفعون رسوم الموت ولا يمرون، يحجز الضابط هويّات الجميع، فـ«لن تمر البضاعة من دون رسوم»، وهو ما يُحزن «بلبل وهو يرى كيف تحوّلت جثة أبيه إلى بضاعة «كفحم النرجيلة وصناديق البندورة وأكياس البصل».

الوضع التراجيدي في سوريا، الألم، الشتات، مدن تنزاح كل هذا جعل من أغنية خمرة الحب، خمرة الحرب، في البحث عن لغة توازي قصة موت معلن، هكذا تصبح الكتابة نسغ الحياة، ويبقى خالد حارس الخديعة هناك، معانقا تراب وطنه المغمّس بالدم، وتبقى ضحكته المجلجلة ترن وترن وترن، فقط اسمعوا جيدا.

***

حارس الخديعة خالد خليفة.. لا غفران لكلّ ذلك الموت؛ بقلم فاتن حمودي

فاتن حمودي؛ شاعرة وإعلاميّة سورية تقيم في الامارات

الخديعة

خاص قنّاص – ملفات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى