خالد خليفة.. الغائب الحاضر
إلى أن تُنشر الرواية المخطوطة لخالد خليفة، سيظل ما أودعنا من عالمه الروائي مثل القمر الذي عليه أن ينتظر يوماً أو لحظة قبل أن يصير بدر التمام.
وإلى أن يصير هي ذي عناصره تتغيّا وتتفاعل: بشراً وفضاءات ورؤىً وتاريخاً، وهذا ما تأكد منذ روايته الثانية (دفاتر القرباط – 2000) بعد سبع سنوات من روايته الأولى (حارس الخديعة) التي أربكتها ظلال الشعر، والمعزوفة الروائية المألوفة في روايات الكتاب القادمين إلى دمشق من بيئات ريفية (حيدر حيدر في الزمن الموحش – 1972 – خير مثال). فدمشق في باكورة خالد هي، كما كتب، «هاوية الانتظار وأسوار البلور»، ودمشق تشطر الراوي، لا تفتح له أبوابها…
إذا كانت (دفاتر القرباط) قد توسلت البناء الروائي الأليف، وجاءت في أربعة دفاتر، فقد أعلنت عن عناصر كبرى وأساسية في عالم الروائي، من قرية العنابية إلى الحفريات التاريخية (الحروب والهجرات والمجاعات…) إلى الغرائبية في شخصيتي الجدة والأب… وهنا، لا يستقيم القول في روائية خالد خليفة إذا لم يأخذ في الاعتبار أن المسلسل التلفزيوني الأول الذي كتبه (سيرة آل الجلالي) عُرض سنة ظهور (دفاتر القرباط)، وبالتالي، تزامنت وتفاعلت كتابته لهذه الرواية مع كتابته للمسلسل، وهو ما سيتضاعف روايةً بعد رواية ومسلسلاً بعد مسلسل وصولاً إلى عام 2015، إلى (العراب) الذي أعدّه عن الرواية الشهيرة لماريو بوزو، وأخرجه حاتم علي، ومسلسل (وجوه وأماكن) الذي أخرجه هيثم حقي.
جاء حضور خالد خليفة كروائي وكسيناريست باهراً. ولنلاحظ أنه كان قد بات له تسع مسلسلات قبل أن يتوقف عن هذا اللون من الكتابة، بينما كان قد بات له ثلاث روايات (دفاتر القرباط – مديح الكراهية – لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة). ومن حسن الطالع أن السيناريست خالد خليفة قد التقى بالمخرج هيثم حقي منذ البداية التلفزيونية، وهو ما كان أيضاً من قبل مع الروائي نهاد سيريس في المسلسلات الشهيرة (خان الحرير بجزأيه – 1996 – 1998) و (الثريا – 1997). وقد كانت مدينة حلب هي الفضاء الأثير لهذه المسلسلات كما لروايات الكاتبين، وكما لروايات وليد إخلاصي وفيصل خريتش ونيروز مالك من أبناء حلب، وبدرجة أدنى في روايات أخرى لخليل الرز وشهلا العجيلي وكاتب هذه السطور، من غير أبناء المدينة.
لا يغيب الريف، وبالتالي الطبيعة، عن العالم الروائي لخالد خليفة. لكن حضور الريف يتفاوت من رواية إلى رواية. ففي (مديح الكراهية) كما في (لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة) يتراجع هذا الحضور، على العكس مما في (لم يصلّ عليهم أحد)، بل وفي (الموت عمل شاق) أيضاً. وقد كانت المفاصل السورية الكبرى خلال القرن العشرين وصولاً إلى سنوات الزلزلة / الثورة السورية عماداً لكل ما أبدعه خالد. حين نقرأ في كتابه الأخير (نسر على الطاولة المجاورة): ما ينادي جثث أطفال غزة الآن: «دوماً في جثث الأطفال الذين لم يموتون جوعاً أو غرقاً كما حدث لمئات الأطفال السوريين في السنوات الأخيرة، تستطيع إيجاد مستقبل العالم الذي يتم دفنه ببرودة ودون أي شفقة».
لم يقع خالد خليفة فيما وقع به غيره من الجعجعة الثورجية على حساب الفن الروائي، وهذا ما وسم حياته أيضاً. وقد كان ذلك من أهم وأقوى ما جمعنا بعد 2011، وبعدما صار له بيت (شاليه) في اللاذقية. ولئن صحّ ما يقال عن استشعار الإنسان للموت، فقد يكون من ذلك، منذ رواية (حارس الخديعة) قول خالد: «للموت عيون ملونة». وإذا كان قد حدق في هذه العيون، وإذا كانت هذه العيون قد حدقت فيه وبخاصة، في رواية (مديح الكراهية) وفي رواية (الموت عمل شاق)، فربما كان ذلك التحديق من أسرار كتاب (نسر على الطاولة المجاورة: دفاتر العزلة والكتابة – الدفتر الأول – 2022).
مثل هذا الكتاب يكتبه صاحبه عادة في شيخوخته، وليس في خمسينياته، إلا إن كانت النجومية قد بدأت تبلوه بالنرجسية، وليس خالد خليفة من أصابته هذه البلوى على الرغم من النجومية التي تحققت له. وقد كانت لي اعتراضات شكلية على ما وسم هذا الكتاب من لغة الآمر الناهي: «ابدأ من أعلى درجات الزندقة – كن ساخطاً على كل شيء – لا تقرأ كتب النقد..» بالإضافة إلى ما أحسبه شططاً، كما في وصفه الخيال بجثة كلب ميت أو بحذاء مثقوب، وهو من يقول أيضاً: «كتابة دون خيال هي كتابة ميتة». أما استشعار الموت، فهل يتخفى في مثل هذا السؤال: «لماذا لا أكتب كل ما أراه جديراً بالكتابة فوراً؟»، أو في مثل هذا القول: «لم يعد لي أي شيء»، وأخيراً في قوله: «سأطلب من أصدقائي كيف يحتفلون بذكرى موتي».
***
خالد خليفة.. الغائب الحاضر؛ بقلم نبيل سليمان
نبيل سليمان؛ ناقد وروائي سوري