الفصل الثالث من رواية «لعنة سين»؛ حيث يأخذنا النوخذة العيدروس على ظهر السنبوق من صور العُمانية في رحلة تعبر المحيط الهندي إلى شمال أفريقيا …
***
رسالة III
إلى زوجتي الحبيبة أم حمد، ابنة عمّي الغالي
لقد تركت هذه الرسالة برفقة من أأتمنه على شؤون بيتي عند ارتحالي، وتعلمين يا زوجتي الحبيبة أنّ الأقدار بيد الله، فإن كانت الرسالة بين يديك الآن، فاعلمي أن الله قد أخذ أمانته ولّا حول ولّا قوة إلّّا بالله، وعليه فإنّني ائتمنك على ابنتي من زوجتي في مقديشو واسمها سعاد، واسم أمّها فرحية من حي براوي، وقد تزوّجتها بحكم الشرع، فلا تنسيهما من ميراث أبيهما، والسلام ختام.
زوجك الراجي لرحمة ربّه – العيدروس.
12 رجب 7031 هــ
1889 – خور جراما
تحرّكت السنبوق من خور جراما بعد صلاة الفجر، بعد أن اكتمل طاقمها. كان العيدروس نوخذة الرحلة إلى بمبا الأفريقية التي ستمتد لشهور عديدة، وقد موّل الرحلة تاجر التوابل المعروف سعيد بن سيف، وأحسب أن غايته من وراء هذه الرحلة أن يظفر بعدد من العبيد الأفارقة ليعملوا في حقله الذي انشأه بعد نجاحه في أول تجربة لزراعة القرنفل. كما أن لطمع السيادة نصيب في نفسه بلا شك. فسعيد بن سيف ليس من تلك الطبقات ذات النسب العظيم في صور، لكنهّ الأوفر مالًّا، وماله وإن كدّسه حتى يطوله لن يجعل منه سيداً في صور، لهذا قرر أن يكوّن مملكته في مكان بعيد حيث لّا يعرفه أحد.
لقد ابتعدنا عن الشواطئ العُمانية نصف يوم. اسمي عبدالله، لكنّ لّا أحد يناديني بهذا الاسم أبدًا، فعادة ما ينادونني بألقاب عديدة كأبو عبيد وعبّود وعبّاد كما تفعل أمّي ذات الأصول الأفريقية. أما عبدالله فهو الّاسم الموثّق في ورقة استخرجها لنا مدير الرحلة فقط لغرض السفر وهو الاسم الذي قالت لي أمي بأنه لي.
على الصارية حمد العيدروس، هو أيضا ابن النوخذة. كان في نفس عمري تقريبا، يصرعني دائمًا عندما كنا نخرج من مدرسة القرآن، لا لشيء سوى أنّني أوفر الناس حظّا في القراءة والحفظ، على الأقل هذا ما يقوله الشيخ خلف الذي يقوم بتدريسنا اللغة العربية والقرآن، وهو ما يزال محافظا على شيئين: بلادته وقوة بنيته.
في السنبوق ما يزيد عن اثنى عشر من العبيد الأفارقة الذين يعينوننا على الصارية والطبخ وتنظيف سطح السفينة. يقول النوخذة بأن الرحلة في الشتاء تستغرق وقتًا أطول لتسارع الغروب، لكن ذلك ليس مهمًا لي طالما أنّ بلالا لن يتوقّف عن صنع الثريد كل ليلة.
رياح المحيط الهندي تسكن ليلًا، ثم تصخب في النهار دون توقّف، وهو ما يسهّل سير الرحلة، وهو الوقت الذي اختاره العيدروس في ظل رياح الأزيب الشرقية المهمّة كما يسميها.
العيدروس سيد البحر كما يقولون في صور، وهو الوحيد الذي لم تته ولم تغرق له سفينة في البحر قط. كان بارعا في تتبّع النجوم، وتحديد المسارات والمواقع في زرقة البحر الممتدة. يقول الحكّاؤون في البلد أنه كان يعرف أحوال الطقس بالّاستعانة بجان البحر، وبالإسطرلّاب والكمال والديرة والباطلي. قال العيدروس لنا أنّنا سنصل إلى عدن خلال أحد عشر يومًا منذ بدء الرحلة، وسنتوقّف هناك لنتزوّد بالمؤن والسمك الجاف والماء.
أمّا أنا فلم أكن بحارًا يومًا ما، وعلاقتي بالبحر تقتصر على اصطياد سمكة بالخطأ، حيث أتت سمكة ضالة ورمت بنفسها في شباكي، ولأني لست بصياد ولا لي حاجة بها سوى الفضول، رميتها على مقربة من الساحل. لّا أعلم إن كان يحق لي بعد هذه الخبرة أن ألقّب نفسي بصيّاد. أما في هذه الرحلة فقد كانت لي فائدة أخرى لّا تتعلق بالصيد في هذا البحر المتلاطم، فقد استخدمني النوخذة لمعرفتي باللغة السواحليّة واللغة العربية، وإجادتي للحساب. وعدا عن تلكما الميزتين فلا شيء، فحتى لون البحر لا أستطيع الجزم بأنه أزرق!
وصلنا عدن في الرابع عشر من شهر أكتوبر. توقّفنا فيها لنصف يوم فقط. نزلت برفقة النوخذة إلى مرفأ المدينة، وأخذ معه خمسة من العبيد بغرض حمل المؤونة التي سنشتريّها إلى السنبوق. ذهبنا إلى السوق، وبقيت معه أدوّن الحسابات والمبالغ التي يجب أن تعاد إلى مالك الرحلة عند عودتنا. عدن مدينة مزدحمة كما يبدو، فمرفأها يعج بالبشر، وهي محطة وقوف للرحلات البحرية المغادرة إلى أفريقيا. رأيت في المرفأ مختلف الأجناس والأعراق من عرب وعجم وأفارقة وهنود. عند قرب الغروب شرعنا في العودة إلى سطح السفينة وأسدلت الأشرعة حتى لّا تسكن الرياح بالليل فنبقى متأخرين عن القوافل، كما يقول النوخذة.
بعد يومين وصلنا إلى أرخبيل صغير، لا ينعم بالهدوء أبدًا لكثرة المارين عليه. سقطرى؛ قلب ممر القوافل التجارية نحو القرن الأفريقي، وقد رسا سنبوقنا في مرفئها الصغير، فأرسل النوخذة على عجلة من أمره في طلب أحد التجّار، فجاء وابتاع مناّ كل أخشاب السمر والغاف والتمر والليمون المجفّف، ثم أكملنا المسير وصولا إلى جزيرة عبد الكوري، فتزوّدنا منها بالكثير من السمك المجّفف وأكملنا المسير حتى رأس حافون. هناك اضطررنا إلى التوقف ليلتين لصيانة السنبوق والتجهّز لرحلة طويلة ستكون متواصلة دون توقّف لسبع ليالٍ حتى نصل إلى مقديشو.
سألت بلالا: كم من الأبناء لديك؟
– في آخر مرة كانوا تسعة، قد يكونون عشرة عند عودتنا.
-وكيف تطعمهم؟ أحسب أنّك لّا تعمل سوى عند سيّدك.
-أجل، سيدي لّا يبخل علينا بشيء، نحن نخدمهم وهم يطعموننا.
-ولم لا يذهب أبناؤك للتعلّم في الكتاتيب؟
-وكيف سيخدمون سيّدهم صباحًا إذا قضوا جلَّ وقتهم في الكتاتيب، ثم فيم سيفيدهم التعلّم؟ هذا لكم أنتم، أمّا نحن فهذا قدرنا ونحن سعيدون به.
بلال هذا الرجل الأمّي، مملوك هو وعائلته لسعيد بن سيف. بلال يملك أطيب قلب في صور وكل من هناك يشهد على ذلك. المسكين لا يستطيع المشيء كثيرًا بسبب وزنه الثقيل، حتّى أنّه يطبخ جالسا إلى أن يكمل طبخته. كنا نراه جاثما أمام القدور الكبيرة في الأعياد، يحرّك بالقطعة الحديدية الكبيرة الأرز واللحم، ويقوم أبناؤه بمعاونته في باقي المهمّات.
يقول بلال أنّه رجل المهمّات المستحيلة، وقد أخبرنا أنّ سيّده طلب منه ذات يوم إعداد وليمة لكل صور، وكان في ظرف يوم واحد فقط! كانت مناسبة تلك الوليمة شفاء ابن النوخذة من الجدري ونجاته من المرض الذي صرع الكثيرين غيره، فقرّر سيّده دعوة الجميع للوليمة، وكان بلال بطل ذلك اليوم.
بعد أن يفرغ من إعداد وجبة العشاء، يذهب بلال متصدرًا المشهد عند الصارية كل يوم، حيث يجتمع الركاب حوله يستمعون إلى قصص الجان العديدة التي لّا يكرّرها أبدًا. من يستمع لقصص بلال يخيل له أن القصص لديه لا تنفد ولو جبنا العالم! أمّا أكثر تلك الحكايات دهشة فهي تلك الحكاية التي قال إنه رأى فيها والده تعيب فوق سطح العريش الذي ينام فيه بعد أن مات ودفن في نفس الليلة، والأغرب أنّه ذهب إلى قبره ليتأكد وقام فنبشه ولم يجد أباه فيه! كان ذلك كفيلًا لأن نتحسّس أجسادنا في الليل مخافة أن نرى أبا بلال بين ثنايا السنبوق يومًا ما.
يقول النوخذة عن مقديشو أنهّا كانت تحت حكم سلطان زنجبار حتى وقت قريب؛ أي أقل من عقدين فقط، أمّا عن سبب فقدان السلطان لها، فلا حول ولّا قوة أمام المدِّ الجارف من المستعمرين الراغبين في الاستيلاء على أحد أهم المراكز البحرية في العالم والتي تربط المغرب بالمشرق، فالهولنديون والإيطاليون والبريطانيون والبرتغاليون لم يتوقّفوا عن النيل من بعضهم بعضا من أجل هذه المنطقة التي خصّصت فيما مضى كمعسكر للمنفيين. أمّا ما يخفّف علينا هون الرحلة هو ذلك التوق في حديث النوخذة عن مقديشو المدينة الساحلية الساحرة والتي عادة ما يقول أنهّا تجعله يحن كثيرًا إلى مسقط رأسه صور، وأنّه حين يصلها يذهب للاعتكاف في مسجد فخر الدين زنكي لثلاث ليال صائمًا ومصلّيًا. وعلى الرغم من أنّه لّا تجمعه بسكان هذه المدينة أية صلة وأي نسب، إلّّا أنّنا تلمّسنا الحب الكبير الذي يكنه لها. ذلك التوق لّا يمكن أن يكون للمدينة، بل لشيء آخر؛ امرأة.
لديَّ عدد لّا بأس به من الروبيّات، أوصاني والدي أن أستخدمها في شراء القطن من مقديشو. وقال لي أن أهل بمبا وزنجبار لا يعرفون عن القطن شيئا، لذا يرغبون في اقتنائه أو بيعه للمستعمرين بمال وفير، لذا سأحرص عند وصولي على شراء القطن بكل أموالي، لعلّي أضفر بالمال الذي يكفيني للزواج من سِعدة. سعدة التي هي أيضا ابنة مالك الرحلة.
سألتُ بلال وبداخلي شغف عظيم في استطراده حول الاجابة:
- بلال.. كم تبلغ سِعده من العمر تقريبًا؟
- لّا أعلم بالضبط، لكنهّا ولدت في ذات العام الذي ولد فيه مبروك.
- وكم عمر ابنك؟
- لست متأكدًا، ولد في ذات الفترة التي جنحت فيها البغلة أمام المرسى.
- ومتى حدث ذلك؟
- في ذات الفترة التي ولد فيها مبروك.
- يا إلهي.. ألا تجيد شيئًا عدا الطبخ؟
- بل أستطيع عمل أشياء كثيرة، الثريد والخبز المسمّن و..
- يا بلال، كل هذا يندرج تحت مسمى الطبخ. حسناً أخبرني، هل سعدة مخطوبة؟
- الطبخة؟
- سِعدة يا بلال سعدة
- لّا، فهي الابنة الوحيدة لسعيد بن سيف، ولّا أظن سيزوجّها لأي أحد.
- أظنُّ ذلك أيضًا.
كان الجو على سطح السفينة لاسعًا بالنهار من حرارة شمسه الّاستوائية. يمكنني احتمال تلك الحرارة ولكن وحده دوار البحر ما يتلف جسدي. أمّا بالليل، فحمدًا لله أن أمّي قد نسجت لي من صوف الماعز ما يجعلني في دفء تام.
قضينا ليالي رحلتنا كلّها في الّاستماع إلى بلال وقصصه التي لّا تنتهي. حتى النوخذة كان يجلس بالقرب منا شارداً يستمع في صمت. لّا ندري هل كان يستمع إلى تلك الحكايات معنا أم أنه يستمع لنداء بعيد يأتيه من خلف ذلك المحيط العظيم.
***
فصل من رواية «لعنة سين» لِـ بسّام علي، الصادرة عن دار عرب ٢٠٢٣
بسّام علي الكلباني؛ روائي عُماني