يطرح الفنان مفاهيم مختلفة حول المكان والزمان والبشر، وعلاقات الألفة والمحبة السائدة في الأحياء الشعبية
يتحرك الفن التشكيلي المصري الحديث في اتجاهات مغايرة لدى أحدث أجيال الشباب، الذين يراهنون في تجاربهم على أبجديات “البوب آرت” أو الفن الدارج الجماهيري، بكل ما يستوعبه من توهج الروح الشعبية والنزعات الارتجالية والميل إلى التهكم والسخرية لكسر قوالب الصالونات والتحرر من مفاهيم ثقافة النخبة وقواعدها التقليدية.
تحت هذه المظلة، يأتي معرض التشكيلي أحمد ليسي الذي ينظمه غاليري “مشربية” للفن المعاصر بالقاهرة (20 يونيو/حزيران – 20 سبتمبر/أيلول 2022)، ويستضيفه بهو فندق بريزيدنت في حي الزمالك، حيث تتاح الأعمال للمشاهدين في سياق حيوي تفاعلي، يبتعد عن “المكعب الأبيض” المألوف في صالات العرض.
عبر سلسلة من الأعمال الهزلية والمرحة، يدعو ليسي إلى قراءة الحياة المصرية المعاصرة بأسلوب ساخر، متهكمًا على الواقع النمطي الروتيني من جهة، وعلى تقاليد الفن وأطره المدرسية من جانب آخر. يطرح الفنان مفاهيم مختلفة حول المكان والزمان والبشر، وعلاقات الألفة والمحبة السائدة في الأحياء الشعبية، خصوصًا منطقة “أرض اللواء” بحي إمبابة، التي يستمد منها الفنان الكثير من مشاهده وأفكاره وصوره.
تجسّد أعمال المعرض أحدث صيحات “البوب آرت”، ذلك الفن العصري الساحر الساخر، الذي يشكل إلى جانب “الكوميكس” و”الكاريكاتير” و”الغرافيتي” رؤية متمردة على ثقافة الصالونات الكلاسيكية الجامدة، ونظريات الفن التقليدية المحنطة، انطلاقًا من أن ما يجتذب الناس ويؤثر فيهم يجب أن يكون نابعًا من الحياة بشكل مباشر، ومعبرًا عن حركة الواقع ببساطة، ونبض البشر، وفق نظرة انتقادية، وبوسائط دارجة متداولة جماهيريًّا.
يقترح الفنان في أعماله خصوصية المكان كمنصة أولية للانطلاق نحو استبصار ذاتي خاص على كل المستويات في التعاطي مع المناظر والأشياء والعلاقات، ورسم خرائط للبشر والأمكنة، ووصف تفاصيل الحياة اليومية والواقع المصري بكل ما يحمله من عفوية وتناقضات وروح طازجة قادرة على التسلح بالدعابة و”النكتة” في أحلك الأزمات.
يستوحي الفنان أحمد ليسي (27 عامًا)، المتخصص في التصوير والماريونيت (الدمى المتحركة)، نظريات البوب آرت الحديثة التي ترى الفضاء مستودعًا للأفكار والتنبؤ والحدس والاستشراف والاستشفاف من خلال المشاعر والعواطف، لكشف ما يدور في أعماق النفس والطبقات الداخلية للإنسان، بحيث لا يكتفي التصوير بالتقاط الأسطح الخارجية، والملامح الظاهرية، وإنما يهتم أكثر بكشف الجوانيات، وتلمس الجوهر، وبلوغ الحقيقة والماهيّة.
تجسد لوحات المعرض تجليات البوب آرت كفن زاخم مساير للعصر، قائم على المزج بين الوسائل البصرية المتنوعة المتواكبة مع حركة الجماهير في الشارع خلال الثورات والاحتجاجات وغيرها، ومع روافد الثقافة الشعبية ومنابعها المختلفة، دون إخلال بمنظور الفنون التشكيلية، فالفن من هذا المنطلق تحرر وشمول، ودعوة لتخلص الكائنات والمواد من سياقها، لتقترح صورها الخاصة من خلال الفنان، وكأنها تقدم ذاتها بذاتها.
يقدم ليسي رؤيته البصرية المركبة، مرتكزًا على مجموعة من الصور الفوتوغرافية للبشر والأمكنة ولأحداث ومناسبات اجتماعية مختلفة، ومن خلال هذا الأرشيف الشخصي للاحتفالات والمقاهي والأسواق وغيرها من المشاهد، يعيد الفنان إنتاج هذه الصور الفوتوغرافية على هيئة لوحات تصويرية وفق فلسفة البوب آرت، لتشكل في تجاورها وتجاورها وتتابعها سيرة بشرية للمكان الشعبي، وسيرة مكانية للبشر من العاديين والبسطاء في حركتهم وتنقلاتهم وأنشطتهم النهارية، وسهرهم الليلي.
تشكل البكارة والطزاجة والألفة والمحبة والحميمية، والقدرة على مواجهة المشكلات والتحديات بالابتسامة وبالتهكم والسخرية اللاذعة، مفاتيح قراءة أعمال المعرض، الذي يأتي كاشفًا مقوّمات الشخصية المصرية، وعناصرها الأصيلة، التي إن توارت قليلًا خلف أتربة العصر وملوثاته، فإنها تبقى كامنة خلف الحجب. وتمثل هذه الأرواح الصافية خزانًا عملاقًا يستلهم منه الفنان حكاياته عن المكان وما يدور فيه، ونسج دراما سردية من خلال الشخوص المتحركة الفاعلة، التي يصورها بأسلوب قصصي، وبملامح معبرة، فيها الكثير من سمات الكوميكس، وبدون تعليقات أو عبارات مصاحبة.
ويعود فن البوب (اختصار كلمة popular الإنجليزية بمعنى: الشائع أو الدارج أو الجماهيري) كحركة فنية بصرية إلى خمسينيات القرن الماضي، حيث ظهرت الحركة في بريطانيا، ومنها انتقلت إلى الولايات المتحدة. وتنبني مفاهيم الحركة على كسر القوانين السائدة وتأكيد أن الفن بإمكانه استعمال سائر الوسائل البصرية التي تتواكب مع الثقافة الشعبية وتتسق مع منظور الفنون الجميلة، وذلك بعد تحريرها من سياقها المجاني. ومن ثم، يحرص فنانو البوب على استخدام الصور الجاهزة والمتداولة وقصص الكوميكس وصور الإعلانات والعلامات التجارية وما إلى ذلك، بعد الاشتغال عليها فنيًّا بآليات مبتكرة.
وشأن هذه المفاهيم العامة التي تقتضيها أبجديات البوب آرت، يطلق الفنان أحمد ليسي في لوحات المعرض العنان للخيال الفني للتحليق عاليًا في تجسيد ملامح الحياة والبشر والأحداث بمواصفات مغايرة، فالفن هنا هو ملامسة المواقف والمشاهد وحكيها من وجهة نظر ذاتية أكثر منه منظومة حسابات للتعامل مع هذه المفردات وتقنينها. ويحقق الانفلات الكامل مراده في المعرض بمغازلة الخيال الشعبي، والإيحاء للمتلقي بأنه يطالع نفسه في مرآة، لكنها ليست مرآة مستوية بطبيعة الحال، فهناك ما يجري تضخيمه، وهناك ما يجري تقليصه، وربما حذفه، ومن هذه المبالغات والمفارقات تتولد روح السخرية والتهكم وأجواء المرح.
يفتح المعرض الباب باتجاه العودة إلى الواقع المحلي والنهل من معين التجارب المعيشة، ويجسد هذا الاتجاه ثورة في عالم الفنون البصرية في الوقت الراهن، إذ صارت التيارات الذهنية والتأملية والتجريدية تعاني الانحسار بدعوى فوقيتها ونخبويتها وابتعادها عن حركة الشارع، وبدأت الفنون الشعبية والدارجة تسحب البساط وتلقى الاهتمام الجماهيري الأكبر بما تحمله من بساطة ومتعة وإدهاش وقدرة على التأثير. ينقل الفنان أحمد ليسي ببراعة عبر وسائط الفكاهة بانوراما كاملة لصورة الحي الشعبي القاهري بأناسه (الذكور، الإناث، الأطفال) وأحداثه ومعالمه، محققًا شروط الحياة بالطريقة التي يختارها هو، طارحًا التساؤلات الدارجة المقترنة بالحياة اليومية (العمل، كسب العيش، العلاقة مع الآخر، إلخ) بوسائل سهلة في مجملها، متحررة من الجدية، لكنها عميقة في الآن ذاته، تلخص مكابدات الإنسان ومعاناته، وتصوراته ومدركاته وعلاقته بالعالم، وفق فلسفة البوب آرت وثيماته الرشيقة الشيقة.
شريف الشافعي: شاعر وكاتب من مصر