مساراتملفات

مُنتخبات من كتاب «نسرٌ على الطاولة المجاورة»: الأقسى من الكتابة انتظارها

خالد خليفة: المستبدّ يحبّ أشباه الكتّاب. المستبدّ يكره الكتّاب لأنهم يحطّمون سرديّته وتماثيله

مُنتخبات من كتاب «نسرٌ على الطاولة المجاورة» لـِ خالد خليفة: الأقسى من الكتابة انتظارها

مُنتخبات من كتاب «نسرٌ على الطاولة المجاورة»، الصادر سنة 2022 عن دار هاشيت أنطوان/نوفل في بيروت، وهو آخر إصدار للروائي السوري الكبير الراحل خالد خليفة.

مُنتخبات من كتاب «نسرٌ على الطاولة المجاورة» لـِ خالد خليفة: الأقسى من الكتابة انتظارها

1

الكتابة تعاني من سوء فهم مِن قبل الآخرين وفضولهم.

الكتّاب يحاولون شرح خصائص ومصاعب وصفات مهنتهم كي يثيروا التعاطف معهم، لكن دون جدوى.

غالبًا يبدو هذا الشرح سيّئًا، لا قيمة له، إن لم يشوّه عظمة هذه المِهنة، ويعترف للآخرين بحقّ التدخّل وإبداء الآراء بطريقة صنع النص.

على الكُتّاب ألّا يسلّموا أسرارهم، ليكتشف الآخرون ما يثير فضولهم بنفوسهم بعيدًا عن الشروحات البائسة، على الكُتّاب أن يزيدوا من غموض ألمهم، ويعترفوا بعجزهم عن إعادة توصيف ذلك الألم البهيج.

اللاذقيّة
1/5/2001

2

حين يشرح الكتّاب مهنتهم يبدون كلاعبي أكروبات في سيرك، يستجدون تعاطفًا من جمهور لا يفقه شيئًا في السيرك، وقوانين التوازن، كما لا يفهم روعة القفز والسير على الحبال. كلّ ما يطلبه الجمهور من لاعب الأكروبات ممارسة بهلوانيّته بتشكيلات جديدة، تمتّع ناظريه، ومتابعة السير على الحبل الرفيع دون أن يقع، كي تشهق القلوب معه. بينما الكتّاب يسعون بأقدامهم كي يقعوا في حفرٍ عميقة، مظلمة، لا يخرجهم منها أحد سوى وهج الكتابة حين تستسلم كامرأة على سرير من حرير لأصابع كاتب، الشيء الوحيد الذي لا يتقنه في الكتابة الحديث عنها.

3

أحسد الرسّامين.

يستطيعون رسم آلاف اللوحات خلال حياتهم، وبالتالي يحقّ لهم ارتكاب آلاف الأخطاء، لديهم آلاف الفرص للتجريب، واختيار الألوان والمواضيع، كلّ لوحة هي اكتشاف جديد للذات والآخر، بينما الكتّاب، بخاصّة الروائيين منهم، يقضون أوقاتًا طويلة مع نصّ واحد، يتحدّاهم، يشعرهم دومًا بالنقصان، وبعد الانتهاء من كتابة أيّة رواية، يشعر الكاتب بوقوعه في فخّ النشر المتعجّل، حتى لو انتظر سنوات طويلة. ببساطةٍ لا اكتمال في الكتابة عمومًا وفي الرواية خصوصًا.

4

الوحدة تقدّم آلاف الفرص والأفكار للكاتب، لكنّها تمضي من دون أن يستطيع التقاطها وغربلتها، بالتالي لا تثمر.

يجب طرد الآخرين أوّلًا من النصّ ومن حياة الكاتب، بالطريقة نفسها التي يُنظّف فيها الحقل من الأعشاب السامّة قبل حرثه وبذاره.

5

لا يعني وجودي مع الآخرين وبينهم أنّني محتشد بهم، أنا وحيد في كلّ اللحظات.

6

كلّ ما يصنع النصّ الروائيّ يجب أن يغيب عنه الألم والصمت، التأمّل وآلاف اللحظات المدمّرة، لن تقدّم شيئًا للرواية بل ستحوّلها إلى حقلٍ من الدموع، وسماء مليئة بالنحيب والآهات، ستمطر حبّات مطر لا ماء فيها، إن سرت تحتها لن تتبلّل.

7

الأقسى من الكتابة انتظارها.

انتظار لحظة إشراق الأفكار كي تأتي طائعة إلى بياض الصفحات، انتظار التسامح الذي تبديه الشخصيّات، وتبدأ في الإفصاح عن مكنوناتها وأسرارها وقبولها نسج علاقاتها فيما بينها بحرّيّة وديمقراطيّة ونكران لا مثيل له للذات. كمسافرين على سطح سفينة تعبر المحيط، يتبادلون الأنخاب وساحة الرقص، متحاشين الحديث عن خوفهم من مفاجآت العواصف والتيّارات البحريّة، إحساسهم بأنّ مصيرهم قد أصبح متشابكًا، ولّد لديهم شعورًا بالانتماء إلى هذه المجموعة الصغيرة، كلّما اشتد الخطر أصبحت ذكرياتهم وأسرارهم قابلة للتداول.

انتظار الكتابة يشبه اللحظات المدمّرة التي تجعل من الكتابة وهمًا لا يفصح عن حقيقته بسهولة.

8

من أكثر الأشياء التي عرفتها في حياتي بخلًا وأنانيّة هي الكتابة.

لا تقبل إلّا أن تقدّم لها القرابين كاملة، كما لا تقبل أن تُخلص لشيءٍ أكثر منها، أو تحبّ شيئًا أو أحدًا أكثر منها.

لا تمنحك فرصة لتدير ظهرك لها، إن فعلت ستغادرك، ولن تعود أبدًا.

كلّ شيءٍ مِن أجلها…

القلق والحلم، الخوف والشجاعة، التشرّد والاستقرار، السفر والحبّ، لون البحر وإعادة ترتيب العلاقة بين الذات والطبيعة، كلّ ما لدى الكاتب من أحاسيس وعواطف من أجلها أيضًا.

تريد ماضيه وحاضره ومستقبله.

لا تعتذر عمّا تتركه وراءها من خراب في ذات الكاتب.

إنّها الاحتمال الأقلّ ضآلة تحقّقه، والنهر الذي لا تستطيع رسم مسارٍ لاندفاعه وسط الأراضي القاحلة.

9

المستبدّ يحبّ أشباه الكتّاب.

لأنّهم يدورون في فلك لغته التي غالبًا ما تكون إنشائيّة، خطابيّة، لا قيمة إبداعيّة لها، تمنحه قوّة وهميّة، ليقودهم بعيدًا عن الحقيقة.

وهؤلاء الأشباه يكرّسون طريقة تفكير المستبدّ، يتقمّصون شخصيّته في معالجة الأمور، يتماهون في مفرداته، ويساهمون في إنتاج ثقافة تشبههم وتشبهه، أهمّ ما فيها صوتها الفارغ، المريع وابتعادها عن الحقيقة.

10

المستبدّ يحبّ أشباه الكتّاب.

مهما خرجوا على طاعته يبقون داخل دائرته، يبجّلونه ويقيمون له التماثيل.

في الوقت ذاته، يكره المستبدّ الكتّاب لأنّهم يجعلونه يحسّ بعجزه عن التعبير، واستحالة تدجينهم بمؤسّساته، يدمّرون لغته بقوّة سردهم، ويفضحون منظومته وهشاشتها وعدم صمودها أمام امتحان التاريخ.

المستبدّ يكره الكتّاب، فمهما اقتربوا منه يبقوا خارج دائرته، وبذلك يستطيعون الاقتراب من الحقيقة التي ترعبه دومًا.

المستبدّ يكره الكتّاب لأنهم يحطّمون سرديّته وتماثيله.

11

أشباه الكتّاب يمجّدون المستبدّ، لأنّه يمنحهم مشروعيّة الوجود، يقدّم لهم آلاف الفرص، وجبروته يسكن فراغهم.

يمنحهم مرجعيّة واحدة للكتابة، وطريقة واحدة للتفكير. في الوقت نفسه يُغدِق عليهم شارات السلطة والمجد التي لا تساوي قشرة بصلة في امتحانات الإبداع.

لا يبخل عليهم بالعطايا، فهو يعرف أنّ الأشياء تجعلهم أشباهًا أكثر، مثقلين بالرضا، لأنّهم يقفون في وجه المستقبل، يعطّلون الخيال، ويحاولون دون جدوى تدمير سلطته وإشراقاته.

12

اللغة قابلة للتصنيع والتغيّر بأشكال مختلفة، لكن لمرّةٍ واحدة، اللغة تقدّم خصائصها ورحابتها لكلّ الكتّاب بالتساوي، لكنّها تعشق الصانع الأمهر.

13

كتابة الرواية تشبه الرقص.

يبدو هذا التشبيه غريبًا إلّا أنّه حقيقيّ بالنسبة لي.

الرقص انطلاقٌ من الثبات إلى الحركة، وعودة إلى الثبات مرّةً أخرى، ضمن فضاء يحكمه الإيقاع.

وكتابة الرواية انطلاقٌ من البياض إلى السواد، والعودة مرّة أخرى إلى البياض، في فضاءٍ أيضًا يَحكمُه الإيقاع.

الهواة غير المحترفين في كلا الفضاءين.

الكاتب المحترف كما الراقص المحترف، يستطيع أن يبدأ الرقص فور سماع أيّة موسيقى، لكنه يحتاج إلى لحظة يُشرِق فيها جسده وتطير روحه، عندها يصبح المتفرّجون غير موجودين، يتلاشون رويدًا رويدًا ويختفون من حوله.

الكاتب الهاوي كما الراقص الهاوي، لا يرقص إلّا إذا استبدّت به الرغبة الشديدة، فيبدو مندفعًا، حارًّا، غير مكترث بالإيقاع الذي يلاحقه، ومهما حاول، لا يستطيع خلق إيقاعه الخاصّ لسرعة مروره على البياض، وتخطّيه للحظة الرغبة، يبقى الآخرون بالنسبة إليه موجودين، يحيطون به ولا يستطيع الإفلات من نظرات إعجابهم أو استهجانهم.

14

عدم الابتعاد عن الأوراق، عن مُحتَرَف الكتابة، عن الصمت، عدم الإحساس بأيّ واجب، السكون، المفاصل المُشبَعة بالكسل والراحة، كلّها مفردات ضروريّة لبدء الكاتب يوم عمل جديد.

15

لا حاجة للكاتب الادّعاء أمام ذاته، وطبعًا أمام الآخرين.

لا حاجة للكاتب تزييف ذاته أمام ذاته والآخرين.

لا حاجة للكاتب تجميل أنفه وحاسّة شمّه، ورغبة أصابعه، ولا حاجة لمنع جسده من الطيران وإثقاله بالآخرين إن بدأ يُحلّق.

لا حاجة للكاتب إثارة الضجيج من حوله، طالما تُغلّفه نعمة الصمت الرائعة.

***

مُنتخبات من كتاب «نسرٌ على الطاولة المجاورة» لـِ خالد خليفة: الأقسى من الكتابة انتظارها

خاص قنّاص – ملفات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى