الموت عمل شاق.. خالد خليفة وتفكيك ميكانو الموت
لعل ثيمة الموت واحدة من الثيمات التي تتكرر في أعمال الروائي السوري الراحل خالد خليفة سواء بشكل مخاتل، أو بشكل واضح وكأنه كان يراوغه على الورق كما كان يراوغه في الحياة.
ففي روايته «لم يصل عليهم أحد» قال على لسان أحد أبطاله: «الدم الذي في عروقي كان لرجل ميت، نهضت، للمرة الأولى أعد قهوتي، كانت الشمس تغرب، كم هو ساحر مشهد الشمس حين تغرب، لون الليل يتغير مع كل لحظة، شعرت بخفة متناهية كما يشعر كل الأموات حين يتورطون في العيش مع البشر».
هكذا كما لو أن جسورا كثيرة ربطته بالموت على المستوى الإبداعي على الأقل، كما هو بشكل موارب في روايته «لم يصل عليهم أحد» أو كموضوع كما في روايته التي سنتحدث عنها «الموت عمل شاق» حيث بدا الموت بحضوره الفلسفي عبر الحديث عما سبقه وما تلاه وعلاقة الموتى بالأحياء في ظل ظروف هي ذاتها تشبه حالة الموت.
لذا كان لا بد من كاميرا تدير زوايا الرؤية وتؤرشف هذا الموت الذي أصبح خبرا يوميا لا يدهش أحدا وسط مهرجان الموت اليومي، لكن صاحب «مديح الكراهية» آثر أن يكتب عن الموت السوري باعتباره ورطة، وورطة كبيرة الخروج منها أشبه بمعجزة، وفي ذات الوقت لفت الانتباه إلى ذلك الجسد الفائض عن الحاجة في مواجهة ليست سهلة للمثل البائس «الحي أبقى من الميت».
تبدأ رواية «الموت عمل شاق» من وصية قد تبدو بسيطة وقد اعتدنا على سماعها من كبار السن وهي طلب الأب المحتضر من ابنه بلبل أن يدفنه في قريته العنابية بجانب أخته ليلى. قد لا يبدو الطلب مثيرا ولا غريبا، فالكل يريد أن يدفن في قريته وبجانب عائلته، وكأنه يخشى المقبرة، ويعتقد أنه سيكون في طمأنينة بين أهله فلا يشعر بالوحدة ولا يخشى الغرباء.
بلبل وبكل شجاعة، وتحت تأثير كلمات الفراق الأخيرة ونظرة أبيه الدامعة المستعطفة، تصرف بثبات ودون خوف، ووعد أباه بتنفيذ وصيته التي كانت رغم كل بساطتها «مهمة شاقة».
ولكن الوصية بحد ذاتها بدت وكأنها مأزقا وذلك من لحظة الرحيل باتجاه العنابية، وبداية تنفيذ الوصية، والبساطة التي امتازت بها الوصية لم تعد كذلك فالحركة على الأرض محفوفة بالمخاطر، والأرض بحد ذاتها مشكلة فهي لم تعد موحدة ، والعبور من مكان إلى آخر مغامرة لا تحمد عقباها. و«القتلى في كل مكان، يدفنون في مقابر جماعية ودون تدقيق في هوياتهم. مراسم العزاء حتى بالنسبة للعائلات الغنية اختصرت إلى ساعات قليلة».
هكذا تحول الموت إلى أكثر الأشياء عدلا في حرب لا عدل فيها، فالكل يقتل والكل يحتفل بموته بالطقوس نفسها. الشيء الوحيد الذي تغير هو تلقي خبر الموت، الذي صار خبرا عاديا لا غرابة ولا دهشة فيه.
ينطلق السرد من فكرة تحول الجسد الحميم إلى جثة، إلى «عبء ثقيل» في زمن الحرب بحيث يبدو بلبل «نبيل» كما لو كان آخر من يشدو بالحياة في زمن يضج بالموت، وما عليه في هذا الزمن الصعب سوى تنفيذ الوصية فعدم تنفيذها يعني شيئا واحدا هو سقوط الجميع في موت رمزي لا فكاك منه.
يمضي بلبل وأخته فاطمة وجثة الأب عبد اللطيف السالم في «الميكرو باص» الذي يملكه أخوهم حسين، وبدأت الرحلة وبدأ معها عملهم الشاق في تنفيذ الوصية وكان عليهم عند الخروج من دمشق الانتظار طويلا على حواجز الجيش، وهنا كان الحدث المفصلي أثناء تفتيش الهويات حين اعتقل عناصر الحاجز جثة الأب لكونه مطلوبا لأكثر من فرع أمني. وبعد ساعات تم إخلاء سبيل الجثة والأولاد، وخرجوا من دمشق ليكملوا الرحلة أمام سؤال بدا حقيقيا وقاسيا «ماذا تعني جثة الأب» لتفقد القصص المأساوية بريقها وتفقد عملية الموت خصوصيتها ووقعها على أقرب المقربين.
كان على الأبناء قبل الوصول إلى العنابية وهي قرية تبعد بضع كيلو مترات عن دمشق اجتياز حواجز الجيش الحر وحواجز فصائل إسلامية متشددة ذاقوا خلال اجتيازهم هذه الحواجز صنوف العذاب، فعند فصيل إسلامي متشدد سيتم اعتقال الإخوة ويفرون منه اثر قصفه من قبل الجيش. وعند حاجز فصيل إسلامي آخر بالقرب من العنابية سيتم اعتقال بلبل لفشله في الإجابة عن الأسئلة في شؤون الدين التي اجتازها أخوه حسين بنجاح، يتم إخلاء سبيل بلبل بعد توسط عمه نايف لدى الفصيل المتشدد، إلا أن الأوان قد فات، ولم يعد ذو أهمية بالنسبة لبلبل الذي دخل في حالة من الصمت القاتل ولم يعد يكلم إلا نفسه.
خلال الرحلة التي امتدت لثلاثة أيام تتعرض الجثة للتفسخ، وبدأ الدود يخرج منها، لحقت كلاب شاردة الميكرو باص بعد أن انتشرت رائحتها، وتعارك الإخوة ولم يعد أن منهم يهتم لحياة الآخر، أصيبت فاطمة بالخرس بعد بقاءها في الميكروباص برفقة الجثة المتفسخة لعدة ساعات أثناء اعتقال أخويها.
«الموت، إنه طوفان رهيب يحيط بالجميع» وبسببه فقد الأبناء أثناء رحلتهم كل تهيب أمامه «لم تعد الجثة تعني لهم شيئا، يستطيعون تقديمها لجوقة كلاب جائعة دون أحساس بالندم». قطعت آخر الروابط العائلية وانتهت الرحلة بدفن الأب ولكن ليس في المكان الذي طلبه بجانب أخته.
يعود كل إلى حياته ويدخل بلبل في ذاته فاقدا رغبته بالحلم مؤثرا العودة إلى عزلته واغترابه.
خلال زمن دائري روى صاحب «دفاتر القرباط» روايته فكان خلال سرده يعود مرات عديدة إلى الوراء ليتكلم بإسهاب عن بعض شخوص الرواية في أزمان مختلفة ،ثم يعود لإكمال الرحلة.
لقد جعل الروائي من الموت قضية مركزية توازي تجربة معيشية ملموسة، تحكي الكثير عن الجراح النفسية والندبات في زمن يتساقط فيه الضحايا الأبرياء بلا رحمة، حيث ترك فسحة واسعة من خلال هذه الاسترجاعات الزمنية المتعاقبة لأفراد الأسرة، كي تكشف خللا أسريا فاضحا، باتت معه رابطة الدم غير كافية للعيش في كذبة الوئام العاطفي الذي تفسخ منذ زمن بعيد، بل ويتكشف لنا كم أن الروابط المقدسة التي أحاط بها الوالد نفسه حفاظا على صورته في الخارج كانت عبارة عن كذبة كبيرة.
لعل السؤال الصعب الذي تنتهي به الرواية والمتعلق بالحروب التي جلبت كل هذا الموت هل كانت تستحق أن تخاض؟ أم كان الأجدى بالبشر أن يتركوا قوى الشر تنتصر؟
في «الموت عمل شاق» يفكك خليفة الموت وأسئلته المرعبة على طاوله الحياة ليصبح سؤال الحياة والحرية صغيرا أمام قسوة الموت وكثرته في حرب لا ترحم أكلت كل شيء، وتركتنا جميعا أمام أسئلة النقصان والخسارة والخذلان.
***
خالد خليفة.. تفكيك ميكانو الموت؛ بقلم رولا حسن
رولا حسن؛ شاعرة سورية