حواراتمسارات

التضحية بالآخرين أحد أشكال الفاشية: حوار مع الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر

بقلم: هيلينا شيفر. ترجمة عن الألمانية: شيرين ماهر

حوار مع جوديث بتلر، نشر في مجلة فلسفة الالكترونية، يناير 2023.

ما نحتاجه للعيش يمكن أن يُعرِض حياتنا للخطر.. فكيف نرى العالم انطلاقاً من هذا الرابط المشترك؟

تشارك الفيسلوفة الأمريكية والمٌنظِرة الجندرية الشهيرة «جوديث بتلر» هذا التساؤل في كتابها الصادر حديثاً الذي يحمل عنوان «أي عالم هذا؟/ What world is this?»، حيث تستعرض سُبل إعادة اكتشاف الحياة فى ظل الكوارث التى تجعلنا نُعيد صياغة إدراكنا للعالم. واستناداً إلى أعمال «ماكس شيلر» و «موريس ميرلو بونتي» والظواهر النسوية النقدية، تسلط بتلر الضوء على الظروف التي تدفعنا إلى فهم ارتباكنا وهشاشة الروابط الاجتماعية، سعياً إلى خلق إحساس جديد بـ «عالم مشترك»، إذ تنتقد في كتابها مفاهيم الحرية الشخصية اللامحدودة والقوى العنصرية القاتلة والتمييز على أساس الجنس والطبقية، مستعرضة أشكال الظلم التي تنكر العلاقة المتبادلة الأساسية للكائنات الحية، والدفاع عن المساواة الاجتماعية. تسوق «جوديث بتلر» في كتابها رؤية تأملية مدروسة حول ما يعنيه مفهوم مشاركة العالم مع الآخرين في زمن التغيرات الكبرى. كما أولت اهتمامًا شديدًا بتفاصيل واقعنا المعاصر، حيث استدعت أصواتاً تاريخية، لطرح المزيد من الأسئلة المتعلقة بأن تكون الحياة قابلة للعيش وأن تكون الأرض صالحة للحياة المشتركة وكيفية البحث عن أفكار اشتراكية جديدة فى ظل إخفاقات الرأسمالية.

***

*سيدة جوديث بتلر، عنوان كتابك الجديد: أي عالم هذا؟… تُرى كيف ترين العالم الذي نعيش فيه؟ ولماذا سألتِ نفسك والقُراء هذا السؤال؟

كثيراً ما راودني هذا السؤال بقوة، خصوصاً، في أزمة الجائحة، حيث أدركت أن ما اعتبرناه جميعًا أمرا مسلما به، مثل حميمية التواصل ومعانقة الاشخاص الذين نحبهم، وتبادل الأنفاس والهواء، أصبح فجأة أمراً محظوراً، وكأننا تحولنا جميعاً إلى تلك الشخصيات المتجمدة في مسرحية “بريشت”. لقد عشنا جميعًا، في تلك الفترة، مع رغبات لم تتحقق. كان علينا تجديد فهمنا لماهية الحياة العادية وإعادة التفكير في طبيعة العالم الذي نعيش فيه. لقد استوقفني اقتباسً، في مقال “ماكس شيلر” حول ظاهرة “المأساوية”، لكنه جذبني بشدة، حيث يقول شيلر : «أن أي حدث مأساوي لا يأتي وحيدًا أبدًا، لكنه دائمًا ما يقول شيئًا عن العالم الذي وقع فيه. ومع انكشاف الحدث المأساوي، يتبين أن العالم العادي مختلف تمام الاختلاف عما كنا نظنه في السابق»… أغلب المآسي والكوارث كشفت حقيقة أننا جميعًا سواء لا فروق بيننا كما كنا نتوهم. هذا الترابط المتبادل لا يعرف الحدود الوطنية أو الإقليمية.

*ما هو مفهومكِ عن هذا الترابط…؟ إذ يعد «هيجل”» أحد أشهر الفلاسفة الذين تعاملوا مع مفهموم الترابط، فكيف تقترب نظرتكِ للعالم من نظرية هيجل؟ 

هناك نقطة تماس بالتأكيد في تصوري القائم على فكرة «أن الآخرين يمكنهم أن يفعلوا بنا ما نفعله بهم». لقد اقتبست نموذج (المعاملة بالمثل) من كتاب هيجل (فينومينولوجيا الروح/Phänomenologie des Geistes). لقد فشل الكفاح من أجل الحياة والموت في الفصل المعنون بـ«السيد والعبد» من كتاب هيجل، حيث يقول: «لا يمكنني تحقيق أي شيء بتدمير الآخر. لأن هناك دائمًا خطر أن يدمرني طرف ثالث أيضًا». وبخلاف الحتمية الأخلاقية بعدم إلحاق الأذى بالآخرين، فقد قرأت أيضًا السمات الرئيسية لنظرية الاعتماد الجسدي في هذا الفصل، حيث يصبح من الواضح أننا جميعًا لدينا نفس الاحتياجات المادية. نحتاج جميعًا إلى الطعام والمأوى والدفء للبقاء على قيد الحياة. وفي الوقت نفسه، لا يمكننا أن نثقل كاهل الآخرين بتهيئة هذه الظروف لنا ونكتفي بالاستهلاك فقط. ولأننا جميعًا نعتمد على نفس الاحتياجات، فنحن جميعًا مسؤولون عن تهيئة الظروف التي يمكننا أن نعيش فيها. لقد تناسى الكثيرون ذلك، فأصبحت أوهام الأنانية تحكم العالم. علمني هيجل أن أتساءل دوماً عن هذه الأنانية وأبحث عنها في أسئلتي كي أحدد مناطق اللوم الصحيحة.

*في رأيكِ، كيف يتم التعبير عن هذه الأنانية؟

غالبًا ما نتصرف وكأننا نستطيع فعل أشياء ربما لن يفعلها الآخرون بنا أبدًا، في حين أنه ليس هناك أي ضمانة لذلك.. إن فهم الحرية باعتبارها قرارا فرديا بحت يتجاهل أننا جميعًا في علاقات مترابطة ومتراتبة -شئنا أم أبينا. أفعالنا دائمًا لها تأثير على الآخرين. ومن ثمة، تكشف لنا الكوارث عن الفهم النيوليبرالي للحرية، الذي يرى البشر كأفراد مستقلين ومعزولين.«لا يمكن لأحد أن يكون حراً حتى يكون الجميع» هو شعار  يستخدمه الكثيرون دون تفكير، لكنني أعتقد أنه أمر بالغ الأهمية. فكرة أنني يمكن أن أكون حراً في عالم غير حر تمحو معالم هذا العالم غير الحر. هذا الفهم للحرية مبني على عدم المساواة ولا يراعي التسلسل الهرمي. إنه انتقائي وأناني وأعمى. هذا النوع من الحرية يمثل أحد أشكال الإخلال بدقة المصطلحات وكذلك بمثابة فشل أخلاقي في محاكاة الحياة في إطار جماعي.

*ألا يحمل مفهوم الحرية، بهذه الشمولية، مخاطر بشأن إغفال حرية الفرد؟

عندما أقول إننا بحاجة إلى تحويل فهمنا للحرية بمعزل عن الحرية الشخصية، فهذا لا يعني أنني لا أهتم بالحقوق الفردية. لكن علينا أن ننظر إلى المعاناة على أنها إشكالية مشتركة وليست مشكلة فردية. حتى عندما نتحدث عن تهديد الحريات الشخصية، فإن الأمر لا يتعلق بنا فقط كأفراد. على سبيل المثال، إذا أحرق شخص ما مؤلفاتي أو منعني من دخول بلد ما، فهذا لا يستهدفني وحدي. هناك أشخاص آخرون مثلي يُعاملون بنفس الطريقة. وهم الأشخاص الذين يشاركونني معتقداتي، ليتحول الأمر في النهاية إلى منهجية تعامل تطول الجميع ممن يحملون نفس الأفكار.. ربما عكست أزمة الجائحة ما أقصده بالضبط. لقد كنا جميعًا معزولين. وعانى الكثير من الناس معاناة شديدة، جسديًا وعقليًا. هذه العزلة جعلتنا ندرك مدى أهمية الاعتماد المتبادل. إنه الإدمان متعدد الأوجه، الذي ينطوى على مقومات دافعة وإيجابية، وخطيرة أيضاً، بنفس القدر. لكن من المهم أن نتذكر أننا عزلنا أنفسنا، على وجه التحديد، لأننا نهتم ببعضنا البعض. الرابط الاجتماعي بيننا هو مصدر خطر، ومصدر حماية أيضاً. من المعروف أن حديثي الولادة يعتمدون على الرعاية. ومن الخطأ الاعتقاد بأن الأمر لن يكون كذلك عندما نكبر. ما زلنا نعتمد على الظروف نفسها مع اختلاف المراحل التى نمر بها. وعلينا أن نتأكد من تلبية هذه الشروط للجميع، لإنها مشاكلنا الجماعية.

*ما الذي يترتب على هذه النتائج، في رأيكِ؟

إذا كانت الاعتمادية المتبادلة سمة أساسية في عالمنا، فإن الرعاية الصحية تصبح، بالتبعية، قضية عالمية. نحن بحاجة إلى أشكال من الضمانات تكفل للجميع أن يتمتعون بالحماية على قدم المساواة والحصول على الرعاية الصحية. لكننا قد فشلنا في الاعتراف بحقوق متساوية لجميع سكان العالم عندما داهمتنا الجائحة، الأمر الذي كشف عن مدى حاجتنا المُلِحة إلى أشكال أكثر فاعلية من الحوكمة الدولية، علاوة على وضع قيود على الاستحواذ الرأسمالي للسلع الصحية. والواقع، لم تكن الجائحة سوى اختبار حرج لمدى جاهزيتنا «عالمياً» للتكافل في ظل الأزمات، وهو الدرس الأكبر والأهم الذي لابد من استيعابه وتداركه في المستقبل.

*هناك روح من التفاؤل تسود بين بعض المُنظِرين النقديين؛ مثل راحيل جاكي ونانسي فريزر، حيث يؤكد هؤلاء المفكرون أن العالم القديم يخبو ويحتضر وأننا نشهد عودة ظهور الأفكار الاشتراكية.. هل تشاركيهم هذا التفاؤل؟

هناك، بالتأكيد، دليل على إحياء الأفكار الاشتراكية. لقد نمت الحركات النقابية في السنوات الأخيرة. وأرى أشكالًا جديدة من التضامن وتفعيل الرعاية المجتمعية والحركات الاجتماعية. كما أشعر بسعادة غامرة لأن لويس إيناسيو لولا دا سيلفا قد فاز في الانتخابات في البرازيل وغابرييل بوريك في تشيلي وأن بيرني ساندرز تمكن حتى من الحديث عن الاشتراكية في الولايات المتحدة، حتى لو كانت في النهاية مجرد ديمقراطية اجتماعية وليست حق سياسي مفعل على أرض الواقع. ولكن مثل هذه التطورات تعطيني الأمل، وتشبه حجراً يحرك المياة الراكدة. لكنني أخشى أن اليسار منقسم أكثر مما ينبغي الآن. كما يساورني القلق بشأن اعتقاد بعض التيارات اليسارية في طفو أفكار جندرية قد تتسبب في الانحراف عن المسار الاشتراكي المنشود. وبمجرد أن نسمح بـ «تسيُد» مفهومي التسلسل الهرمي والانقسامات، لن نتمكن من تحقيق هذه الأفكار الاشتراكية التي نحتاجها بشدة لبناء عالم جديد.

***

حوار مع جوديث بتلر، مجلة فلسفة الالكترونية، يناير 2023. ترجمة: شيرين ماهر

شيرين ماهر؛ مترجمة ومحررة صحفية من مصر

جوديث بتلر

خاص قنّاص – حوارات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى