بقلم ميغان سنايدر-كَمب*
إن الدخول إلى شعر جون آشْبيري يشبه الدخول في عقل آخر مثير للدهشة والحزن ومليء بالأضواء الغريبة. قصائده لا ترشق كرات ثلجية باتجاه عيد الغطاس، ولا تلتزم بالقصة. إنها تنحرف كما يفعل الذهن غالبا، وهكذا داخل كل قصائده يواجه القرّاء مجموعة متنوعة من الصور والنغمات والعناصر الصوتية. كل من سطوره ينزع إلى مُقاربة من زاوية مختلفة قليلاً، أو بنبرة – أو في بعض الأحيان بشكل مفاجئ – مختلفة قليلاً. تستمد قصائده طاقتها من خلال مُتاخمة مُثمرة للأشياء التي تبدو متباينة، أو كما يصفها في قصيدته مُفارقات ومُتناقضات لفظية: جالِباً نِظَامها إلى اللعِب.
ذات مرة كان لدي مدرس قام برفض قصيدة مُراوغة مكتوب عليها ملاحظة «أكثر غرابة من آشْبيري!». لقد لَصِق هذا التعليق بي لأنني كثيراً ما أتساءل ما الذي نبحث عنه في قصيدة وما العمل الذي يمكننا القيام به، كقرّاء. ما الدور الذي يمكن أن نلعبه في الفعل الإبداعي – فعل خلق معنى القصيدة؟ شعر آشْبيري لا يعطي غالباً معنى عند الإلحاح كما في شرح كتاب مرجعي، ولكن ماذا يحدث إذا حاولنا القراءة كفعل لَعِب عميق؟ عندما ينضم القارئ إلى قصيدة مثل «مُتناقضات ومفارقات لفظية» كشريك، أو مبدع مشارك، فإن ما يستتبع ذلك هو قراءة غنية ومُرضية، لا يمكن أن تتحقق حتى لو كان القارئ قد حمل القصيدة بطول ذراعه. بمعنى آخر، لا يُحبِط آشْبيري القرّاء عن عمد بلغز غير قابل للحل. بدلاً من ذلك، يقدم لنا موسيقى غريبة وشريك رقص. هذا التفاعل بين القارئ والقصيدة هو الذي يعطي المُتعة، الحركة التي نسعى إليها من القصائد.
عنوان هذه القصيدة يأتي من جذور يونانية، ويعني في سياقاته تلك «خلافاً للتوقعات» و «أحمق بِشدّة» على التوالي. القارئ الباحث عن تفسير بعد اصطدامه بالعنوان المنغلق، يجد مباشرة في السطور الأولى ما يَفُكّ مضمون المعنى. بعدها وعلى الفور نُفاجأ أن ما يبدأ كتفسير مباشر لما هو شِعري يبدو غريباً مُنزلقاً من قبضتنا! عملية التأليف والتلقي مَسْرودة بهدوء. لكن ما هو فهم قصيدة؟ الحصول أو القبض عليها؟ في هذه المرحلة من عملية القراءة يَعْلم آشْبيري أن القارئ مُتوتر. فهل أنت كذلك؟
في المقطع الثاني يُقال لنا: «القصيدة حزينة». فهل يسخر منا آشْبيري؟ هل حقاً نحن نتخلى عن القصيدة، لذلك هي حزينة؟ السؤال الأهم هو: هل بدأنا الشعور بالمتعة؟ لكن وعلى أي حال لماذا نهتم بقراءة قصيدة آشْبيري هذه؟
(nytimes.com) جون آشْبيري
في هذا العمل، يقترح آشْبيري بعض التوافقات الشعرية أدواتاً للدخول في القصيدة كتجربة بدلاً من تحليلها وفهمها. وفي المجموعة الشعرية “قِطار الظل / 1981, Shadow Train”؛ التي تضمنت هذه القصيدة جاءت كل القصائد في 16 سطراً بالضبط، في مُحاورة للشكل الذي تكتب بها السوناتة، وليس أياً من هذه القصائد هي سوناتة. وبتبنيه السوناتة كشكل سَطْري ليس إلا؛ فإنه يُلَمح إلى نمط عروضي موزون، لكنه يُلمح فقط ولا يذهب إلى وزن عروضي، مستخدماً إيقاع وبناء جملة الكلام المألوف، مُستثمراً ما أطلق عليه فروست “صوت المعنى/the sound of sense”.
يستخدم آشْبيري عادة صيغة مُخاطَب قريب، وبشكل مُدهش، يستخدم لحظات فكاهة مُلَطِّفة. إنه يستخدم كلاهما هنا. يبدو السطر الأول توضيحياً وتعليميا، حيث يُمَهّد لتوقّعاتك: «هذه القصيدة تهتمُّ باللغة على مستوى بسيط جداً». إنه يدعو القرّاء إلى التجربة من خلال مخاطبتنا بصفة “أنت” من البداية، كما لو كان يتآمر معنا، لكنه بعد ذلك يُعْمِل عدسة التبعيد لتظهر لنا أنفسنا مُسْتَقِلة داخل القصيدة: «انظر إلى [القصيدة] تُحدثكَ». ولذا فنحن نصحح وَعْينا بينما نجد الشاعر يتنبأ ويروي لنا انزعاجنا البسيط: «أنت تنظر خارج نافذة / أو تتظاهر بالتملْمُل». في المقطع الثاني، يبدأ آشْبيري بالتحدث عن “أنت” (القارئ؟) و “هي” (القصيدة؟) كأنما عاشقان يُعانيان الفراق: «أنت تفتقدها، هي تفتقدك. أنتما تفتقدان بعضكما […] القصيدة حزينة لأنها تريد أن تكون لك ولا / تستطيع». مسافة واضحة حتى في ثَغْرة انكسار المقطع. يستمر هذا الشَدُّ بين العلاقة الحميمة ومسافة الفراق حتى نهاية القصيدة: «القصيدة هي أنت»، حيث تُقرأ مثل الوحي/الالهام. ما هو أقل جاذبية هو لغز ما يعنيه آشْبيري بـ “القصيدة” أو “المستوى البسيط” أو كم من المفارقات والمتناقضات اللفظية التي يمكن للقارئ الفطن أن يحددها، ولكن الأكثر جاذبية هو النافذة الواضحة التي يقدمها في كيفية تعاطينا مع الشعر، وكيف يمكن للقراءة أن تكون عملاً خلاقاً ومرِحا. هذا يحوّل: «أنا لا أحصل عليها أو لا أفهمها، أي لا أفهم القصيدة» إلى: «لم أقم بأي شيء بها».
يُشتتُ آشْبيري انتباه القرّاء الذين سيحللون شعره بدلاً من أن يختبروه. ما يطلبه هو اللعب، وهنا يسأل عنه مباشرة في نهاية المقطع الثاني:
«… لَعِب؟
حسنا، في الواقع، نعم، ولكني أعْتَبِر اللعب أن يكون
عميقاً خارج شيء، نَمَطُ – دَوْر حُلمي، كما هو الحال
عند تقسيم نِعْمةٍ هذه الأيام الطويلة من أغسطس،
من دون بَيّنة».
إنها هذه اللحظة الغنائية الحلوة التي يمكننا أن نغرق فيها أخيرا، بعد الكرسي الاستطرادي المسنود ظهره بالسطور السابقة. هنا يُرخي القارئ التحليلي يديه، ويشعر بالمُتعة المُفاجئة لـ «كما هو الحال عند تقسيم نِعْمةٍ هذه الأيام الطويلة من أغسطس / من دون بينة»، ويبدأ في التأرجح معها، ثم الرقص، والتعرف على العمل من خلال الإحساس بانعطافاته، باندفاعاته، وتوقفاته.
منذ تلك اللحظة الغنائية الواسعة المتمثلة في «تقسيم النعمة»، والتي تأتي في أطول جملة للقصيدة، وبالتالي تأخذ أطول أنفاس القارئ، وهو ما يبدو لي وكأنه لَفَّة من القماش تتكشف بسرعة، وبالتأكيد، نكون قد قطعنا تلك المسافة إلى أقصر جملة: «نهاية – مفتوحة». هذه الجملة المؤلفة من كلمتين مَلْحومتين، في منتصف السطر، تتأرجح مثل ورقة في دوامة صغيرة: فأنا في البداية أُحَيّد الماضي بصبر يكاد يَنْفد، ثم أُجَرُّ إلى الخلف لأن نصفَيّ هذه العبارة الشائعة جدًا ينفتحان في مزحة صغيرة: النهاية عكس مفتوحة، شيء لم ألاحظه من قبل، على الرغم من أنني أستخدم العبارة كثيراً بما فيه الكفاية. هنا تتابع يتطور؟ الأبديّة؟ اللمسة على الكتف ونحن نمضي مُسْتَعجلين الماضي؟
«من دون بينة. نهاية – مفتوحة. وقبل أن تعرف. . .» في نهاية نفس السطر؛ بالنسبة لي هذا السطر هو الذي أعود إليه غالبا، حيث تحدث ثلاثة أشياء في آن واحد، ثلاث جمل منسوجة معاً، تعريف آشْبيري للعب يتحول إلى قانون، إنه نموذج الدوران الذي للنظام الشمسي – هناك في النهاية عبارة تجيء سريعة «وقبل أن تعرف»، متوجهة بي إلى هناك، إلى حيث انكسار السطر تتأرجح القصيدة متوقفة مؤقتا، مع “أنها” تبدأ السطر التالي، وهكذا، على الرغم من أنني أريد أن أقرأ العبارة كـ «قبل أن تعرفها» وليس «قبل أن تعرف / أنها»، وذلك لأنه عند موضع انكسار السطر، تتوقف “أنها” مؤقتاً وَحْدها في محور اللحظة. إذن؛ ما هي “أنها” هذه؟ التمعُّن إلى الخلف لمعرفة آخر شيء صريح يمكن أن يُشير إليه الضمير في “أنها”، أرى “المستوى البسيط” للغة وأيضًا الانتقال من بعدين إلى ثلاثة أبعاد يحدث في منتصف المقطع الثاني، حيث “المستوى البسيط” هو “[جلبها] إلى اللعب”، أي “جلب اللغة إلى اللعب”، مُسْتَدْعية لي طفلاً ينزع ورقة مُخَرّمة من وضعها المسطح في دفتر، ثم يعلقها حيث الهواء يحرك أجزاءها المُنفصلة بشكل متوازن. لن أطيل المكوث هنا طويلاً، مع وجود كثير من الانفتاح والكشف. إذن، يبدو وكأنه المنزلق النهائي مع آلة روب غولدبيرغ(Rube Goldberg machine): «في التيار وثرثرة الآلات الكاتبة»، حيث تؤدي هذه الآلات الكاتبة العمل من أجل الشمبانزي أو من أجل قَطْع الخشب، جالسة أمامهم. أشعر بنفسي مُتردّدة وأنا أخرج من هذا التطور الغنائي، أبحث عن اتجاهاتي، ولا تزال حدقتا عيني في ظُلْمة المسرح.
يُجهزني المقطع الأخير لنهاية القصيدة، ويستدعيني للعودة إلى الواقع من أفكاري الخاصة الشاسعة. ومن هنا أتذكر، بعد هذا التعثر الغنائي، أنني لست وحدي في هذه القصيدة، بل يجب أن أفسح المجال للشاعر وكشوفاته أيضا. هذه الكلمة “المستوى” مرة أخرى، مُذكّرة بالمستوى البسيط الذي بدا وكأنه مُتَّكأ جيد في وقت سابق ولكنه الآن مجرد حظر عن رؤية المشهد. أجد نفسي أخيرا، بطريقة سِلْمية إلى جانب المُتَكَلّم، أتطلع من أحد التلال إلى الضجة والهيجان في مكان آخر. في ستة عشر سطر فقط، انتقلتُ من ثنائية الأبعاد إلى ثلاثية الأبعاد، مُخْتَبرة الفزع من عملية التحول والفكاهة في حدود ما نتوقع حدوثه في قصيدة، غِبْطة غنائية لا يمكن تفسيرها، وصخب الآلات، وعزلتها وصمتها. أصل في النهاية إلى شعور واسع بالإمكانية الشعرية والعاطفية.
يُذكرني آشْبيري لماذا أقرأ القصائد. ليس فهم نوايا الشاعر، أو التعرف على الشاعر. بل لتذوق حركة العقل والوجدان التي تأتي من الانخراط الكامل مع قصيدة غنية، وتتبع حواف الهياكل التي ستظهر أصداءها وصور الأشباح عند التقاطعات المفاجئة في الأيام المقبلة، وتشتغل في ذهني. الاشتغال -في هذا السياق- هو الاشتغال على تَجْسير الثغرات، والابحار عند منعطف حاد، ووزن شيء مُقابل آخر – شعور وكأنه لعب. أضيع في هذا اللعب، أظهر مُجدداً على السطح، أغوص عائدة إلى الأسفل. أظهر موحِلة للانقضاض. لا أحاول أن أخرج من القصيدة بما وضعه الشاعر بالضبط؛ أنا متأكدة من أني لن أفعل ذلك. بدلاً من ذلك؛ ما أحصل عليه هو ما أحتاجه بالضبط، وهو ما يتغير مع كل قراءة. أحتاج إلى بنية قوية وجذابة ومفتوحة بما يكفي لقيادتي إلى ما هو أبعد من توقعاتي الشخصية لاستكشاف ما تعنيه حقاً كلمة أو فكرة أو تواصل شخص بآخر. سلسلة من تلك الروابط قوية بما فيه الكفاية، ومرنة بما فيه الكفاية، للتأرجح فوق اتساع الاحتمالات.
مفارقات ومُتناقضات لفظية
Paradoxes and Oxymorons
هذه القصيدة تهتمُّ باللغة على مستوى
بسيط جداً.
اُنظرْ إليها تُحَدّثكَ. أنت تنظر خارج نافذة
أو تتظاهر بالتملْمُل. أنتَ تَمْلكها لكنك
لا تملكها.
أنت تفتقدها، هي تفتقدك. أنتما تفتقدان بعضكما.
القصيدة حزينة لأنها تريد أن تكون لك ولا
تستطيع.
ما هو المستوى البسيط؟ إنه ذاك وأشياء أخرى،
جالِباً نِظَامها إلى اللعِب. لَعِب؟
حسنا، في الواقع، نعم، ولكني أعْتَبِر اللعب أن يكون
عميقاً خارج شيء، نَمَطُ – دَوْر حُلمي، كما هو الحال
عند تقسيم نِعْمةٍ هذه الأيام الطويلة من أغسطس،
من دون بَيّنة. نهاية – مفتوحة. وقبل أن تَعْرف
أنها قد ضاعتْ في التيار وثرثرة الآلات الكاتبة.
لقد تَمّ لَعِبها مرة أخرى. أعتقد أنك موجود
فقط
حتى تثيرني للقيام بذلك، في مستواك، وبعدها
أنت لست هناك
أو أنكَ تبنّيْتَ سلوكاً مُختلفا. والقصيدة
قد وضعتني برفق إلى جانبك. القصيدة هي
أنت.
الهوامش:
- في مقال لمحمد العزاوي: «مشكلــــة اللغــة فـي شعر الطليعة الأمريكي»، يناقش قصيدة روبرت كريلي “كلمات”، وقصيدة جون آشْبيري “تناقضات وتضادات”. يكتب محمد العزاوي: «إذا تفحص المرء المشكلة اللغوية في شعر الطليعة فإنه لن يستطيع أن يتجنب إيلاء الانعكاس الذاتي للغة – الذي ربما يكون الصفة الأكثر تمييزاً لشعر ما بعد الحداثة، عناية خاصة… يظهر الانعكاس الذاتي للغة في شعر ما بعد الحداثة على مستويين: أولا تتحدث القصائد عن مشكلة اللغة وتجعلها مركز مضمونها. وثانيا تتخذ القصائد من مشكلة وصف شيء ما لغوياً موضوعا لها، ولكن بصورة غير مباشرة من خلال لغويتها الذاتية… لا يبقى للقارئ لدى قراءة القصيدة خيار آخر كما هو واضح غير استخدام اللغة اليومية التي ألِفَها كورقة استنساخ مساعدة لفهم اللغة الشعرية». أنظر: محمد العزاوي: مشكلــــة اللغــة فـي شعر الطليعة الأمريكي. مجلة نزوى، العدد 56، أكتوبر 2009. – المترجم
*المصدر
زاهر السالمي؛ شاعر ومترجم عُماني