مساراتملفات

الخال.. خالد خليفة | سامر إسماعيل

حين رحل خالد خليفة «الخال» كما يسميه السوريون عن عالمنا، لم يصدق أحد ذلك، إلى أن رأيت وجهه وهو مسجى

الخال.. خالد خليفة

عرفت خالد خليفة منذ أكثر من ثلاثين سنة، يأخذ دربه نحو الكتابة هو والعديد من الأسماء التي حققت حضورا مهما فيما بعد، كان خالد يكتب الشعر حينها،  ويقرأ على منبر جامعة حلب في مطلع التسعينات، ذلك المنبر بحضوره المؤثر حينها. أنهى خالد دراسته الجامعية وسافر إلى دمشق، واجتمعنا فترة في غرفة واحدة صغيرة إلى أن سكن بعدها في حي ركن الدين.

غرفتي في حي التضامن كان بابها مفتوح للجميع، فيأتي الأصدقاء إليها، وفي غيابي يكتبون أوراقا ويعلقونها خلف الباب. أصبحت هذه الأوراق مثل رسائل نتركها لبعضنا، ومازلت محتفظا بأوراق خالد.

في دمشق وبحاراتها القديمة كنا نتمشى تحت المطر. كان خالد يومها يفكر في كتابة الرواية، أو ربما بدأ بكتابة دفاتر القرباط، أخذتنا خطواتنا يومها نحو صديق لي، تناولنا القهوة معه، واستمرينا بالمشي. كان خالد يومها فرحا يقرأ الشعر ارتجالا. عرجنا على مطعم للفلافل، وضع خالد مصنفه الأسمر اللون وداخله كل القصائد التي كتبها على إحدى الطاولات، وصنعنا سندويشنا بأيدينا ومضينا في العتمة وتحت رذاذ المطر تذكر خالد المصنف فجأة، وعدنا مسرعين للمطعم ولم نجد سوى بضع صفحات من المصنف، لأن صاحب المطعم استخدمها في لف السندويش، فجُن خالد، ومضينا في صمت.                      

ركبنا الحافلة وخالد يبكي. ربما أوعزت له هذه الحادثة في حسم أمره للاتجاه نحو الرواية، فكتب رواية دفاتر القرباط، أما رواية حارس الخديعة فكتبها في دمشق حين تم تأسيس (مجلة ألف) التي كانت نتاج مجموعة من الكتاب الشباب الذين التفوا حول الشاعر محمود السيد وقدموا نتاجات مهمة تجاوزت الثقافة الأدبية السائدة.

لقد صبر خالد خليفة وتحمل الكثير لأنه اختار الكتابة، ولم يعمل في مجال دراسته الجامعية «الحقوق» وأصر على هذا الخيار، لقد أسعفته الكتابة التلفزيونية ليحقق عيشا كريما، مستمرا في الكتابة الروائية التي وصل فيها للعالمية من خلال عدد من الروايات منها «الموت عمل شاق».                                        

آخر ماكتبه مطبوعا رواية «لم يصل عليهم أحد» التي حقق فيها ذروة نضجه وقد ترجمت لعدة لغات، ووصلت للقائمة الطويلة للروايات المترجمة في الولايات الأميركية المتحدة.

اتصل بي وأخبرني بأنه يريد أن يرسم حيث كان هناك متسعا من الوقت في زمن الكورونا.

جهزت له شاسيهات للرسم، وعلمته طريقة تأسيس اللوحة، ومن يومها أصبحت مستشاره الفني. خطا خالد تلك الخطوة الجريئة، وبعيدا عن التعاطف لا يمكن القول أنه كان رساما محترفا، لكن كان لديه شغف وحب للرسم، وقد عبر أكثر من مرة عن سعادته حين يرسم، وقد جاءت لوحاته أغلبها فطرية طفوليه سكب فيها عوالمه الداخلية بروح تعبيرية.

لقد رسم خالد ما لم يكتبه.

خالد خليفة… رجل استثنائي بكل المقاييس. في الحياة وفي الكتابة وفي كل شيء. متحرر من كل المعايير الاجتماعية. حر، طليق، يمتلك براءة ونقاء وحبا للآخر، ويملك ذلك التواضع الهائل.

حين نكون مجتمعين عنده يقول لي: أنا سعيد أصدقائي عندي. هو دوما سعيد بالآخرين يستقبلهم، ويحتفي بهم ويقدم ما أمكنه لهم.  

يحب الفرح والسفر وأينما ذهب وتجول تكون دمشق هي المستقر الأساس له، هي بالنسبة له العاصمة الأجمل في العالم بحاراتها ومقاهيها وكل أماكنها.

حين رحل خالد خليفة «الخال» كما يسميه السوريون عن عالمنا، لم يصدق أحد ذلك. لا يمكن لخالد أن يرحل، ولا يمكن أن يحدث ذلك، بعد رحيله ظل خالد يرافقني كل لحظة يمشي ويعيش معي إلى أن رأيت وجهه وهو مسجى، لقد حدثت الوفاة فعلا، وفي غمرة هذا الحزن الدمشقي، نأى الإعلام والمؤسسات الثقافية الرسمية عن أي خبر أو نعوة تخصه، بينما جاء الأصدقاء من كل سورية يودعونه بالتصفيق والبكاء والهتاف الممزوج بالحزن «مع السلامة يا خالد» تردد صداها في سماء دمشق.

***

الخال.. خالد خليفة؛ بقلم سامر إسماعيل

سامر إسماعيل؛ فنان تشكيلي وكاتب من سورية، شارك في معارض عدة في سورية وفرنسا واسبانيا والكويت، يكتب في الصحافة في مجال  الفنون، صدر له مجموعة كتب، نذكر منها: “بقع لونية” و”تأملات في الصورة” و”الحداثة التشكيلي”.

خاص قنّاص – ملفات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى