خالد خليفة الخالد في الذاكرة.. قراءة في رواية: لم يصل عليهم أحد
وكأن هاجس الموت يلاحقه في أكثر من موقف وهو يناوره ويبارزه من نص إلى نص، إلى أن اجتمعا، خالد خليفة الروائي والسيناريست الذي رحل عن عالمنا وهو في قمة مجده وعطائه، مازالت أعماله نابضة في الذاكرة ومتوقدة في الوجدان ولعله في رقاده الأخير يسعد بإحياء أعماله وإعادة قراءتها والتوغل في معانيها.
نستعيد رواية «لم يصل عليهم أحد» التي صدرت عن دار هاشيت انطوان عام2019 والتي دخلت القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» لعام 2020، وهي رواية تفيض بالعشق والموت كمتناقضين يحفلان بالمجازات والرموز، فالعنوان منذ البداية تأثيث لموت قادم، ترى من هم الذين لم يصل عليهم أحد ليفتح مروحة من الإمكانيات المتعددة لهذا الموت الذي بقي يشاكسه حتى التقاه أخيرًا.
الموت الذي لحق أبناء قرية حوش حنا الذين قضوا بالطوفان عندما فاض النهر وحلت الكارثة على شخوص العمل ومنهم جوزفين زوجة حنا وابنها وابن زكريا إذ ابتلعتهم المياه دون صلاة وكان النهر قبرهم الأخير، وموتى مجهولي الهوية التي رفض كل من الكاهن والشيخ الصلاة على من لا يعرفون أصله، وقبلهم كان الزلزال الذي ضرب المنطقة.
ظلال سوداء أخرى لشبح الموت المخيم التي لم يجد ضحاياه من يصلي على جثمانهم كي تنعم أرواحهم بالراحة. كذلك جثتا العاشقين وليم ميشيل عيسى وعائشة المفتي اللذان لقيا مصرعهما على يد الضابط العثماني التي رفضت عائشة الارتباط به وفرت مع حبيبها المسيحي لذا أفتى رجال الدين بعدم جواز الصلاة عليهما، وهناك صالح العزيزي الذي مات منتحراً من شدة العشق ولقب بإمام العاشقين.
يصيغ خليفة نصه عبر أربعة أجيال متلاحقة تتمدد بين أعوام 1881 و1951 مما يذكرنا بأسلوب غابرييل ماركيز في «مئة عام من العزلة»، إذ نعثر على أبطاله التي تتداخل حيواتهم في أزمان الماضي والحاضر وقد افتتحها بالمنتصف بواقعة الطوفان لنتعرف عليهم واحدًا إثر الآخر؛ «حنا» الناجي الوحيد من مجزرة ماردين والذي تربى في منزل أحمد البيازيدي ولنتابع معه حياة أربعة من الأصدقاء حنا وزكريا ووليم وعازار، ومن خلالهم يرسم سوريا بكل ألوانها بفسيفساء التنوع الثري الذي يجمع ثقافات متعددة من طوائف وإثنيات وقوميات مختلفة وإمكانية الحب الهائلة للتعايش جنبًا إلى جنب، الأكراد والعرب والأرمن، المسيحيون و المسلمون واليهود كلها ألوان للجسد الواحد، عبر تشكيلات اجتماعية متعددة وهو في تجواله هذا يتقرى الأماكن الأثرية مثل قلعة سمعان، مسرح النبي هوري والكنائس والمعابد المدمرة في براد وقرى جبل ليلون ومعاصر عنب منقوش عليها رموز إله الشمس وجمل مكتوبة باللغة السريانية لم يهتم أحد بترجمتها.
وتلك الحكايا المثارة عن قدسية الأمكنة على غرار رمح الإمام علي المغروس في بانياس الباصية والطقوس التي دارت حول حكاية حنا إثر الطوفان ورحلته من التهتك إلى حالة الزهد والتجوال عبر دور العبادة والتي صنعت من حكايته معجزة وقداسة بنظر البرص والمشلولين والبؤساء الذين انتظروا عودته من رحلة الحج عبر الكنائس ليتباركوا بلمسة منه، رغم عدم قناعته بهذا الأمر ولأنه لا يريد أن يكون جزءًا من الوهم، وهنا استطاع خليفة أن يفكك آلية ابتداع المعجزات وطريقة إقناع البسطاء والتي تبدأ مع إمكانية تصديق الناس لها، وكيف يختلف التاريخ وتغيب حقيقته باختلاف الرواة ومصالحهم؛ فماريانا التي أرادت رسم صورة لـ«حنا» وترسيخ قداسته كما رغبت ووفق مصلحتها وفهمها استطاعت حشد جمهور واسع وساعدتها السلطات الدينية التي ساهمت بتكريس قداسة حنا وإيهام الناس بمعجزاته، فقد لا نشعر بقيمة الضعف البشري إلا عندما نهوي إلى الحضيض لذا قد يكون الاقتناع بمعجزة ما في بعض الحالات ذات تأثير خاص كنوع من التخفيف من بؤس البشر عند توقعهم لحل أو أمل ما، لينتقل لعرض قناعات بعض المتصوفة بفكرة الإله فهو كالحب يجري بين الضلوع مما استدعاه عبر شخصية الأب ابراهيم في تفسيره لفكرة العقاب والغفران الإلهي، إذ لا يفيد أحد التفكير بعدم وجود الله في ظل انعدام وانسداد الأمل في الحياة الواقعية وضمن الكوارث غير المحتملة للبشر.
من خلال حياة أبطاله الأربعة حنا وزكريا وعيسى وعازار الذين اتخذوا قلعة للمتعة والمجون تذكرنا بقلعة المركيز دوساد في روايته «١٢٠ يومًا في سادوم» جسد خليفة تاريخ حلب عبر أكثر من مئة عام رصد فيها صراع الإنسان مع الطبيعة؛ الطوفان والطاعون والمجاعة والمذابح، كما عرج على الأوضاع السياسية السائدة مثل كفاح الأكراد، واتفاقية سايكس بيكو والانتداب الفرنسي والحربين العالميتين، وإعلان دولة إسرائيل، وزيارة الرئيس شكري القوتلي التاريخية لمدينة حلب.
موضحًا تاريخ الحكم والهيمنة في البلاد التي امتدت من أيام العثمانيين وسوق مئات الشباب مقيدين ومساقين إلى الحرب «السفر برلك» حتى بدء دخول الفرنسيين للبلاد كذلك رصد بداية نشوء الحركات المتشددة عبر أكثر من طائفة ليدل على أن التشدد والتعصب ليس حكرًا على طائفة معينة، بل تقبع ورائه مصالح سلطوية ودنيوية جمة يتساءل فيها هل السلطة تستأهل أن يستبدل المرء روحه النقية.
إذ يبرز مثال العمة «أمينة البيازيدي» الداعية الموالية للعثمانيين ربيبة التيارات المتشددة وهذه الشخصيات تستظل بالسلطة السائدة دائماً وتتبع لأهدافها تحت غطاء الدين والعفة. ونموذج «ماريانا» التي عملت على تطويب قدسية ما لـ«حنا» واستغلال أزمته النفسية بعد الطوفان وفقدانه لابنه وزوجته لتحقيق مآرب خاصة بها واستغلال هيمنتها في الدير الحديث النشأة لتقييد حرية الآخرين وتنفيذ مشيئتها. ونموذجان آخران لشخصية اليهودي؛ واحد متشدد، ونموذج ثان هو عازار المنسجم مع انتماؤه الطبيعي للمكان إذ يقول عازار لسعاد يوم إعلان دولة إسرائيل: «سيعيش اليهود تيهاً آخر وأبدياً، لن تجدي يهودياً واحداً هنا بعد سنوات قليلة، سينتزعونهم من أمكنة طفولتهم حتى لو اضطروا لاستخدام القوة، لن يعدموا الوسيلة، ليرث أبناؤهم عار دم الفلسطينيين إلى الأبد».
في الحقيقة لم يتحدث المؤرخون عن طوفان في حلب، ولكن ربما ينضوي ذلك ضمن المتخيل الأدبي الذي يشير إلى الآلام والعذابات التي تعيشها الشعوب وبين الواقع والمتخيل يومئ إلى أحداث حقيقية لاتزال في ذاكرة المقهورين.
خالد خليفة يعتمد الاشتباك الزمني في الأحداث وحركة الشخصيات فتارة يعود إلى البدايات بعد أن افتتح العمل بمشهد الطوفان ليرجع ويروي كيف عشق أبطاله في فترة الشباب ليعود بهم إلى طفولتهم مرة ومرة إلى كهولتهم معتمداً التقطيع السردي لتتكامل الحكاية في ذهن القارئ بوصفه شريكًا في فعل السرد، ولعل العدد الكبير من الشخصيات حال دون دخول خليفة في العوالم النفسية للشخصيات والولوج إلى داخلها من أجل تفسير حركتها وتحول سلوكها.
نار العشق تلسع أبطاله بنارها المقدسة: سعاد وحنا – وليم البيازيدي ومريم الأرمنية – وليم عيسى وعائشة المفتي –إمام العاشقين صالح العزيزي الذي عشق عائشة.
وها هي رسائل عائشة يحفظها صالح العزيزي الذي قضى حبًا وقد ردد قصائد محبوبته عبر المآذن: «حبكَ أغلى من ياقوت الأرض، نجوم تنهض من رمادها، قدني حبيبي كعمياء إلى ضفة النهر، عذبة قبلاتك، عذب طعم يديك، لن تجد بعد موتي سوى رائحتي التي تحب، عنبر صدري، أنا تراب وأنت ماء، اصنع من ضلعي صلصالًا، تناثر في أيامي زمنًا مفردًا يتفرق ولا يجتمع، أنا تراب وأنت ماء، اسقني لأنبت ريحاناً في قلوب العشاق».
ليكون الحب رسالة خالد خليفة ووصيته إلى أصدقائه ومحبيه بثها عبر نصوصه ليخلد في قلوبهم ولتشع أعماله هالة مضيئة في مدونة الرواية العربية.
***
خالد خليفة الخالد في الذاكرة.. قراءة في رواية: لم يصل عليهم أحد؛ بقلم دعد ديب
دعد ديب؛ قاصة وصحفية سورية