“مَن يُطلق النارَ على ماضيه من المسدس، فإنَّ المستقبل سيطلق عليه من المدفع”
داغستان؛ اسم من كلمتيَن: داغ -جبل، ودستان -أرض أو بلد: بلاد الجبال. وبالفعل، سوف يكتشف الزائر لداغستان أنّ فيها جبالًا شامخة وطبيعة خلابة. وسوف يكتشف أيضًاً أنَّ الناس يحافظون على العادات والتقاليد الضاربة جذورها في تاريخ شعوب داغستان والراسخة رسوخ جبالها.
كلُّنا سنموت، لن نعيشَ إلى الأبد،
هذا معروفٌ وليس بجديد.
لكننا نحيا كي تبقى لنا ذكرى:
بيتٌ أو طريق، كلمةٌ أو شَجَرَةْ.
لن تنضبَ جميعُ الجداول،
والألحانُ لا تموت كلُّها مع الوقت،
فالمجدُ يُعلي اسمَنا بالأغنية،
مثلما تضاعفُ الجداول في قوة النهر.
***
داغستان، يا ملحمتي، كيف لي
أنْ لا أصلّي من أجلك،
أنْ لا أحبّك،
وهل يمكنني أن أطير بعيدًا
عن سرب الغرانيق في سمائك؟
داغستان: سأتقاسمُ بالعدل معكِ
كلَّ ما أعطاه الناس لي،
وسأعلّق أوسمتي وجوائزي
على قممك.
رسول حمزاتوف
وإذا ما سمع الضيف بعد أن يمضي فترة من الزمن في ربوع داغستان وبعد أن يسمح له الوقت بالتعرف على حياتها الثقافية والأدبية، أنّها تُلقّب بالعاصمة الشعرية لروسيا الاتحادية فسوف يكتشف أنّها تستحق هذا اللقب عن جدارة وباعتراف شعراء كبار في موسكو وبطرسبورغ… فالشعر بالنسبة لسكان هذي البلاد المليئة بالشعراء أشبه بالهواء الذي يتنفسه الناس هنا، بحيث أنك إذا ما “رفعت أي حجر” [والتعبير لي قلتُه في لقاء تلفزيوني] في أي مدينة أو قرية جبلية وفي كلِّ بيت، ستجد شاعرًا يكتب باللغة الأصلية لأحد الشعوب الكثيرة المتعايشة في داغستان منذ آلاف السنين. واللغات في داغستان حية مثل شعوبها بالرغم من الظروف العاتية والاجتياحات التي تعرضت لها هذه الشعوب على مرّ التاريخ. ومن ناحية أخرى، سوف يلفت نظر الزائر كثرة الشعراء من النساء. ولعلني لن أكون مخطئًا إذا ما قلت أن الشعراء من الجنس اللطيف في داغستان يفوق عددهم، ربما، ضعف عدد الشعراء من الذكور. ونذكر من بينهن الشاعرة الراحلة فازو ألييفا ومارينا أحميدوفا (سكرتير اتحاد الكتاب في داغستان وأهم من ترجم أشعار رسول حمزاتوف وغيره من شعراء داغستان إلى الروسية) وأمينة عبدولمناوبفا (التي صدر لها أكثر من ستين ديوان شعري ومعظمها مترجم إلى الروسية وقد حازت جائزة الدولة في مجال الشعر حديثًا) والشاعرة شييت خانوم أليشييفا وظلمو باتيروفا وصبيحة محميدوفا وظلمو محميدوفا وغيرهن الكثير. وغالبًا ما يكتب الشعراء إبداعهم الشعري باللغة الخاصة بقوميته. وهي كما قلنا كثيرة في داغستان: الأفارية (وهذه القومية هي الأكثر عددًا، تليها الدرغينية وهناك الأقليات اللاكتسية والكوميكية والليزغينة وغيرها… ومن ثم يبحث الشاعر عن مترجم لأشعاره إلى اللغة الروسية. وقد كانت هذه العملية ميسرة جدًّا في زمن الاتحاد السوفياتي السابق وذلك لأنّه كان يوجد في اتحاد الكتاب السوفييت أقسام تتخصص بترجمة الأدب من لغات مختلف الشعوب والأقليات السوفييتية إلى اللغة الروسية. أما اليوم فالمسألة أكثر صعوبة وكلفة وهي جهد شخصي عادة للشاعر نفسه… ولذلك هناك شعراء كثر لم تترجم أعمالهم إلى اللغة الروسية، ما حدَّ من انتشارهم ومن اطلاع القارئ في لغات أخرى على نتاجهم الإبداعي.
كيف ستعيشون بعد هذي الحرب؟
على أنقاض البلاد،
مع إحساس بالذنب…؟
كيف سيكون بإمكانكم أن تناموا،
عندما سيطرق أحلامكم
جميع أولئك الذين تمَّ قتلهم بالرصاص
أو إحراقهم؟
كيف ستكفرّون عن ذنبكم
في اقتتال الأخوة،
بعد أن تتصرفوا بوحشية وتدركوا
أنكم مجرّد أحجار في اللعبة…؟
كيف ستتخلصون من هذيان
هذا العصر المجنون،
لكي تواجهوا الربَّ وأنتم على فراش الموت؟
مارينا أحميدوفا
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن داغستان قدّمت عددًا لا بأس به من الشعراء الكبار وعلى مستوى الاتحاد السوفياتي سابقًا أو روسيا الاتحادية وبلدان رابطة الدول المستقلة حاليًا. نذكر منهم بالطبع رسول حمزاتوف الذي تحدّر كما هو معروف من أسرة أدبية عريقة وقد كان والده حمزة تسادسا من المؤسسين للأدب الداغستاني الحديث. وهناك أيضًا ماغوميد أباسيلوف وأحمد خان أب بكر وماغوميد أحميدوف (الرئيس الحالي لاتحاد الكتاب في داغستان والوريث الشعري لرسول حمزاتوف) وغيرهم الكثير من الشعراء المعروفين على نطاق روسيا الاتحادية وبلدان الفضاء السوفييتي السابق وفي بلدان أوروبية.
ومن جديدٍ يفيضُ نهرُ الكفرِ
الدنيوي إلى خارج الشطآن.
أواه، يا حماقة البشر المتوحشة،
إنك عتيّةٌ على مشيئة الآلهة!
لا تدوم الحياة الدنيوية إلى الأبد.
بل سوف يأتي يوم الحساب.
أواه، يا قسوة القلب عند البشر،
إنك تطغين على وهج النجوم.
كثيرًا ما تخيّلتُ في صورة الموقد
الذي أضرم على جانب الطريق
كيف إنّ الآلهة تفكِّر بنا بأسى
وقد اجتمعت بقرب كوكب الشمس!
ماغوميد أحميدوف
وما يدعو للإعجاب هو تلك الحركة النشطة في ميدان الترجمة من لغات الشعوب المختلفة في داغستان، لا سيما من اللغة الأفارية وهي لغة العرق الأكثر عددًا في داغستان، إلى اللغة الروسية… والترجمة تطال الشعر بالدرجة الأولى ومن ثم النثر والأجناس الأخرى من الإبداع الأدبي. وداغستان للعلم زاخرة بكتاب وبمخرجين مسرحيين وبممثلين وبعلماء يعملون في شتى مجالات المعرفة والعلوم في جميع أنحاء روسيا الاتحادية. وبالعودة إلى ترجمة الشعر إلى الروسية فهذا أمر طبيعي ومسار منطقي تفرضه الحاجة للانتشار والعالمية. لأن الشاعر في داغستان وهو يكتب باللغة الأصلية لشعبه سيبقى انتشاره الإبداعي محدودًا إلى أن تتم ترجمة أشعاره إلى اللغة الروسية… وعندئذ يصبح الطريق أمامه ممهدًا للانتقال إلى العالمية، إذا جاز القول. وهذا هو الطريق الذي سار على إبداع شاعر داغستان الأعظم والأكثر شهرة في العالم رسول حمزاتوف.
والحديث عن رسول حمزاتوف له نكهة خاصة. فقد كان كتاب رسول حمزاتوف العظيم “داغستان بلدي” الذي ترجم إلى العربية في بداية الثمانينيات من القرن العشرين الفائت بوابة فتحت المجال أمام القارئ بالعربية للاطلاع على ثقافة وعادات شعوب داغستان… وقد لعب الكتاب المذكور دورًا هائلًا في ذلك العشق الذي عرفه القارئ بالعربية لداغستان دون أن يزورها… وتحول كتاب “داغستان بلدي” إلى كتاب “المائدة” في كافة البلدان العربية، بحيث أنّ الجميع يقرؤونه ويعودون لقراءته باستمرار وينصحون غيرهم بقراءته… كما أنّ الجميع يقتبسون منه عبارات تحولت بحق إلى ما يشبه الأقوال المأثورة التي يضعها الناس في لوحات على مكاتبهم وعلى جدران بيوتهم وفي دفاترهم.
“الإنسان بحاجة لسنتين لكي يتعلّم الكلام،
ولستين سنة لكي يتعلّم الصمت…” – رسول حمزاتوف
ورسول حمزاتوف يحظى بتقدير كبير وبمحبة خاصة في داغستان ولدى كافة شعوبه… لأن الجميع يدركون الدور الكبير الذي لعبه الشاعر العظيم في تعريف العالم قاطبة ببلادهم داغستان… لقد حمل الشاعر داغستان في قلبه وفي ترحاله. وبفضل أشعاره أصبحت داغستان قريبة من كل إنسان في أي بلد من بلدان القارات الخمس.
وتكريمًا لشاعرها الكبير تنظّم داغستان سنويًا مهرجانًا شعريًا باسم “الغرانيق البيض” يحضره شعراء من مختلف أنحاء روسيا ومن بلدان رابطة الدول المستقلة ومن دول أجنبية. وتنطلق فعاليات المهرجان في 8 أيلول في يوم ميلاد رسول حمزاتوف. والمهرجان موضوع بحاجة لحديث مستقل. لكني أختم كلامي بالتأكيد على أنَّ داغستان حفظت وتحفظ ذاكرة ابنها البار وشاعرها العظيم – شاعر المحبة والإنسانية، فَأُطلِق اسم رسول حمزاتوف على أحد أهم وأجمل شوارع العاصمة محج قلعة، وهناك مكتبة باسم رسول حمزاتوف ومتحف يحمل اسم رسول حمزاتوف وغير ذلك الكثير… ولكن الأهم من وجهة نظري هو تلك المحبة التي يزرعها الكبار في نفوس الأطفال في المدارس وفي المعاهد والجامعات تجاه الشعر عمومًا وتجاه رسول حمزاتوف وأشعاره خصوصًا… وهذا ما لمسته من خلال زيارات عديدة إلى مدارس مختلفة في عدد من مدن وبلدات داغستان وخلال لقاءات مع طلبة في كلية الآداب في جامعة داغستان…
يا عابر السبيل، لا تطرق الباب، أصحابَ البيت لا توقِظ.
إذا كنتَ تحمل الشرَّ – اِرحلْ، إذا جئت تحمل الخيرَ – اُدخل! (رسول حمزاتوف)
***
أدركُ تحت سماءِ داغستان،
وبينما أعبرُ آخر مضيق:
باكرًا جئتُ كشاعر،
وكنبيٍّ – جدّاً متأخر.
رسول حمزاتوف
هنا ملخّص “دستور الجبال” التي تلاه رسول حمزاتوف في مؤتمر شعبي عام في العاصمة محج قلعة.
المادة الأولى “الرجل”:
يجب أنْ يكون الخنجرُ حادًّا، والرجلُ شجاعًا. ولا علاقة للشجاعة الحقيقية اطلاقًا بذلك التلويح بالأيادي في المناسبات الجماهيرية الاستعراضية. كلاهما خطرٌ أثناء العاصفة: جموح الشباب وبطء وتردد الشيوخ. إنَّ الحركات المختلفة ذات الصبغة القومية ومختلف فصائل “التدخل السريع” غير المنضبطة وهلمّ جرا، مهما اختلفت تسميتها، لا تساعد على انبعاث داغستان. فأولئك الذين يعتدون على حياة أمثالهم، والذين يعترضون القطارات، ويعرقلون إقلاع الطائرات بركابها الأبرياء، أولئك الذين يدفعون بأبنائنا وبأهالينا إلى المشاركة في الاقتتال الأخوي والذين يتعاملون مع السلاح المميت ويلعبون بالنار- لكل أولئك أريد أن أقول باسم داغستان، باسم مجلسنا هذا: إنهم لا يتصرفون بطريقة داغستانية ولا بطريقة قوقازية، لا كما يعلّمنا الإسلام ولا كما يعلّمنا شامِل، ولا بطريقة إنسانية، لأنَّ الأطماع تغلب على سلوكهم وليست المواقف، يغلب ما هو عاطفيُّ على ما هو قومي، تغلب الرعونة في سلوكهم على الحكمة، الأنانية على المصالح العامة لكل داغستان.
المادة الثانية “المرأة”:
لو كانت مشيئتي لكنتُ اعتبرتُ هذه المادة هي الأولى، جاء فيها: “مقياس الكرامة الإنسانية بالنسبة للرجل هو موقفه من المرأة “. ويحقُّ للرجل أن يتعارك في حالتين فقط – دفاعاً عن وطنه وعن النساء الجميلات. فيما عدا ذلك وحدها الديوك فقط هي التي تتعارك. وقد صار لدينا الآن، للأسف، الكثير مما هو “ديكي”.
المادة الثالثة “الأطفال”:
إنهم يسيرون على خطانا. بعد هزيمته على أرض داغستان سألَ ملكٌ فارسي: “مَن هو قائدكم؟” تقدمت امرأة داغستانية عادية تحمل طفلاً بين يديها. نعم، تحت لقد انتصرنا تحت مثل هكذا وندافع عن حريتنا تحت رايتها. إنَّ قضية الأم والطفل تبعث على القلق وهي واحدة من القضايا المعقدة التي تضعها الحياة أمامنا ونحن مُلزمون بالإجابة عليها اليوم. فالأمُّ تسألُ والدموع في عينيها: “ماذا سيحصل لطفلي؟”. العالَم ظالِمٌ جدًّا، وهذا القرن قاس للغاية، أغلب القادة حمقى ومِن حولنا ظلام قاتم وفقر مدقع، جرائم وكوارث، فوضى عارمة ودماء. ماذا يمكنها أنْ تفعل الأمُّ – حافظة النوع البشري، هذه الضعيفة والفقيرة؟ يجب علينا أن نحيط بحجم هذه المعضلة وبأهميتها. لأنَّ مستقبل شعوبنا يتوقف على مدى صحة الأجيال القادمة من الناحية الجسدية والروحية. لكن الوضع الحالي في العالم يهدد الحضارة البشرية بالانقراض. هناك حروب وجوع، هنالك تراجع كبير جدًّا في نسبة الولادات، وهناك الكثير من الأمراض الفتاكة – كل ذلك لا يترك مجالاً للتفاؤل في المستقبل. وما يبعث الحزنَ الكبير في النفس هو أنَّ الأطفال الأبرياء هم الذين يدفعون ثمن الأفعال الجنونية للكبار.
المادة الرابعة “الذاكرة”:
سيروا في أرضنا، اقرءوا عن مدننا، تذكّروا أسماء التعاونيات والمعامل، أسماءَ الشوارع والساحات، أسماءَ المصانع والمعاهد والجامعات، وربما مناطق بأكملها. ينشأ انطباعٌ كما لو أنَّ داغستان أبصرتِ النورَ لأول مرة في عام 1917 فقط. فإذا انطلقنا من تلك التسميات والمصطلحات، فسوف تختفي من الذاكرة مراحل كاملة من تاريخنا. ألمْ يكن لدينا قبل الثورة شعراء ومقاتلون؟ ألم تكن لدينا حروب أخرى، عدا الحرب الأهلية والحرب الوطنية العظمى؟ أيُعقل أنَّ بطولاتنا وأمجادنا وثقافتنا تمتد لـ 75 سنة فقط؟ لو كانت هناك شخصيات من أمثال شامل وحج مراد في بلدان أخرى، لكانت أسماؤهم هي التي تزيِّن المدن والبلدات الحديثة. لكانوا شيِّدوا لهم تماثيل في الساحات المركزية لعواصمهم.
يكادُ الجيلُ الحالي لا يعرف أسماء المفكرين والعلماء والكتّاب الذين مرّوا في تاريخ شعوبنا والذين كان إبداعهم معروفًا على نطاق واسع في الشرق كله، لا سيما في الجزيرة العربية وفي تركيا وإيران، وفي روسيا أيضًا.
كتبتُ في يوم من الأيام: مَن يُطلق النارَ على ماضيه من المسدس، فإنَّ المستقبل سيطلق الرصاص عليه من المدفع.
لذلك يجب ألا ننسى الماضي. أما الشيوخ فيجب علينا احترامهم، عينا أن نقف وأن ننحني عند دخولهم، ويجب زيارة قبور الآباء والأمهات، كما يجب أنْ نحترم ذكرى الأبطال في تاريخ داغستان. ونحن ننظم سنوياً مهرجان الغرانيق بهدف تخليد ذكرى أولئك الذين استشهدوا في سبيل وطننا.
رسالة من بيروت إلى جنكيز أيتماتوف
رسول حمزاتوف
أتذْكرُ, يا جنكيز[1]، يومَ كنا وإياك
ضيوفًا في بيروت؟
كيف راح ينسكبُ ضوءٌ أزرق
من البحر ومن السماء،
وكيف راحتِ الشوارع في البعيد تُغرينا.
لقد منحتنا المدينةُ مأوىً هادئاً،
فكان رائعاً في الليل وفي النهار.
كانت بيروتُ تُعتَبرُ باريسَ الشرق،
وقد تأكدتُ من ذلك بأمِّ عيني.
كانت مختلفَ الأعلام في المرفأ من الجهات الساحلية،
وكان ثمة الكثير من السياح والتجار،
وهيهات أن ننسى النساء من مختلف الجنسيات،
اللاتي يتفوَّقْنَ على الحوريات حُسْناً.
كيف جاء إلى الفندق في سيارته،
بالقرب من الكازينو، رجل من جزيرة العرب
وراح يقذف بالورود عبرَ نافذة السيارة،
وهو يردد: أنا أتمنى السعادة لحبيبتي[٢]!”
كم سحرنا ذلك الومضان الذهبيُ للوحات الدعائية،
وهي تتلألأ من الأرض وحتى السقف.
فبدا الأمر وكأنَّ المدينة بأكملها
سلَّمَت رأسها لسلطة الحِرَف والخدمات والتجارة.
“اشترِي، يا مدام، هذا السوار النادر!”-
“سعره مناسب تماماً”-
“إنْ ترفضي فكما لو أنك تطلقين النار عليَّ
من مسدس، وأنا موافق أن أخفِّض السعر”.
لم يحدث أنّ أحدًا اقتحم المنازل وهو يطلق النار،
وقد راح القمر يهزُّ المهود.
يستحيلُ أنْ ننسى كيف جلسنا أنا وإياك
في النادي الأرمني ذاك المساء.
وكيف قال أحدهم على المائدة: “هيا نغنّي!”
وإذ بالأرمن وقد كشفوا عن سخاءٍ كبير،
راحوا يغنّون عن أمور خاصة تؤرّقهم،
وذلك في ظلِّ هسهسة الأرز اللبناني.
وهل تذكرُ ذلك اللبنانيَ مع الصليبِ في عنقه،
ذاك الذي كان يجلس في البار ويشرب الخمرةَ
مع صديقه المسلم،
فكانا يشتعلان بالفرح معًا؟
وقد راحا يتحدثان بلغة واحدة
عن بلادهما الحبيبة الموحّدة.
كيف راح ناقوس الدير يُقرع،
وبالقرب منه كان يُسمَع صوتُ المؤذِّن.
“ألا تذكر، يا جنكيز؟”
- أنا مستعد لأن أناديك مرات
ومرات من لبنان الذي كان –
كيف ذهبنا إلى بيت جنبلاط[٣]،
وقد أمَرَ بَنحْرِ كبشٍ على شرفنا.
كيف راحت قِممُ الجبال تتلألأ بلون الفضة،
وكيف كانت السماء آمنة فوق الذرى.
كان كرامي[٤] يقود البلاد آنذاك
وهو يُمسِك بالسلطة
كما يُمسَك الثور من قرنيه.
***
وإذ نجمةٌ سقطتْ، فطارت إلى الظلمة،
وغابت لحظةٌ في غيهب الخلود.
قُتِلَ جنبلاط – صديقنا أنا وإياك،
ولم تعد بيروت كما كانت.
يحدث أنَّ اليهودَ والعرب يتشاجرون
فيها فجأة – كلمة مقابل كلمة –
لكن دون أن يتبادلوا إطلاق النار
ثم يعودون جيرانًا مسالمين من جديد.
أما الآن فَوجهُ اليومِ الأبيض أسودٌ
وثمة صوت رشاشات يلعلع.
“قل لنا – سألني فلسطينيون –
ألم يأتِ إيتماتوف معك؟”
“لم يستطع هذه المرّة – أجيب أنا –
فهو يبدْعُ.. هناك في إسِّك – كولي[٥]“.
وفجأة أشاهدُ: امرأة لبنانية شابة،
وقد أبيضَّ شعرها، تخرج من بيتها
والرصاص ينهمر.
وهناك، حيث الجدران المهدَّمةُ تحترق،
ودون أن تكترث للحرب، تبدأ بندبِ
ولدها المقتول، فتهزُّ رأسها
وقد أفقدتها المصيبةُ عقلها.
لقد تحول كل سطر عندي إلى ورقة نَعْوَةٍ،
وهنا، حيث سبق وكنا أنا وإياك،
أحمِّلُ قلبي قسطكَ الآن،
من الألم، يا جنكيز.
مَن له مصلحة؟ – فكّر معي.
بإرادةِ أيِّ شيطان شرير
يُطلق لبنانيٌ يَحملُ الصليب في عنقه
على لبنانيٍ يرتدي العمامة؟
يندفعون إلى المعارك بإشارة من صاروخ[٦]،
وكل الأطراف اليومَ عنيدة،
وقد نسوا أنَّ محمّداً كرَّمَ المسيحَ
وأنه لم ينكر أبراهام.
واذا ما اخترقت هنا رصاصة صدري،
وتسبّبتْ لي بجرح قاتلٍ، فإني أعرف أنك، يا جنكيز,
سوف تأني حالاً إلى عاصمة لبنان.
ولتعرف، أني ليلة البارحة،
ولتشهد بيروت عليَّ،
حلمتُ يا للسعادة:
الأطفال في كلٍّ من إسرائيل وفلسطين
متحدون، وأنهم يسيرون
معاً بأيادٍ متشابكة كقوس قزح.
محج قلعة؛ تشرين الثاني 2021
[1] – جنكيز إيتماتوف- الكاتب السوفييتي المعروف صاحب راوية “جميلة” و”المعلّم” و”تتداعى الجبال” الخ… المترجم
[٢] – حرفياً في النص الأصلي: لسينورينتي.
[٣] – المقصود رجل الدولة والزعيم الوطني كمال بيك جنبلاط.
[٤] – المقصود رجل الدولة اللبناني الراحل كرامي.
[٥] – عاصمة قرغيزستان حيث كان يعيش ويعمل جنكيز أيتماتوف.
[٦] – قد يقصد الشاعر صواريخ الشهب كنوع من الاشارات بين المتقاتلين.
# القصائد والأقوال المأثورة من ترجمة إبراهيم إستنبولي
خاص مجلة قنآص
د. إبراهيم إستنبولي؛ كاتب ومترجم من سوريا. صدر له أكثر من عشرين كتابًا ترجمةً في الشعر والرواية والفكر السياسي والاقتصادي.