سيفتلانا أليكسييفتش وبلاغة الشهادة
تمثل الأديبة والصحافية البلاروسية سيفتلانا أليكسييفتش (نوبل 2015) حالة أدبية خاصة، من خلال أعمالها القائمة على ثنائية التوثيق والتخييل، وبث روح أدبية في وثائق تاريخية، وشهادات عادية، وقصاصات صحف وحورات ومشاهدات، مستعينة بالشهود في بناء كل عمل يتوقف عند نقاط مفصلية في حياة شعوب الاتحاد السوفيتي، قبل وبعد التفكك والسقوط، وتمنح الصوت لمن لا صوت لهم، ممن ينساهم التاريخ دائما، ويعطي لهم ظهره كثيرا، هؤلاء الشهود من الأطفال والبسطاء والمصابين والأرامل هم الأبطال الحقيقيون لكل أعمالها، تستمع لهم وتأخذ منهم، وتنسج على آثارهم في رمال الكلام ما لا يمحى ويظل عالقا بالذاكرة، لذلك أخذت كتاباتها سمتا خاصا مميزا يتداخل فيها التوثيق مع التخيييل في بوتقة واحدة؛ لتصنع تاريخا موازيا للتاريخ التقليدي، هذا الذي يكتبه المنتصورون ويهتم بالساسة والرؤساء، ويضرب صفحا عن العادي من المشاعر والناس والأحداث. ولا يقتصر الأمر على تعدد الأصوات من خلال شهود حقيقيين عايشوا أحداثا كبرى مثل حرب أفغانستان في كتابها (فتيان الزنك) أو من عاش تجربة مفاعل تشرنوبل في كتابها (صلاة تشونوبل)، أو في زمن التحولات مع سقوط الاتحاد السوفيتي في كتابها (زمن مستعمل ونهاية الإنسان الأحمر)؛ أو تجارب المرأة الروسية في الحرب العالمية الثانية في رائعتها (ليس للحرب وجه أنثوي)، ولايقتصر الأمر على مجرد جمع الشهادات وإعادة ترتيبها أو صياغتها بصيغة أدبية جمالية، حيث تتجاوز ذلك في بناء شهادات أدبية لازمنية متعالية عن وقائعها التاريخية إلى رحاب إنسانية ترتكز على الذاكرة وعلى المشترك الإنساني في التأثير على القارئ وجذبه إلى هذا النمط من الكتابة التوثيقية، فهي لا تقدم تاريخاً للأحداث فحسب، بل تاريخاً للعواطف، أو العالم العاطفي الكامن في أعماق الحوادث والكوارث؛ لذلك نسبت الأكاديمية السويدية إليها ابتكار نوع جديد من الكتابة الأدبية عبر عنايتها بالتاريخ الشفاهي وجماليات كولاج من الأصوات البشرية، لتقدم لنا تاريخ الروح والعواطف متعالية على عمليات التوثيق الصحفية إلى رحاب التخييل الذي لا يزيف الواقع بل يجمله ويعطيه معنى جديدا أكثر دلالة. وسيفتلانا لا تقوم بعملية جمع لشهادات وتنضديدها إلا بحثا عن الإنسان وروحه وأثر الأحداث المحورية عليها، وبناء وثائق مضادة أو موازية للوثائق الرسمية التي تتخطى البشر العاديين والمهمشين لصالح القادة والساسة الفاعلين، إنها تحول الهامش إلى مركز والمركز إلى هامش، وتحول رد الفعل إلى فعل، مؤسسة لتاريخ جديد هو تاريخ البشر في عاديته وأحلامه وأحزانه وأثر التحولات الكبرى عليه وعلى هويته.
القصة الشهودية
دخلت سيفتلانا أليكسييفتش إلى الأدب من باب الصحافة التوثيقية وكتابة التحقيقات، واستطاعت بحرفية أن تبتكر نوعا من الشهادات الأدبية التي تتمحور حول نقطة مفصلية في تاريخ جماعة من البشر، وأثرها في النفس البشرية ومشاعرها وآلامها ومعاناتها المستمرة، لم يكن الحدث أو الواقعة التاريخة إلا نقطة انطلاق، بعدها تأخذ الشهادات طابعها الإنساني الرهيف وحزنها الناخر في ضلوع ذاكرة من يحكون لها، لتضيف إلى الوثائق التاريخية في شكلها التاريخي نمطا جديدا من الوثائق ذا طابع أدبي، يقطر بالذاتية والتجربة الإنسانية العميقة التي لا يستطيع أن يمسك بتلابيبها إلا من عاشها في لحظات مفصلية من حياته، وهنا يطرح سؤال الأدبية على هذا النمط من الكتابة، وجوهرها في رأيي يتعلق بالكاتبة ذاتها، فلا شك أن ما تستمع إليه من التقشف البلاغي بمكان، فاللمسة الأدبية هي نتاج كتابة لا سماع بالأساس. كما إن ارتباط الكتابة بحدث تاريخي ما لا يمثل سوى تمثله عبر اللغة، وثم وعي «بأن وسيط اللغة ليس بإمكانه أن يعكس أو يعيد خلق الماضي كما ينبغي»[1]، واللغة وسيط غير محايد في أغلب الأحيان، حتى في أبسط أنواع التمثيل، هنا نحن أمام نمط مشترك من النصوص ذو طبقات، بداية من كونه تلفظا متعددا «حيث يساهم كل فاعل حسب وضعه ودوره في العمل المشترك وكثيرا ما تكون غاية الحامل التوثيق ليعتمد حجة في حالة الاعتراض، ويمكّن عند الاقتضاء من أن تلقى مسؤولية عمل على البعض دون البعض الآخر»[2].
ويمكننا أن نصنف مبدئيا الكتابة الأدبية لدى سيفتلانا أليكسييفتش في إطار ما يعرف بالقصة الشهودية testimonio، وهي عبارة عن رواية أو قصة بطول الرواية القصيرة يوردها الراوي بصيغة المتكلم، والذي هو أيضا البطل الحقيقي للأحداث التي يرويها أو شاهد عليها، وعادة ما تكون وحدة الحكي حياة أو حدثا مهما في حياة ما… إن إنتاج القصة الشهودية ينطوي بوجه عام على تسجيل وتدوين وتحرير رواية شفاهية على لسان المحاور الذي إما أن يكون صحفيا أو كاتبا أو ناشطا اجتماعيا[3].
ثمة جمع من نقاد الأدب من ينفي صفة الأدبية عن كتابات سفيتلانا، كان حصولها على نوبل محل جدل كبير، إلا إن الجانب التوثيقي والقائم على استنطاق الشخصيات لا ينفي عن أعمالها التخييل بوصفه شيئا انتقاليا يقع بين الواقعي والخيالي، فهو لا يقطع الصلة بالواقع، وإنما يشتغل به من خلال مجموعة من الأفعال تظهر بصورة واضحة من خلال كل من الرواة/ الشهود، والمؤلفة/ الكاتبة، ذلك أن انتقاء شهادات بعينها وأجزاء بعينها من تلك الشهادات من شأنه أن يكشف عن قصدية المؤلفة، كذا نلحظ أن تحويل الكاتبة للشهادات إلى نسق كتابي منضبط أسلوبيا، لا يخلو من تقنيات الحلم والمنولوج ومختلف تكنيكات تيار الوعي؛ يؤكد أهمية التخييل في بناء هذا النوع من الأدب، يضاف إلى ذلك وجود فجوات زمنية بين الواقع وروايته من الذاكرة، إذ إن تذكرَ أحداث جرت في الطفولة من الطبيعي أن تُلوَّن بحاضر الحكي، ومن ثم يقع فعل تخييلي آخر من قبل الرواة/ الشهود الذين يقصّون من الذاكرة، ومن شأنهم أن يقوموا بعملية انتقاء أخرى وفقا لما تختزنه تلك الذاكرة، ولاشك أن عملية استعادة الماضي لا تتم إلا عبر وساطة من خيال يقوم بسد ثقوب الذاكرة وفجوات الرواية، لكي تظهر منتظمة سرديا، ومن ثم جاء عنصر التحبيك فيما رُوي من شهادات ليؤكد على تداخل التاريخ مع التخييل، لذلك لم تطلق الكاتبة على كتابها تاريخ أو رواية، إنما جاءت العنونة لتكشف عن الطبيعة الأدبية لتلك الشهادات، ومن ثم يبرز التاريخ في كتاباتها لا بوصفه علما جافا بل باعتباره مزيجا من عدة عناصر لغوية وجمالية وعلمية. بيد أن هذا النمط من الأدب وقع أسير تماهيه وانفتاحه على أنواع عدة كان لها دور في تهميشه ونفي صورة الأدبية عنه3. إن وجود هذا الجنس الأدبي على هوامش الأدب وشغله لمنطقة غير محددة بين التحدث والكتابة، وبين الأدب والتاريخ، وبين السيرة الذاتية والتأريخ الجماعي، وبين البيان الشخصي والسياسي، ويجعله جنسا أدبيا شائقا جدا لعقد مقارنة بينه وبين غيره من مداخلات ما بعد الكولونيالية في الخطاب الإمبريالي[4].
الوجه الأنثوي للحرب
في كتابها (ليس للحرب وجه أنثوي) وقفت الكاتبة أمام تجربة الحرب من منظور نسوي، الحرب التي ظلت من خصائص الرجال ومعالم الرجولة، الحرب التي عاشت النساء على هامشها وإن كن أكثر من يكتوين بنارها، لكن التأريخ للحروب لم يلتفت إلى هذا الجانب المهمل من تجربة الحرب، وقفت سيفتلانا أليكسييفتش لتجمع شهادات نسوة شاركن في الحرب، واستمعت إليهن لتخرج برؤية مغايرة تماما لما تعودنا أن نقرأه عن الحرب سواء في التاريخ أو الأدب، تقول سيفتلانا: «كنت غير مرة الشاهدة الوحيدة، والمستمعة الوحيدة لنصوص وأقوال جديدة كليا. وكنت أشعر بالصدمة، كما في طفولتي… لحب النساء ألوانها الخاصة، وروائحها الخاصة وأضواؤها الخاصة، ومساحات مشاعرها المميزة، وكلماتها الخاصة. إنها تخلو من الأبطال والمآثر القتالية التي لا تصدق، وفيها لا يشعر الناس وحدهم بالألم والمعاناة، بل وكذلك الأرض والطيور والأشجار[5].
فالسرد وسيلة أساسية لتمثل المعرفة، وأداة طيعة للشرح والتفسير، على تنوع أشكاله واختلاف مقارباته للواقعي والمتخيل، ولا يتعلق الأمر بمجرد إعطاء الصوت والفاعلية السردية للمهمشين من أبناء السوفيت ممن عاشوا هذه المناسابات التاريخية وتحولاتها وآثارها الاجتماعية والفكرية والحضارية الهائلة؛ إنما يتعلق بأمر آخر يرتبط بتهميش السياسي -لا منعه لاستحالة ذلك- وإزاحته إلى الخلفية، كذا جعل الرؤساء والملوك والساسة في الخلفية، بمعنى استقراء آثار أعمالهم دون الحديث عن شخصياتهم وطباعهم إنما تأثير قرارتهم على أنماط الحياة وتغيراتها المثيرة، لذا تختلف شهادة المهمشين عن أولئك ممن خاضوا غمار الأحداث وأثروا في اتجاهاتها، إذ تخلص الأولى للإنسان في عاديته وبساطته، ومن ثم تصير أعلق بالحياة وطباع البشر، وإعطاء الصدارة لصوت المهمشين هو دور الأدب على الدوام، بوصفه مانح سلطة لمن لا سلطة له، هي سلطة القول والتعليق وبعث العواطف المختلطة في نفوس مفعول بهم لا فاعلين؛ لذا يظل هذا النمط من الشهادات، ناهيك عن صدقه وغلافه الأدبي على مستوى اللغة والأسلوب -فعل مقاومة ضد المستبدين والساسة وقواد الثورات على حد سواء، ليضيف بعدا جديدا للتاريخ، «وتتحول الذات الخاضعة بالسرد إلى ذات فاعلة لها قدرة عن المقاومة دون ثورة طاحنة أو اقتتال، فلم تعد الحقيقة في الوقت الراهن شيئا ظاهرا، بل غدت خاضعة للإنتاج… كما إنه يحيل إلى رسالة الأدب المزدوجة في كونها كتابة إبداعية ووثائقية»[6].
هنا لا يتربط التاريخ بملاحظة الواقع لبناء المعنى، بل يقوم على اختيارات عدة لإنتاج المعنى، والمؤرخون الرسميون أيضا يقومون بعمليات تكرار وحذف وتمحيص في طريقة بنائهم للمعنى فهم «يعتِّمون ويكررون ويلحقون ويبرزون، وينظمون تك الوقائع، لكن بغية إضفاء معنى معين على أحداث الماضي»[7]. ولا شك أن دور الوثيقة ودرجة الموثوقية بها تغيرت في عصرنا الحالي، «ولا ريب في أن مكانتها تغيرت: لأنه صار من المسلم به أنها لا تقدم اتصالا مباشرا بالماضي، لذا يجب أن تكون تمثيلا أو بديلا من خلال إعادة التشكيل النصي للحدث الخام»[8]، فالوصول إلى الماضي لا يتم إلا من خلال الوثائق والسجلات وشهادات شهود العيان والقرارت. ويتم تمثيلها من خلال عمليات استقراء، وتفكيك وربط وحذف، فلم تعد الكتابة التاريخية بريئة من التخييل رغم إدعاء الموضوعية، فهي لاتخلو من الذاتية، فهي أكثر منها محاولة لفهمه والسيطرة عليه بواسطة نموذج مساعد على العمل ( قصصي/توضيحي). إنها هي التي تضفي معنى خاصا على الماضي»[9]، وحين يكون السرد على لسان الأنثى فإننا نتوقع كثيرا من الذاتية والبوح والتداعي على لسان نسوة شاركن في الحرب وخرج من أنوثتهن قسرا: «وقبل آداء القسم أحضر لنا العريف أول اللباس العسكري، معاطف وقبعات وقمصان وتنانيير، بدلا من القمصان الداخلية النسائية، قمصان رجولية بأكمام طويلة»[10].
آخر الشهود ونزيف الذاكرة
لقد اتجهت سيفتلانا أليكسييفتش بأدب الحرب ناحية الإنسان العادي، فلم تُعنَ بوقائع الحرب وأبطالها المبرزين، ولم يشغلها أمر الغارات والطلعات والمدافع، أو أخبار النصر والهزيمة، إنما عنيت في المقام الأول وربما الأخير بتاريخ الروح، وما علق بالنفس الإنسانية من أدران المعارك. الحدث ذاته لا يعنيها إلا باعتباره محركا أو مثيرا لها، ليحركها لتتبُّع أثر هذا الحدث الجلل على هذا الإنسان صغيرًا كان أم كبيرًا، لذا أطلقت على نفسها مؤرخة النفس والروح، فهي لا تكتب عن الحرب كما تعَّود أن يكتب المؤرخون، ولا كما تعود أن يكتب الأدباء من الرجال، بل تكتب عن الإنسان في الحرب، الإنسان المنسي الذي يعتقد أنه يعيش على هامشها ولا يشارك فيها، لكنه يتجرع مرارتها، إنها لا تكتب تاريخ الجيوش والقادة، بل تاريخ العواطف والمشاعر المتأججة بفعل الحرب، ولأن الفكرة الكبيرة بحاجة إلى إنسان صغير؛ لذا وجدناها تهتم في كتابها آخر الشهود[11]، بشهادات أضعف الأطراف في الحروب، وهم الأطفال، وليس الأمر مجرد جمع لشهادات بشرٍ كانوا أطفالا، إنما الأمر يتعلق بتجربة إنسانية بعيدة زمانيا وغائرة في الذاكرة، فقد استغرقت كتابة تلك الشهادات ما يزيد عن خمسة وعشرين عاما، تمتد من 1978 إلى 2004، يضاف إلى ذلك البعد الزمني الممتد لأكثر من عقدين عن الحرب التي يدلون بشهادتهم حولها، ومن ثم كان التخييل وسيلة أساسية في الفهم.
ولأن الشهود كانوا أطفالا؛ لذلك كان الحديث عن لعب الأطفال يتردد بكثرة في ثنايا الشهادات، وما أكثر ما نجد أن الدمية أو الكرة أو مشبك الشعر يشغل البؤرة الرئيسية للسرد، ولا ينظر إليها بوصفها لعب للمتعة واللهو، وإنما بوصفها رمزا للفقد والضياع والحرمان، فالفتاة التي لا تمتلك كرة، تشتريها بعد أن صارت في سن الشباب، وتخجل وهي تحملها وتعلقها بشبكتها لا لتلعب بها وإنما لتنظر إليها، وأخرى تحرم من دميتيها لسد جوعها وجوع أمها المريضة، تشتري لها أمها دميتين بعد سن التخرج، وتقوم تلك التفاصيل الصغيرة بدور أساسي في عملية التخييل السردي، من خلال الوصف المتخلل ثنايا السرد الذي يظهر وكأنه عملية إعادة إنتاج، ومن ثم تبرز وظيفة الوصف في النظام التجنيسي للسرد، فهو ركيزة أساسية في تخليق هذا العالم ورسم صورة له.
وفي كتابها التوثيقي المطول (زمن مستعمل)[12] الذي سبب لها كثيرا من المتاعب، جمعت الكاتبة سيفتلانا أليكسييفيتش أحاديث الإنسان السوفيتي عن هويته في لحظة التحول الكبرى لحظة سقوط الدولة العظمى، من خلال شهادات ممتدة تاريخيا، منها ما يقف عند خضم اللحظة وتحولاتها الاجتماعية من أبسط النقاط إنسانية، ومنها ما يمتد تاريخيا إلى الثورة البلشفية، تتقاطع الأصوات وتختلف مع أو ضد، لكنها في كل الأحوال تقطر بالحزن الإنساني، والدهشة من التحولات الدرامية التي شهدها الإنسان السوفيتي، وكان كل راو من الرواة/ الشهود مطالبا بإضافة ما من شأنه ملء الفجوات التي سقطت من الذاكرة التي لها أيضا دور أساسي في غربلة الأحداث، وما تشاء محوه أو إبرازه منها. وهذه هي ميزة السرد وخصوصيته، حيث يتميز «بقدرته على امتلاك التجربة الإنسانية وتصريفها من خلال جزئيات الحياة المنتشرة في كل شيء… ومن هذه الجزئيات الصغيرة، ومن القدرة على ترتيبها وفق غايات دلالية مسبقة تبنى ضمن الحدث وعبره، يستمد السرد قدرته على بناء عوالم حياتية ممكنة تضم داخلها كل النسخ المتحققة أو الممكنة أو المتخيلة فقط، لتحولها بعد التنقيح والتهذيب إلى نموذج انفعالي عام يستوطن الوجدان ويوجهه»[13].
زمن مستعمل ونهاية الإنسان الأحمر
وقد كفل تنوع الشهادات واختلافها حول هذا الحدث المحوري نوعا من البولوفونية التي تكسر تراتبية السرد الأحادي، إذ تظل أدبية الشهادة مرتبطة بالجانب الذاتي للإنسان، حيث إن «خاصية الشهادة تقوم على أن التأكيد على حقيقة الواقعة لا ينفصل عن ربطه بالتسمية الذاتية للشاهد. من هذا الربط تنبثق الصيغة النمطية للشهادة: أنا كنت هناك. ما يقر به هو حقيقة الشيء الذي مضى وحضور الرواي في موقع الحدث. والشاهد هو الذي يعلن نفسه أولا شاهدا، إنه يسمي نفسه. إشارة ثلاثية تخترق التسمية الذاتية: – استعمال صيغة المتكلم المفرد أنا – استعمال الفعل الماضي – ذكر هناك بالنسبة إلى هنا[14].
كما تظهر الشهادة بوصفها تحولا من العين إلى الأذن وهو تحول من المفرد إلى الثنائي والمتعدد، فالشاهد لديه ما يقصه أو يسترجعه، وهو ما يستدعي آخر مستمع يقص أمامه ما يقول أنه شاهده، ربما كان فاعلا فيه أو ضحية من ضحاياه، لكن الغريب أنه في لحظة الشهادة يقف في موقع شخص ثالث بالنسبة لكل المشاركين في العمل. هذه البينة الحوارية للشهادة تبرز مباشرة بُعد الثقة الذي تحويه: إن الشاهد يطلب أن يُصدق. إنه لا يكتفي أن يقول: لقد كنت هناك، بل يضيف: صدقوني. إن الموافقة على الشهادة لا تكون كاملة إلا عن طريق الجواب كصدى لذلك الذي يتلقى الشهادة ويقبلها[15]، لكن في مقابل ذلك نجد أن الأمر لا يتوقف عند مجرد طلب التصديق إلى تجاوزه أحيانا إلى نوع من التحدي على نحو ما وصفه ريكور، هذا التحدي يتمثل في طلب شهادات أخرى تؤازر الشهادة وتؤكد صدقها، لكن في كتابات سيفتلانا أليكسييفتش نجد أن هذه الخطوة الثالثة من شأن الكاتب الذي يقوم بتجميع الشهادات المختلفة عن حدث واحد، وإضافة معنى له من خلال تحويله إلى وقائع ووضعه في سياق حبكة وتسلسل سردي، وهذا ما يميز سرد ما بعد الحداثة على وجه الخصوص.
هوامش
- توماس أ سلوان، موسوعة البلاغة، ج2، ترجمة نخبة وتقديم عماد عبد اللطيف، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة2016، 137-
- باتريك شارودو، معجم تحليل الخطاب، ص570
- بل أشكروفت، السابق، ص337
- بل أشكروفت، السابق، ص338
- سيفتلانا أليكسييفتش، ليس للحرب وجه أنثوي، ت نزار عيون السود، دار ممدوح عدوان للنشر، دمشق 2016، ص12
- ماري تريز عبد المسيح، القراءة التاريخية للنصوص وكتابة النصوص التاريخية، فصول، عدد67، صيف- خريف 2005، ص174
- ليندا هيشتون، سياسة ما بعد الحداثة، ت حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، ط1 بيروت2009، ص167
- ليندا هيشتون، السابق، ص186
- ليندا هيشتون، السابق، 162
- سيفتلانا أليكسييفتش، ليس للحرب وجه أنثوي، ص103
- سيفتلانا أليكسييفيتش،آخر الشهود لحن منفرد لصوت طفل ، ترجمة د عبد الله حبه، دار ممدوح عدوان للنشر 2016م
- سيفتلانا أليكسييفيتش، زمن مستعمل ناهية الإنسان الأحمر، ت نزار عيون السود، دار ممدوح عدوان للنشر،دمشق2018
- سعيد بنكراد، أدب السجون في المغرب من الشهادة إلى التخييل، أعمال ندوة الذاكرة والإبداع، قراءات في كتابات السجن، المغرب، 2006، ص27
- بول ريكور، السابق، ص248
- بول ريكور، السابق، ص248، 249
د. محمود فرغلي: ناقد وأكاديمي من مصر