مرايا فنّيةمسرحُ أفلام

صلاح السعدني.. رحلة بدأت بالرحيل | د. هاني حجاج

قدم السعدني كأبرع ما يكون دور العمدة في المسلسل الطويل الخالد «ليالي الحلمية»، ودور حسن أرابيسك في مسلسل «أرابيسك» لأنور عكاشة

صلاح السعدني.. رحلة بدأت بالرحيل

أحد الحقائق المخيفة التي يعرفها كل ممثل ولا يصرح بها علنًا، في مصر وفي هوليود، هي أنه في لحظة حتمية عليه أن يقرر وجوده على الشاشة بين فنان مؤثر وله دور في الوجدان أو مجرد ورقة لعب في يد المخرج ومن وراءه المنتج. في الحالتين يجيد عمله، ابتساماته محسوبه، هتافاته وانفعالاته، عنف الفعل وذكاء رده، لكن ضميره يلجمه عن تنازلات خفيفة كالهمس عظيمة الأثر قادرة على أن تجعله يغرق في القبلات الحميمة والتهريج الرخيص والعراك المستمر بالجاكتة الجينز إياها، أيضًا إرادته الفنية تجبره على الحفاظ على شخصيته فلا يكون إستبداله بالأمر الهيِّن. وهذا هو صلاح السعدني، نجمنا الحبيب.

بالطبع سوف تجد الكلام عن كفاح البدايات والأرقام بجوار قائمة الأعمال مكتوبة في كل مقال يتحدث عنه، إذا كان هناك أي مقال يتحدث عنه! فلا معنى لتكرار ما سوف تجده في ويكيبيديا بسهولة، ودعنا نناقش هذه الطاقة الفنية بهدوء، مالها وما عليها. أين تكمن موهبته، وفيم أخطأ؟ من المهم أن تتذكر أنه قد بدأ في مطلع الستينيات، كان ذلك في مسلسل (الرحيل) عندما كان كل شيء في الدراما يكتبه عبد المنعم الصاوي ويخرجه نور الدمرداش، الديكور بائس يضع بعض الجريد على الجدار فيكون الريف، والإضاء تحرق البواريك وتذيب المكياج، وفي هذا المسلسل سترى بوضوح تمكنه من تخليق المشاعر المطلوبة بين جمهرة من المحترفين في دراما تلك الأيام (حمدي غيث، ناهد سمير، شفيق نور الدين، عبد الغني قمر).

صلاح السعدني وبداياته مع مسلسل الرحيل في ستينيات القرن العشرين

 

لكن صلاح السعدني اختفى بعدها لأربع سنوات كاملة، ربما للحصول على مسار مناسب لأكل العيش ببكالوريوس الزراعة خصوصا أن السينما وقتها كانت تلهث من التطبيل ولم يعد هناك طاقة إلا لأفلام بوليسية سخيفة أو الغراميات الساذجة، وشارك السعدني في بعضها على مضض، مع عادل إمام ونادية لطفي وعبد المنعم إبراهيم في (كيف تسرق مليونير) عام 1968، و(شياطين الليل) من إخراج نيازي مصطفى عام 1966، وبعض الأدوار الصغيرة في المسرحيات مثل الفرّاش في (السكرتير الفني) مع فؤاد المهندس وشويكار، و(لوكاندة الفردوس) مع أمين الهنيدي، ومسرحيات جادة يندر أن تجدها في أي مكان الآن: الملوك يدخلون القرية، زهرة الصبار، مسحوق الذكاء، معروف الإسكافي، وسرعان ما انصرف عن أفلام قمصان النوم والبحث عن الألماظ وقرر الاشتراك في القصص الجيدة قدر المستطاع، في أواخر الستينيات من خلال (زوجة بلا رجل) مع نيللي وكمال الشناوي ونور الشريف، تأليف يوسف جوهر وإخراج عبد الرحمن شريف في أفضل أفلام هذا الأخير (وهو مخرج متواضع، بدأ بأفلام معقولة لفاتن حمامة ثم استسلم للهزيل. تأمل عناوين أفلامه: مال ونساء، الجسد، حب حتى العبادة، قلوب العذارى! فاختاره المخرج الكبير يوسف شاهين ليشارك في فيلمه (الأرض) – في دور علواني، وفيما بعد في دور الدجال المهرج عاشق السينما الذي يرتدي عباءة النجوم طيلة الليل في (اليوم السادس) أمام داليدا ومحسن محيي الدين، وللأسف لم يتمكن أحد من إدارة هذه الموهبة العظيمة، لأن شاهين صاحب مزاج ولا يمكن الاعتماد على خياراته في المستقبل، لذلك عاد مُكرها لأفلام الطلبة المشاغبين المتنكرة في قضايا جادة، أما الحقيقة فهي أفلام للمراهقين مقتبسة من أفلام أجنبية، فتلى (الأرض) مباشرة، عام 1972، فيلم (مُدرستي الحسناء) لإبراهيم عمارة، مع هند رستم وحسين فهمي وسعيد صالح وسناء مظهر وسهير زكي، وفيلم (أعظم طفل في العالم) مع رشدي أباظة وميرفت أمين، (شلة المشاغبين) مع صباح ومحمد صبحي وعادل إمام، (الحب والثمن) مع أحمد مظهر، وهي مجموعة من الأفلام الضعيفة، بعدها وجد صلاح السعدني أن بناء وتكوين الأعمال التليفزيونية هو الأنسب لشخصيته الأقرب للتحفظ فشارك في المسلسل الشهير (القاهرة والناس) مع نور الشريف في بداياته التليفزيونية، وقام بصوت عزت في المسلسلة الإذاعية (أبو عرام) مع محمد رضا ونبيلة السيد وصفاء أبو السعود وصديقه سعيد صالح، ثم مسلسل (المعجزة) عام 1973 مع شريهان وعمر الحريري، وهي أعمال أدخلته البيوت والقلوب من أوسع الأبواب ومنحته مالم تستطع أن تقدمه له السينما ببهرجها الظالم أحيانا، لكنه لم يهجرها تماما، فعاد لأفلام جادة مهمة مثل (الرصاصة لا تزال في جيبي) عام 1974، و(أغنية على الممر) عام 1972، والفيلم المرح (شقة في وسط البلد) من إخراج محمد فاضل في تجربة أكثر رصانة بقليل من السائد وقتها، قام في الفيلم بدور الشاب حمدي، صديق نور الشريف ومحمود ياسين حيث هناك بعض العبث والمطاردات الغرامية خلف ميرفت أمين وشهيرة إلى آخر هذا الكلام. ثم (شهيرة) و(حكمتك يارب) وبعض المسرحيات الجادة (الدنيا مزيكا- العمر لحظة- حب وفركشة- قصة الحي الغربي) ليعود من جديد وبسرعة لدراما التليفزيون بمسلسل (أم العروسة) في منتصف السبعينيات، عن قصة عبد الحميد جودة السحار مع عماد حمدي ومشيرة إسماعيل وزهرة العلا، ثم تعود الأفلام كالقدر وهذه المرة يسرف في الظهور بأدوار قصيرة غير مؤثرة في (الحساب يا مدموزيل) و(طائر الليل الحزين) و(بدون زواج أفضل)، كانت هذه فترة ارتباك شامل سيطر فيها كل نجم رومانسي على مساحته مكررا نفسه إلى ما لا نهاية، وكل كوميديان راح يتشقلب ويتلقى الصفعات حتى لا يضيع بعد الانفتاح، وعادل إمام قد أفلت من هذه المعمعة بنجاح، لكن السعدني تحت مظلة الفتى الهاديء الشريف كان سينهار بنيانه في الحال إذا ارتدى ثوبا لا يليق به، فارتضى بأقل الخسائر واكتفى بالظهور المحدود دون المغامرة ولا تعرف هل تلومه على هذا أم تقول رحم الله امرء عرف قدر نفسه؟ بالقياس لوجوه كثيرة ظنت أن ما تقدمه يمت لعالم الفن، نحن نشكره من الأعماق، أما بحجم موهبته الحقيقي الظاهر أمام مسلسلات طويلة عظيمة فإننا نعاتبه فعلا على غيابه.

أولى دعائم هذا الاتهام تتمثل في نجاحة الأكبر على مدار تاريخه على يد الكاتب الأهم في التليفزيون، أسامه أنور عكاشة، في دور حسن أرابيسك، ودور العمدة في ليالي الحلمية. وكان السعدني قد تمكن من الحفاظ على مكانة معقولة على الشاشة في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينات بأدوار: سعيد جابر في (صيام صيام)، حجازي في (ولسه بحلم بيوم)، أمين شحاتة/ الدكتور أمين في (أبواب المدينة) بجزئيه ثم (أديب) و(وقال البحر) ثم (بين السرايات) و(الشوارع الخلفية) (كرروا العناوين في ما بعد) وظهر في دور صغير هو حسن أبو ضيف وكيل النيابه الذي يشارك رأي صديقه عادل عيسى (عادل إمام) الرأي في مقاومة الفساد ولكن بالقانون في (الغول)، ثم دور حمدون صديق البطل في (عصر الحب) عن قصة نجيب محفوظ، وسمير الفتى العابث في (فتوة الناس الغلابة)، وكمال شلبي الميكانيكي النقي الذي يقع في براثن مديحة كامل في (إنحراف). هكذا تتحدد ملامح شخصية صلاح السعدين الفنية: إنه شاب/ رجل طاهر الضمير، حتى عندما ينحرف، يكون ذلك لظروف خارج سيطرته وليست من صميم تكوينه. لذلك قدم دور العمدة في المسلسل الطويل الخالد (ليالي الحلمية) كأبرع ما يكون، وإن غلب الهزل على دوره في الأجزاء الأخيرة، لكن المقصود هو شخصية رجل من أعيان الريف تجمع صفاته بين لؤم الفلاحين ونقاء السريرة، إنه ماكر ينوي الانتقام من الباشا سليم البدري الذي تسبب والده في تدمير سمعة عائلته، لكنه يحارب بشرف ودون طعنات غادرة، على عكس الباشا الأنيق الراقي الذي لا يتورع عن مضاربته ماليا في مقتل على حين غرة. ملامح السعدني تجمع بين سماحة الوجه وبراءة الابتسامة، العيون المندهشة لا تخون ولا تُخوِّن، لذلك تمكن بسهولة أن يقنعنا بالوقوع في إغراء نازك السلحدار (صفية العمري) وبأنه يفخر باندماجه وسط أبناء حي الحلمية الشعبي فلا يضيع الخط الرمادي الذي يجب أن يراه المشاهد في نص عكاشة: ابن القرية النزيه المسالم لا يخلو من بعض الانتهازية والطمع في النفوذ، من ذلك المشاهد التي يبكي فيها بحرارة لاستشهاد ابنه تمام في الحرب، لكنه يتماسك بذكاء ليعلن على رؤوس الأشهاد أن أسرته قدمت ابنها البار ثمنا لأرض الوطن، بينما تكتشف بسرعة أن عينه على انتخابات البرلمان وهكذا يكتسب شعبية جارفة في دائرة الحلمية. هو أيضا أب صارم لكن دعابات ابنته زهرة كافية لتحيله إلى طفل في الحال، يتكور خدّيه وتتسع ابتسامته كمن يدغدغه أحد في جانبه، ضحكة صافية لا تصدق أن صاحبها يلاعب بسّة النصاب (محمد متولي) ويقهر ابنه الجاحد زاهر بزجرة وزغرة عين.

قدم صلاح السعدني دور العمدة في المسلسل الطويل الخالد (ليالي الحلمية) كأبرع ما يكون

 

تمسك أسامه أنور عكاشة باختياره للسعدني في دور الأسطى حسن في (أرابيسك)، رغم عدم اهتمامه المطلق بمن يؤدي شخصياته على الورق، وكان لا يعنيه في كثير أو قليل أن ينصرف أحد الممثلين أو كلهم أو يطالبون بزيادة الأجر في الأجزاء التالية لمسلسلاته كما حدث مرارا، وبشكل خاص وواضح في زيزينيا، وكان قد قدم السعدني معه الدور الهام أمام فردوس عبد الحميد في (النوة) وهو شخص شرير لكنه لا يخلو من لمسة إنسانية، وتكمن البراعة في أن الممثل عليه أن يقدم هذا الملمح بشكل خافت لا يمكن أن يظهر بوضوح وإلا أصبحت شخصية سكيزوفرينية لا تعبر عن أغراض الكاتب، أمام دور حسن أرابيسك فقد رشح الانتاج الكبير له في البداية عادل إمام لكن هذا الأخير خسر محطة عظيمة في تاريخه (وخسرناه نحن طبعا). واستطاع الفنان صلاح السعدني أن يُلم بتلابيب شخصية الصنايعي الفنان الضائع، يبدد جهده في معارك مع رعاع الحارة، ووقته في قعدة الحشيش، حائر بين حبه لبنت البلد توحيدة (هالة صدقي) والفتاة المتعلمة أنوار (لوسي)، لا يعرف كيف يوائم بين معاملاته التجارية مع زوج شقيقته الشرير رمضان الخضري (المنتصر بالله) وتفاهمه مع شقيقه الطموح حسني (هشام سليم) وشراكته مع صديقه مهندس الديكور شريف ظاظا (شوقي شامخ) وفي ذيله محاميه مصطفى بطاطا (محمد متولي)، تتبلور فيه شخصية الثقافة المصرية بكامل تفردها وتشتتها، حتى يضيق ذرعا بأحواله ويهدم فيلا عالم الفيزياء النووية ليبدأ البنيان من جديد على صفحة بيضاء! لكن السعدني انصرف بعدها عن الدور الهام والمؤثر وارتكن لكسله المعتاد والأسوأ أنه ابتعد عن عكاشة ليجرب شكلا جديدا للنجاح على شاشة التليفزيون، لكن الأسوأ من الأسوأ هو استنساخ تجربة أرابيسك في علبة باهتة لا مذاق لها ولا هدف، في مسلسل (حلم الجنوبي) بقلم محمد صفاء عامر الذي بهره نجاح أرابيسك وقرر أن يقدم نسخته الصعيدية منه: نفس الحدوتة عن أثر تاريخي تحتال جهة أجنبية لسرقته، وتحيط بالبطل مجموعة من نماذج شعبية ومتعلمين وفنانين للدفاع عنه، لتقديم بانوراما إجتماعية شاملة، وباستخدام أغاني سيد حجاب (الوحيد الذي قدم رؤيته الصحيحة هنا لتختلف عن رؤيته لأرابيسك في التتر الذي كتبه لكل من المسلسلين) وموسيقى عمار الشريعي ونفس مجموعة الممثلين تقريبا وحتى نفس الرجل أجنبي الملامح شامي اللهجة الذي كان يحوم حول الدكتور برهان (كرم مطاوع) في (أرابيسك). وكانت تجربة مشوهة نسى أصحابها أنه لا توجد في مجال الدراما أفكار عظيمة بقدر ما توجد رؤية خاصة خلفها فلسفة شديدة العمق.

تمسك أسامه أنور عكاشة بصلاح السعدني باختياره في دور الأسطى حسن في (أرابيسك)

 

هكذا ظن أن المسلسلات التي شارك فيها بغرض تقديم قيمة فنية أكثر عمقا من السائد (للثروة حسابات أخرى- رجل في زمن العولمة، مثلا) سوف تنجح جدا وتعيش، وهذا لم يحدث للأسف إلا في الأعمال التي كتبها فنان بارع مثل عكاشة أو قدمها السعدني بتلقائية مثل دوره الظريف في شخصية ياسين في مسلسل (بين القصرين) و(قصر الشوق)، أو دوره في مسلسل (الأصدقاء) –عالم الذرة عزيز محفوظ- مع محمد وفيق وفاروق الفيشاوي، تأليف كرم جابر وإخراج إسماعيل عبد الحافظ..

صلاح السعدني نموذج للفنان المثقف، حيث لا تفيد الثقافة كثيرا بقدر ما يفيد الذكاء في أوساط فنية كالتي اعتدنا عليها.

***

صلاح السعدني.. رحلة بدأت بالرحيل، بقلم د. هاني حجاج

الناقد السينمائي المصري د. هاني حجاج

صلاح السعدني

خاص قناص – سينما مسرح الدراما

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى