مساراتملفات

رواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة».. غرنيكا العذاب السوري | محمود هدايت

لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة: الموتُ هو اكتمال الذكريات وليس غياباً أبدياً

رواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة».. غرنيكا العذاب السوري

في رواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» نجح الروائي السوري خالد خليفة  في رسم غرنيكا الجحيم السوري، في تبادل أدوار مع فرشاة بيكاسو سردياً، فبدت الكتابة وثيقة عار مُتأصِّل، قَبِلنا أن يُقيم في أرواحنا دونما تقزز وحياء، وظهر ذلك في إجابة (جان) واحدة من شخصيات الرواية، عن سؤال في سبب عودته إلى دمشق، جاء فيه: «جئت لأخذ حصتي من العار». فإن فتشنا عن هزَّة الكتابة في داخل الرواية، وبعد غرز النظر عميقاً في إجابة (جان) والالتفاف حولها بتفطن ومناورة، سنكتشف أنَّ خالد خليفة هو الظل السردي للشخصية (جان) وأنَّ إجابته هي السبب نفسه الذي دفع المؤلِّف إلى كتابة هذا النص؛ لكونه يرى في الكتابة عودةً ذاكراتية للجذر الحسيّ (المكان) إذ السرد بالنسبة لخليفة هو نوستالجيا صورية لدمشق المتخيلة والمحلوم بالعودة إليها دائماً، في محاولة منه للاحتفاء بعار دخول الإنسان نفسه في لعبة الانقراض التدريجي، ذلك العار المُحفَّز باستقبال شعور الإهانة والتعايش معه، ههنا لابد أن نتساءل: ما الفرق بين أن نشعر بالعار أو أنّ نغدو جزءاً منه؟ وبأيَّة طريقة نأخذ حصتنا من عار جُذامي غايته تشويه الكون، وتفريغه من الحس الحضاري؟ لاشك، أنَّ هذا يحدث عندما تنهار إمبراطورية الوجود: (الإنسان)، حينذاك يتحوَّل كل شيء إلى أنقاض، ومقالع خردة، و«متحف عاهات» نزوره برغبة التعرَّف على المتبقي من أجسادنا المتهرئة بخوف من مجهول غولي يسعى إلى ابتلاعنا جميعاً، واعدادنا عصيدة مباركة لعشاء أخير نجهل ضيوفه، فالضحية واحدة، والعار واحد مهما تعددت أشكاله، وتنوعت أساليبه، ففي النهاية نبقى مخلوقات مهووسة في لعب الغميضة مع العار، فأن تتحوَّل الحياة إلى بناية مهددة بالزوال يعني أنّنا ملزمون بقبول العيش تحت أنقاض العار، وفي هذا وحده يمكننا أن نأخذ حصتنا من العار. عار ترقب انهيار بناية الانتظار على رؤوس ساكنيها. فالحياة تحت نير العار هي نوع من العَلك المتواصل لزهرة القات التي في النهاية تجعلنا مُخدَّرين دونما شعور بفاعلية الحياة نفسها، نتقدم في اندفاع محموم لنجد أنفسنا نسابق العدم على الفوز بلقب الإقامة ما وراء الحياة، أي في طاحونة العار، وهذا ما رسم خطوطه خالد خليفة على طول نصه الروائي. الذي يمكن اعتباره بورتريهاً حكائياً لمدينة عاث بها الموت خراباً ما بعده خراب. علاوة على إفصاح الرواية عن خبرة عالية للمؤلف في تتبعه لخط الكارثة عبر ضفيرة سردية غاية في النسج الحسي، في رصد جواني لمصائر شعب، غرنيكا العذاب السوري.

الكتابة عند خالد خليفة هي كما الموت عمل شاق؛ لأنَّها تنطلق من جسد ولحم المحنة المُعاشة، تلك الخطاطة السرية للإنسان المتمثلة بالجسد، والتي هي «ذاكرة موشومة» بحسب عبد الكبير الخطيبي. ذاكرة الليل المنزوي في ركن الظلام الملتهم لكلمة الروح الأخيرة، لكن أيّ وشم سيتجرأ أن يُقيم في أجساد سلبت السياط زهو قامتها.

خالد خليفة روائي من طراز خاص، يكتب لتشريح فكرة الألم السوري، ويرى أن لا خلاص من المحنة إلا في التحديق المباشر في عيون الكابوس، في مدينة أوغل فيها الخراب، مدينة كانت تحمل من البراءة الإنسانية، والجمال البهيج ما يضاهي مدن الأحلام الكبرى، إنَّها دمشق الحلوة الحانية على الغرباء قبل الأبناء، هذه المدينة التي صارت بين ليلة وضحاها مأهولة بموت فَكَكَ (بلبل) طلاسمه في ردّه على سؤال شرطي المفرزة عن اسم صاحب هذه الجنازة في رواية الموت عمل شاق: «إن الجثث تملك اسماً واحداً تنسل من تاريخها وماضيها لتنتمي إلى عائلة واحدة هي عائلة الأموات، وأن لا هوية لميت سوى شهادة الوفاة». بمعنى أن لا ملامح لهذه المدينة سوى وجه طرزته نُدب الفَقد والمنافي.

في تتبع التجربة الروائية لخالد خليفة مروراً بــ «مديح الكراهية» و «الموت عمل شاق» وصولاً إلى «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» والتي أعتبرها هويته السردية، يتبيَّن لنا أنَّ هذا الروائي يقترب من الكتابة برغبة سلخ الجلد المثالي عن لحم العار. إذن، هو يكتب لكشف عورة العار داخل الذات، وتلك هي لحظة وقوف ذلك الوجه الجذامي أمام المرآة في مشهد شبيه بتعاقب الوجوه في مرايا العام الماضي في مارينباد لآلن رينيه.

بين «الكتابة الوشم» و«الكتابة السلخ» تتحرَّك روايات خالد خليفة، فكثيراً ما نجده منشغلاً بالاعتداء على سياسة المحو التي تتبعها الدكتاتوريات في تسليم الإنسان للموت غير المباشر بحقنه بأمصال الموت الحسي، ذلك في نسيان ما يمكن أن يمدَّه بالنَفَس الإنساني، تلك الوشوم الحسية، التي يسعى خليفة إلى الاحتفاظ بها، وتطريز الخيال بحضورها الرمزي. وبينما هو مستغرق في مجابهة سياسة النسيان المؤسَّسي بتجذير وشومه في جسده الذاكراتي المُتمثّل بالمدينة بما فيها من وجوه وأمكنة، يتبع خليفة آلية دفاعية أخرى، وهي الكتابة بالسلخ، وتقوم على كشط الجلد الصناعي عن لحم الحقيقة، لرؤية هيأة العار جيداً، وتوصيل أوكسجين الحياة لغرفه الحسية عبر تلك الوشوم، التي هي بالنسبة إليه معابر وجودية لدخول وخروج الهواء.

في كتابه «نسر على الطاولة المجاورة» ينفتح خالد خليفة على هموم الكتابة الروائية، فيرى بأنَّ الكتابة هي «ألمٌ سعيد»، بمعنى أنَّ رهانه السردي ارتكز على ضرورة تسديد الضربات المباشرة للألم في تصويره للمحنة بشفافية عالية دون الانشغال بالتجريب والتجديد السردي.

***

رواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة».. غرنيكا العذاب السوري؛ بقلم محمود هدايت

محمود هدايت؛ كاتب عراقي وباحث في فلسفة الجماليات

غرنيكا

خاص قنّاص – ملفات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى