الفصل السادس: الوداع
وجاء اليوم الأخير. امتلأ المنزل بصناديق الأمتعة التي نُقلت إلى الباب الأمامي استعداداً لحملها إلى أقرب محطة قطار. حتى المرج الجميل بجانب المنزل بدا فوضوياً قبيح المنظر بعد أن تبعثر فوقه القش الذي تطاير عبر الباب المفتوح والنوافذ. وتردد في الغرف صدى صوت غريب، واقتحمها عبر النوافذ التي نُزعت ستائرها ضوء قاسٍ، فبدت موحشة وقد فقدت ألفتها. وحدها غرفة السيدة هيل بقيت على حالها، حيث انشغلت هي وديكسِن بوضع الملابس في الحقائب، لتقاطع أحدهما الأخرى في كل مرة تقعان على كنز مفقود مما تبقى من أشياء تخص مارغريت وفريدريك عندما كانا طفلين. لم يحرزا تقدماً كبيراً في العمل. في الطابق السفلي، وقفت مارغريت هادئةً مستعدة لتوجيه الرجال الذين جاؤوا لمساعدة الطاهية وشارلوت اللتين راحتا تبكيان بين الحين والآخر، وتتعجبان كيف يمكن للسيدة الشابة أن تتحمل اليوم الأخير على هذا النحو. واستقرت الاثنتان فيما بينهما على أن مارغريت لم تعد تهتم على الأرجح بهِلْستِن بعد أن أمضت وقتاً طويلاً في لندن. كانت تقف هناك شاحبة هادئة تتابع بعينيها الواسعتين كل شيء مهما كان صغيراً حتى آخر لحظة. لم تستطع شارلوت والطاهية أن تدركا أن قلبها كان يئن ألماً طوال الوقت تحت عبء ثقيل لا يمكن للتنهدات أن تزحزحه أو تنفِّس عنه، وأن تركيزها الذهني كان سبيلها الوحيد لتمنع نفسها من البكاء ألماً. إضافة إلى ذلك، من سيتكفل بالعمل إن انهارت واستسلمت. فوالدها كان في الكنيسة مع أحد الموظفين يفحصان الأوراق والسجلات والكتب، كما كان عليه حزم كتبه التي لا يمكن لأحد سواه أن يرتبها كما يريد. وهل كانت مارغريت من النوع الذي ينهار ويستسلم أمام رجال غرباء، أو حتى أصدقاء المنزل مثل شارلوت والطاهية. وأخيراً غادر العمال الأربعة إلى المطبخ لشرب الشاي، وابتعدت مارغريت بصعوبة وبطء من مكانها في الصالة حيث كانت تقف منذ فترة طويلة إلى غرفة الضيوف بصداها الخاوي مع أول شفق مساء يوم من تشرين الثاني/ نوفمبر. كان هناك غلالة من ضباب ناعم يغطي الأشياء من دون أن يحجبها تماماً ليعطيها طيفاً بنفسجياً لأن الشمس لمَّا تكن قد غربت بأكملها، في حين وقف طائر أبو الحناء يصدح شادياً، وربما كان – كما تخيلت مارغريت – الطائر نفسه الذي طالما تحدث عنه والدها على أنه عصفوره الشتوي الأليف الذي صنع له بيديه بيتاً بجانب نافذة مكتبه. كانت الأوراق تشع جمالاً أكثر من أي وقت مضى، لكنها ستنحني أرضاً مع أول لمسة للصقيع، مع أن واحدة أو اثنتين منها بقيتا مسترخيتيْن بلونهما الذهبي والكهرماني تحت أشعة الشمس المائلة.
تمشت مارغريت على طول سور شجرة الأجاص التي لم تقربها منذ أن كانت إلى جانب هنري لينوكس. هنا عند مسكب شتلات الزعتر، بدأ يتكلم عما لا يجب ألا تفكر فيه الآن. يومها لمحت عيناها تلك الوردة التي تأخرت في تفتحها وهي تحاول أن ترد عليه، وقد راودتها فكرة الجمال الزاهي لأوراق الجزر الخفيفة وسط جملته الأخيرة. لم يمض على ذلك سوى أسبوعين! لقد تغير كل شيء! أين هو الآن؟ في لندن يداوم على روتينه اليومي؛ يتعشى مع عجائز شارع هارلي أو مع أصدقائه الأكثر مرحاً؟ حتى في هذه اللحظة وبينما تمشي حزينة عبر الحديقة الكئيبة الرطبة عند الغسق وكل شيء حولها يتداعى وينهار ويستحيل إلى أنقاض، قد يكون هنري يزيح كتب القانون جانباً بعد يوم عمل مرضٍ، ويفرِّج عن نفسه، كما قال لها، بالتجوال في حدائق قصر العدل يستمع إلى الصخب الهادر المشوش من آلاف الرجال المشغولين، وقد اقترب الليل لكنه لم يظهر بعد، ويلمح في انعطافاته السريعة أضواء المدينة قادمة من أعماق النهر. لطالما أخبر مارغريت عن هذه الجولات المتعجلة التي يسرقها في الفترات الفاصلة بين الدراسة وموعد العشاء، وتحدث عنها وهو في أفضل حالاته. تملكت هذه الأحاديث مخيلتها. أما هنا والآن، كان الصمت يلف المكان. أبو الحناء طار بعيداً في سكون الليل الفسيح الذي كان يتناقل بين الحين والآخر صوت باب كوخٍ يفتح ويُغلق من مسافة بعيدة ليسمح لكادح هدّه التعب أن يدلف إلى بيته. تتناهى إلى مسامع مارغريت صوت خشخشة الأوراق اليابسة الساقطة على أرض الغابة ـ خلف الحديقة – تنسحق وكأنها على مقربة منها. عرفت مارغريت أنها أصوات أقدام اللصوص. كم مرة سمعت هذه الأصوات في الخريف الفائت وهي تجلس في غرفة نومها والشموع مُطفأة تتأمل الجمال القدسي للسماوات والأرض. وكم من مرة رأت القفزات الرشيقة الخرساء للصوص فوق سياج الحديقة وحركتهم السريعة عبر المرج الندي تحت ضوء القمر وهم يختفون في الظلال حالكة السواد. سيطرت حرية حياتهم البرية المغامِرة على خيالها، وشعرت بالرغبة بأن تتمنى لهم السلامة. لم تكن مارغريت تخشى هؤلاء اللصوص، لكن الخوف داهمها هذه الليلة من دون أن تعرف سبباً لذلك. سمعت شارلوت تغلق مصاريع النوافذ وتقفل الأبواب استعداداً لحلول الظلام، إذ لم يخطر على بالها أن أحداً خرج إلى الحديقة. سمعت صوت سقوط غصن ربما كسره أحدهم بالقوة، أو أصابه نخرٌ، على الأرض في الجانب القريب من الغابة. ركضت مارغريت برشاقة وخفة كاميلا[1] إلى النافذة وراحت تطرقها طرقاً عنيفاً أفزع شارلوت.
“دعيني أدخل! دعيني أدخل، هذا أنا، شارلوت!”. لم يتوقف قلبها عن الخفقان حتى أصبحت آمنة في غرفة الضيوف وقد أُغلِقت نافذتها، وشعرت بجدرانها المألوفة تحيط بها، وتحتضنها. جلست على أحد صناديق الأمتعة. كئيبة باردة كانت الغرفة العارية حتى من النار والضوء، تتوهج فيها شمعة شارلوت التي نظرت مدهوشة إلى مارغريت التي بدورها أحست بنظرتها لكنها لم ترها، ثم نهضت من جلستها.
“كنت أخشى أن تحبسيني خارج المنزل يا شارلوت”، قالت لها وهي ترسم نصف ابتسامة على شفتيها، “عندها ما كنت لتسمعيني أبداً وأنت في المطبخ، وقد أُغلقت الأبواب المؤدية إلى الزقاق وباحة الكنيسة منذ وقت طويل”.
“عذراً يا آنسة، كان يجب عليّ أن أتأكد من غيابك. أراد الرجال أن تخبريهم كيف سيتابعون العمل. كما أنني وضعت الشاي في مكتب السيد هيل لأنها الغرفة الوحيدة المريحة والمناسبة للتحدث معهم”.
“شكراً يا شارلوت. أنت فتاة لطيفة. سأشعر بالأسف لفراقك. حاولي أن تكتبي لي إن كان باستطاعتي أن أقدم لك أيَّ مساعدة أو نصيحة. سأكون دائماً سعيدة بأن تصلني رسالة من هِلْستِن، كما تعلمين. سأرسل لك عنواني عندما أحصل عليه”.
كان المكتب معداً لجلسة الشاي، والنار تتوهج في الموقد، والشموع التي لم تُضَأ بعد على الطاولة. جلست مارغريت على البساط لتدفّأ نفسها بعد أن علقت رطوبة المساء في ثوبها، وجعلها الإرهاق تشعر بالبرودة. شبكت يديها حول ركبتيها لتحافظ على توازنها، وأمالت رأسها قليلاً نحو صدرها في مظهر يشي بحالة من اليأس، أياً كانت الأفكار التي كانت تراودها في تلك اللحظة. لكنها عندما سمعت وقع خطوات والدها على الممر في الخارج، أسرعت بفرد شعرها الأسود إلى الخلف، ومسحت بضع دموعٍ لم تدرِ كيف انسابت من عينيها، وذهبت لتفتح الباب له. بدا محبطاً ويائساً أكثر منها حتى أنها عجزت عن دفعه للحديث معها، رغم محاولاتها التحدث معه في موضوعات تثير اهتمامه على حساب جهد كانت تبذله كل مرة وتعتقد أنه سيكون الأخير بالنسبة إليها.
“هل مشيت لمسافات طويلة اليوم؟” سألته مارغريت بعد أن تنبهت إلى رفضه تناول الطعام.
“إلى فوردهام بيتشيز. ذهبت لزيارة الأرملة مولتبي، حزنت كثيراً لأنها لم تستطع أن تودعك. وقالت لي إن الصغيرة سوزان لم تتوقف عن مراقبة الطريق طوال الأيام الماضية. مارغريت ما الأمر؟” مجرد التفكير في صورة سوزان تراقب الطريق بانتظارها الخائب؛ ليس بسبب عدم رغبتها بالذهاب لرؤيتها، وإنما عدم قدرتها على مغادرة المنزل، كانت القطرة التي أفاضت الكأس، فراحت مارغريت تنتحب حتى كاد قلبها ينفطر. شعر السيد هيل بالضيق والحيرة، فنهض من كرسيه وشرع يجوب الغرفة جيئة وذهاباً. حاولت مارغريت أن تتمالك نفسها، لكن لم تكن قادرة على الكلام حتى استعادت هدوءها. سمعته يحدث نفسه.
“لا أستطيع تحمُّل كل هذا، أن أرى معاناة الآخرين. أعتقد إنه بمقدوري أن أتحمَّل معاناتي صابراً. لا مجال للتراجع الآن”.
“كلا يا أبي”، قالت مارغريت وهي تنظر إليه مباشرة وتتحدث بثبات ونبرة منخفضة. “من الخطأ الظن أنك لست على صواب. ولكان الأمر أشد سوءاً لو عرفناك من قبل منافقاً”، وأخفضت صوتها عندما نطقت العبارة الأخيرة، وكأن ربط فكرة النفاق مع والدها للحظة واحدة يعبر عن عدم الاحترام.
“إلى جانب ذلك”، قالت مارغريت “أنا متعبة قليلاً اليوم، فلا تظن أني أعاني مما فعلت، يا أبي العزيز. لا يمكننا أن نتحدث في هذا الأمر الليلة” قالت لتجد الدموع والأنات تخرج رغماً عنها. “من الأفضل لي أن آخذ الشاي لأمي. تناولت فنجاناً من قبل عندما كنت مشغولة في المنزل. أحسب أنها ستُسَّرُ بفنجانٍ آخر الآن”.
في صباح اليوم التالي، انتزعتهم الرحلة إلى محطة القطار من هِلْستِن الجميلة العزيزة. رحلوا وهم يشاهدون آخر مشهد لمنزل القس الطويل، نصف مغطى بنبات الكركديه الصيني وشوك النار، حيث بدا أكثر ألفة تحت شمس الصباح التي كانت تنعكس على نوافذه. وقبل أن يستقروا في العربة التي أُرسلت من ساوثمبتِن لنقلهم إلى المحطة، كانوا قد غادروا المكان من دون رجعة. شعرت مارغريت بغصّة في القلب جعلتها تسعى جاهدة لاختلاس نظرة أخيرة لبرج الكنيسة عند المنعطف حيث يمكن أن تراه منتصباً فوق تموّج أشجار الغابة. لكن أباها لم ينس هذا الخاطر أيضاً، فتراجعت أمام أحقيته بالجلوس بجانب النافذة. فأسندت رأسها على المقعد، وأغلقت عينيها التي انهمرت منها الدموع وتعلقت لامعةً للحظة على أهدابها قبل أن تتدحرج ببطءٍ على خديها، وتتساقط من دون وعي منها على فستانها.
كان لابدَّ من التوقف في لندن طوال الليل في فندق هادئ. بكت السيدة هيل طوال النهار أثناء الرحلة، وأظهرت ديكسِن تعاطفها بشيء من الفظاظة، ومحاولاتها العصبية المتواصلة لمنع تنورتها من المساس بالسيد هيل شارد الذهن الذي كانت ديكسِن تعدُّه سبب معاناتهم.
ساروا في الشوارع المعروفة التي طالما زاروها، ومروا بقرب المحال التجارية التي جالت عليها مارغريت على مضض برفقة خالتها شو بينما كانت تلك السيدة تصدر قراراً لا ينتهي، وتلتقي بعض المعارف في الشارع على الرغم من أن الصباح كان بالنسبة إليهم طويلاً من دون حساب، وشعروا كما لو أنه كان من المفترض أن يكون الصباح قد أصبح أقصر مع هجوع الليل. كانت واحدةً من أكثر فترات العصر ازدحاماً في لندن في تشرين الثاني/نوفمبر عندما وصلوا إلى هناك. كان قد مضى وقت طويل بالنسبة إلى السيدة هيل منذ آخر زيارة لها إلى لندن. نهضت السيدة هيل، مثل طفل، لتنظر إلى الشوارع التي تغيرت، وتتفرج وتسأل متعجبة عن بعض المحال التجارية والعربات.
“هاهو متجر هاريسِن الذي اشتريت منه أشياء كثيرة لجهاز العرس، كم تغيّر! كان لديهم واجهات زجاجية أكبر من متجر كرووفورد في ساوثمبتِن. وهناك أيضاً، لا، لا ليس هو! بلى يا مارغريت إنه هو، لقد مررنا لتوِّنا بالسيد هنري لينوكس، إلى أين هو ذاهب يا ترى وسط كل هذه المحال؟”.
نظرت مارغريت إلى الأمام ثم تراجعت، كانوا على بعد مئة ياردة عنه هذه المرة لكنه بدا لها وكأنه واحد من بقايا هِلْستِن التي ارتبط بها ذات صباح مشمس ويوم حافل بالأحداث. كانت ترغب في رؤيته من دون أن يراها، أو أن تسنح الفرصة لتبادل الحديث. انقضى ذلك المساء مملاً، وثقيلاً، وطويلاً في غرفة في فندق. ذهب السيد هيل إلى بائع الكتب، ولزيارة صديق أو اثنين. بدا لهم كل شخص رأوه سواء في الفندق أو في الشوارع مسرعاً، إما للقاء شخص ينتظرونه أو أحد ما ينتظرهم. هم وحدهم بدوا غرباء منبوذين بلا أصدقاء، على الرغم من أنه وعلى بعد ميل واحد، كانت مارغريت تعرف بيتاً تلو الآخر، كان أحدهم مستعداً للترحيب بمارغريت، وآخر بوالدتها كُرمى للخالة شو، لو أرادوا المجيء بحثاً عن المرح، أو راحة البال. لو جاؤوا بحثاً عن تعاطف ومواساة في ورطة معقدة مثل التي كانوا فيها، لشعروا وكأنهم ظلٌ في هذه البيوت التي يسكنها معارف وليس أصدقاء. الحياة في لندن دوامة متخمة ليست قادرة على قبول ولو ساعة واحدة من ذلك الشعور بالصمت العميق الذي أظهره أصدقاء أيوب عندما ‘جلسوا معه على الأرض سبعة أيامٍ وسبع ليالٍ من دون أن يتكلم أحدهم بكلمة واحدة معه بعد أن وجدوا أن حزنه كان كبيراً’.
[1]كاميلا هي ابنة الملك ميتابوس وزوجته كاسميلا في ملحمة الإنيادة لفيرجيل. عندما أطيح الملك عن عرشه، طارده الجنود في البراري وهو يحمل كاميلا الرضيعة بين ذراعيه. وفجأة سد النهر طريق الهرب، وخشي على حياة ابنته فربطها برمحه، ونذرها أن تكون خادمة لآلهة الصيد ديانا، ومحاربَتها العذراء، ثم رمى الرمح إلى الضفة الأخرى وعبر النهر سباحةً كي يستعيدها. ما إن بدأت كاميلا أولى خطواتها الثابتة على الأرض حتى تسلحت برمح وقوس وجعبة من السهام تتدلى من على كتفها كصيادة ماهرة تتميز بالرشاقة والسرعة وخفة الحركة. (م)
- الرواية صادرة حديثاً عن دار فواصل (2022)