ثمة شخص يراقبنا من أعلى الكثبان الرملية. إنها طفلة بدينة تتجسس علينا منذ فترة على ما يبدو، تلتصق على السماء الزرقاء، تضع يداً فوق يدٍ بحزم على بطنها، شعرها البني الفاتح الطويل الذي يصل لمنتصف ظهرها يتطاير مع الريح. نرفع رؤوسنا ناحيتها، ثلاثتنا، بصمت. نتأمل هيئتها. يحرك لودوفيك يده بطريقة تشبه تلك التي نطرد بها القطط.
- بيس.. بيس. لكنها لا تتحرك من مكانها. تنظر لنا.
تمد بطنها للأمام وتأرجح ذراعيها، وتعقد حواجبها. تنزل من الكثبان الرملية حتى تصلنا. عندما تقترب نقدر أن عمرها اثنا عشرة سنةً أو ربما ثلاثة عشرة. يبدأ الصيني في المزاح. أحسه يضحك خلف ظهري. فأضحك أنا أيضاً مثل فأرة. يوقفنا لودوفيك بنظرة واحدة. ترمقه الفتاة البدينة، طويلة القامة مثله بازدراء عبر نظرتها الواسعة. يرفع الكلب أنفه ويشم الريح.
- هل السيارة ماركة داسيا المتوقفة هناك هي ملكك؟
تشير إلى السيارة مشرعة الأبواب وصندوقها الخلفي مفتوح.
قولي لي إذاً، هل تميزين أنواع السيارات؟
يجيب لودوفيك بلطف، وابتسامة مشرقة لا أعرف أنه يملك مثلها حتى ذلك الحين.
- هل السيارة ملكك؟ تصر الفتاة الصغيرة.
- نعم، إنها لي.
- أنت لست إسبانيًّا، أنت تتحدث لفرنسية.
- فلنفترض أن سيارتي تحمل لوحة إسبانية وأنا أعيش هناك، هذا كل شيء.
- هل ستعود إلى هناك أم إنك ذاهب إلى مكان آخر؟
- لا أعلم.
- إذا كنت لا تعلم، ستأخذني إذاً إلى بيتنا.
- أين يقع بيتكم؟
- من هنا.
- – تشير بإيماءة واسعة إلى الطريق المتجه ناحية الغرب.
- هل هو بعيد؟
- بعيد قليلاً.
- وماذا تسمى المنطقة التي بها بيتكم؟
- كابيندو.
- لا أعرفها. هل هي مدينة؟
- لا. قرية. تقع على حافة الطريق الوطني. الوصول إليها سهل عبر الطريق السريع، أن تسير مباشرة للأمام.
- لا بأس.
ننهي رص أغراضنا داخل صندوق السيارة، نضع أيضاً حقيبة الفتاة القماشية الخفيفة داخل الصندوق. يطلب منا الزعيم أن ننفض أقدامنا جيداً؛ فهو يريد المحافظة على سيارته نظيفةً، هو لا يحب الرمال التي تلوث الفرش وتخدش المقاعد. يجلس لودوفيك في الخلف وتجلس الفتاة بجانبه، فيرسل نحوها ابتسامته الجديدة.
نغادر شاطئ البحر، نعبر القرية مرة أخرى. لا تزال المتاجر مغلقة، والمقاعد خالية، والساحة مهجورة. المكان ميت وأحس أنه خطئي. نشعر بالحر. خسارة أننا غادرنا ماء البحر، كنت أود السباحة. أراقب عبر مرآة حاجب الشمس الفتاة بينما تنظر لسقف السيارة الذي مزقه رجلٌ مجنون من الملهى بسكين. حاجباها عبارة عن خطين من علامات سوداء على وجهها الطفولي. ترمي بيديها ليستريحا على فخذيها السمينين. شعرها يتبعثر مثل كتابة خرقاء. علينا أن نفتح النوافذ بسبب الحرارة ونتحدث مع بعضنا البعض، فنصرخ بسبب الريح.
- أخبريني، ما اسمك؟
- مارييل.
- فقط مارييل؟
- نعم.
- وما اسم والديك؟
- أنت، ما اسمك؟
- لودوفيك.
أنا والصيني لا نصدق أن هذه الفتاة الصغيرة تفرض نفسها على الزعيم. أستدير ناحيتهما لأكمل التعارف، محاولةً أن أمرر صوتي فوق ضجيج الريح. تسأل مارييل: لماذا ننادي الصيني بهذا اللقب رغم أنه أسود؟ إنها تخيب ظني قليلاً. إنه سؤال يطرحه الجميع. الصيني في واقع الأمر هجين، أمه كونغولية فرنسية وأبوه صيني، ولكن بما أن عينيه مائلتان جداً، فمن السهل مناداته بالصيني.
- أها.
تجيب دون أن تولي الأمر أهمية. تغرس عيناها في خدوش سقف السيارة، إنه أمر مضحك.
كانت ترغب بالاستمرار في الحديث لكن كلماتها ضاعت وسط هبوب الريح وطنين المحرك، ولا أحد يطلب منها أن تعيد كلامها. نحن ثلاثتنا غير معتادين على الحديث كثيراً. بعد فترة، تصمت مارييل أيضاً. تمر مناظر طبيعية صغيرة من أمامنا. الطريق الرمادي الداكن يتبخر. الحرارة صفراء وجافة. وتمتد على الجانبين أشجار الكرم ومربعات من العشب الجاف.
رأت مارييل على حافة الطريق ملصقاً كبيراً عليه صورة نمر، أعلنت في الحال عن رغبتها بزيارة حديقة الحيوان، لم أصدق أذنيّ، ليقول لودوفيك: حسناً، سنذهب إليها، أيها الصيني استدر نصف دورة، سنذهب إلى سيجان.
يظن الزعيم أنها فكرة رائعة. يصفق بيديه ويطلق صرخات. تبتهج الطفلة. يضحكان كلاهما على المقعد الخلفي للسيارة مثل صديقين يمضيان العطلة معاً.
نسلك الطريق الوطني مرة أخرى في الاتجاه المعاكس. بعد بضعة كيلو مترات يستدير الصيني يساراً على طريق ترابي أحمر. أرى على المرآة العاكسة لودوفيك يبتسم للطفلة الصغيرة. تصيح الطفلة مع هبوب الريح:
- والكلب، ما اسمه؟
يقول الصيني بينما يمسك بمقود السيارة:
- فقط الكلب.
- ألم تجدوا اسماً آخر؟
تعقد مارييل حاجبيها المجعدين.
- لا، لم نجد أفضل من ذلك.
يقول الصيني مازحاً.
يقول الزعيم بلطف مزيف:
- وأنتِ، ألا ترغبين بأني تجدي له اسماً؟ مهلاً، بيغونيا تستطيع ذلك، هيا؟
لم نعد نملك رغبةً بالضحك. نرى رغم ذلك أن الأمر متطرف بعض الشيء. أولاً لا نعرف الفتاة ولا نرغب بأن نتعرض لتعنيف رجال الشرطة بسببها. كما أن الزيارة داخل حديقة الحيوانات اللعينة لا تتم في البدء إلا داخل السيارة. وصلنا في الوقت المناسب، فستغلق الحديقة بعد ساعة واحدة. تدور السيارة ببطء بين الدببة، الدببة الكبيرة البنية الفاتحة والسوداء وهي تتمدد بالقرب من الأشجار الميتة. تلمع أسنان لودوفيك جميعها. تسرح مارييل بينما أنفها يلتصق بالنافذة، تبتسم ولا تتوقف عن التململ في مقعدها. يفرك الزعيم يديه ببهجة.
توجه لافتات الإعلانات الزوار لإبقاء نوافذ سيارتهم مغلقة. لا يوجد تكييف على السيارات التي من طراز سيارتنا، إنها مثل موقد من طراز قديم. كان يمكن للكتالوني أن يمتلك سيارة جديدة. بعد أن رأينا الدببة، يمكننا الآن رؤية أفراس النهر، ثم الحمير الوحشية. عندما تحاول الفتاة أن تخفض زجاج النافذة لتقول صباح الخير لحمار وحشي ذي لحية، فإن لودوفيك لا ينطق بكلمة؛ فيطلب منها الصيني ألا تفعل ذلك.
ترمقه بعينيها القاسيتين الزرقاوين أو الخضراوين أو الخضراوين المزرقتين لكنهما ليستا رماديتن، ثم تغلق النافذة دون أن تضيف شيئاً، وباستعلاء تدير ذراع إغلاق الزجاج فالسيارة ماركة (داسيا 1410) ليس بها نظام كهربائي لإغلاق الزجاج. تلتصق أنف حمار الوحش على زجاج النافذة؛ فيسيل لعابه تاركاً أثراً يشبه الحرف V.
نصعد بالسيارة إلى قمة تل عشبي صغير؛ لنتمكن من رؤية الأسود. يجب علينا عدم التوقف لكيلا تهاجمنا الحيوانات. تتعطل سيارة شخص ما في مقدمة طابور السيارات، ويفشل في إعادة تشغيلها. نسمع انزلاق الإطارات على السافانا غير الحقيقية المنحدرة، يحشرج المحرك ثم يتوقف. فيتوقف عدد من العربات خلفنا. نحن نقف قبل السيارات الأخيرة. تقف بعدنا سيارة عائلة تشير لوحتها أنها مسجلة في طنجة، تمور العائلة داخل السيارة، ثم يشيرون إلى لبؤة تقترب غير مبالية. تشير لنا العائلة بأجمعها أن نتقدم، لكن على الطرف الآخر لا تزال السيارة المتعطلة غير قادرة على تشغيل المحرك. لا شيء نفعله، لا يمكننا تخطي السيارات التي أمامنا، الأسود تستلقي على العشب ناحية المنحدر فلا يمكننا التحرك.
يصيح الصيني: اللبؤة رملية اللون تقترب، اللعنة!
تتقدم بينما تمد رقبتها للأمام، على قائميها السميكتين. تمشي بتمهل. يزمجر الكلب بينما يختبيء تحت صندوق القفازات. تلقي اللبؤة نظرة على سيارة العائلة الطنجاوية ثم تقفز جانباً حتى تصل لمؤخرة سيارتنا الداسيا. وإذ بي أفاجأ وأرتعب، أغمض عينيّ، تتأرجح السيارة مثل زورق. نتشبث بمقابض الأبواب، هذا أقصى ما يمكننا فعله، وتصرخ أفواهنا. يمسك الصيني بمقود القيادة متوتراً. رأيت اللبؤة على المرآة العاكسة تضرب بقائم واحد الصدام الخلفي لسيارتنا، فتطوي القضيب المعدني إلى قسمين، قبل أن تقفز بعيداً داخل العشب الطويل ثم تختفي. يخفق صدغاي بشدة.
يضحك طفلا العائلة الطنجاوية داخل السيارة التي تقف خلفنا، يقفان على المقعد، يمسكان ببعضهما البعض. لا نسمع صوتهما، لكن الفتاة تضحك أكثر. يضحك لودوفيك كذلك، فهذا شيء جديد. هناك على رأس الطابور تتحرك السيارة المعطلة أخيراً. يصيح الصيني: اللعنة! ثم يدير المفتاح. يبدأ الطابور بالتحرك. تراقبنا الأسود بلامبالاة بينما نمُر. نخرج من حديقة الحيوان دون أن نكمل الزيارة، حتى الفتاة لا تصر على إكمالها. يوقف الصيني السيارة على المسار الأحمر عند المخرج. يخرج من السيارة لتفحص الخسائر، ينظر إلى جانبي السيارة، ثم يصعد مرة أخرى.
- علينا الحصول على صدام آخر في محطة الوقود التالية.
- نعم بالضبط.
تقول مارييل.
- ماذا بالضبط؟
نسألها ثلاثتنا معاً.
- هذا هو بالضبط المكان الذي سنذهب إليه: محطة وقود. محطة الوقود التي يمتلكها والديّ. بالإضافة إلى ذلك فأبي ميكانيكي، ويمكنه أن يعطيكم صدامًا آخر بلا مشكلة.
- غراتوس مجاناً؟
يتساءل الصيني.
- سيكون والدك سعيداً جداً بأن تصحبينا إلى المنزل، وسيعطينا الصدام مسروراً نظير لا شيء؟!
يتساءل الزعيم.
ضحك ثلاثتنا لدرجة أننا لم نسمع إجابة مارييل، لكننا لم نعتد على الأطفال. نعثر على مطعم لسائقي الشاحنات ليس بعيداً عن حديقة الحيوانات، يبعد فقط بضع كيلو مترات. كان لودوفيك جائعاً. نأكل طعاماً مليئًا بالدهون ونشرب إبريقين أو ثلاثة من الخمر الوردي الطازج. تلتهم الصغيرة شريحة لحم وبطاطس مقلية، وسلطة خضراء مبللة بزيت الزيتون، تبدو كأنها لم تأكل منذ ثلاثة أيام. اختارت للتحلية آيس كريم الشوكولاتة بالفستق، وكتلتين ضخمتين من الكريمة المخفوقة. تهديها صاحبة المطعم التي لها حجم شاحنة وأثداء من المطاط مظلةً صينية تقليدية وردية اللون، وتحييني كما لو كنت أم الفتاة الصغيرة.
- يا لها من دمية جميلة! تملكون آنسة جميلة. إذاً هل نمضي العطلة برفقة بابا وماما والعم؟
حدجتها ماربيل بنظرة جافة بينما تدس الملعقة الكبيرة في قالب الحلوى. تستدير صاحبة المطعم دون أن تضيف شيئاً أو تنتظر الإجابة. ابتسمتُ أنا أيضاً، حتى الصيني أبدى تأثراً. يجب أن نقول إنه حتى مع غروب الشمس على المفارش الورقية للمائدة في مطعم على حافة الطريق، ومع رائحة غبار الطريق الكريهة والمرور غير المنقطع للسيارات، فإننا نشعر بالجمال والقوة وبالاجتهاد في مهمتنا، يجب إعادة هذه الطفلة إلى منزلها.
* الرواية صادرة حديثاً عن منشورات ويلوز هاوس.
آن بوريل
كاتبة فرنسية من مواليد العام 1970م، درست الآداب في جامعة مونبلييه، عملت مدرسة للغات في إنجلترا وبعد عودتها إلى فرنسا تفرغت للكتابة الأدبية، وهي تكتب الرواية والشعر والنصوص المسرحية، صدر لها من الروايات: تهريب -2002م، رواية العيد- 2008م، جران مدامز- 2015م، اختراع الثلج- 2016م، المدعو الأخير – 2018م.