د. يوسف المعمري يُفكك فلسفة الحزن وإيقاعها الشعري في تجربة سماء عيسى
مثّل الشاعر العُماني عيسى بن حمد الطائي المعروف باسم سماء عيسى[1]، حالة إبداعية رائدة واستثنائيّة رفقة شاعرين عُمانيين هما الشاعر سيف الرحبي والشاعر زاهر الغافري في الشعر العُماني الحديث وتحديدا في جنسٍ شعريِّ محدد كما اصطُلح وشاع عنه بقصيدة النثر. ومع ارتفاع حدّة النقد المواجهة ضدّ هذا النوع من الشعر المنفلت أو المتحرر من أهم ما يميّز الشعر العربي وهي الموسيقا أو الأوزان والبحور الشعريّة وقوافيها، كما يقول قدامة بن جعفر عن حدّ الشعر بأنه «موزون مقفى»[2].
خرجَ سماء عيسى للجمهور بتجربته الشعريّة الرائدة، ولم تنطفئ تلك التجربة، وهي تجربة شعرية صادقة ذات رؤى واضحة الطريق، عرفَت طريقها ولم تتوقف يوما عن مواصلة المسير، وما شفع لها توالي النشر والتطور الفني الذي صاحب تلك التجربة، بنشره حتى الآن 14 مجموعة شعريّة ، وهي: ماءٌ لجسد الخرافة، 1985م/نذير بفجيعة ما ، 1987م/ مناحةٌ على أرواح عابدات الفرفارة ، 1990م/ منفى سلالات الليل، 1996م/دمُ العاشق، 1999م/درب التَّبانة، 2001م/غيوم، 2006م/ولقد نظرتُكَ هالةً من نور ، 2007م/أغنية حُب إلى ليلى فخرو، 2013م/الجبل البعيد،2013م/ الأشجار لا تُفارق مواطنها الأولى ، 2016م/ استيقظي أيتها الحديقة ، 2018م/ غرباء كما جئنا، 2019/ برقٌ أزرقٌ في سماءٍ بعيدة، 2022.[3].
أبدأُ حديثي في موضوع فلسفة الحزن وإيقاعه الشعري عند الشاعر العربي سماء عيسى بهذا السؤال، أين الشعر في قصيدة النثر؟ وقبل الإجابة لا بد من الإشارة على أن قصيدة النثر مثلت حتى يومنا هذا قضية من قضايا الشعر العربي الشائكة أو إشكالية، ومن إشكاليته فيما يتعلق باسمها أو فيما يتعلق بشعريتها وحدودها من النثر، وهذا ليس هدفي من الكتابة الآن، ولكن إجابتي ستكون وفق ما نجده من شعرية محددة لهذا النوع المميز الذي خلق لجنسه معايير أو خصائص فنيّة تجعله شعرا لا نثرًا أو تجعله قصيدة نثرٍ لا قصيدة ذات شطرين (عمودية) أو قصيدة تفعيلة. أين الشعر أو أين الشعرية في نصوص سماء عيسى تحديدا ؟! اللغة الشعرية بما فيها من الكثافة والغموض والرمز والتلاعب اللغوي، والثيمات الشعرية ذات الدلالات المكتنزة بالمعاني، والإيقاعات المتنوعة والمتموّجة، هي التي تتحق من خلالها الشعرية في قصيدة النثر.
بعد قراءتك لشعر سماء عيسى ستدرك أن فلسفة الحزن والموت والوجود قد خلقت رؤية واضحة في منجزه الشعري -وأرى – بأنّ تلك العلامات أو الثيمات أو تلك الفلسفة والرؤية في الحياة، قد شكّلت شعرية بتعاضدها مع العناصر الشعرية الأخرى، هنا سأركز الحديث عن علامات الحزن وإيقاعات الشعر.
تقوم قصيدة النثر على إيقاعات ومتواليات صوتية لا على بحورٍ شعرية، هذه الإيقاعات تتبياين بين قصيدة وأخرى ، ولننظر مثلا إلى هذا المقطع الشعري من مجموعة (برقٌ أزرق في سماءٍ بعيدة 2022)، يقول الشاعر:
فقط
تلك المرأة
في الشرفة المظلمة
جديرة بالهجرِ
جديرة بالعشقِ
فقط
تلك المرأة
تركتْ دمعَ رحيلِها
في فناء البيت.
أهدتكَ خصلةً من شعرِها الذهبي
حفنة تُرابٍ
من وطنِها المفقود
بكتْ
ثم رحَلَتْ [4]
انظر كيف تتشكل الإيقاعات بين الكلمات والجمل في المقطع السابق، بالتكرار والتقابل والسجع وبألفاظ الحزن والأسى، تتشكل عبر جملة: (فقط تلك المرأة) الواردة في بداية الجزء الأول والجزء الثاني من المقطع السابق، ثم انظر كيف بدأ بعد هذه الجملة بقوله: (في الشرفة المظلمة)، ليجيب عن تلك المرأة ويقابلها بجملة: (تركت دمعَ رحيلِها) ، وفي الجملتين نلمس تلك الضبابية والحزن (المظلمة/ البكاء الرحيل).
ويكرر الشاعر لفظة (جديرة) مرتين لتعطي إيقاعا بين السطرين (جديرة بالهجر/ جديرة بالعشق) ثم نلحظ هذا التناقض بين العشق والهجر وهو أيضا يوحي بالحزن والرحيل والكآبة. وانظر إلى الألفاظ والجمل التي جاءت مسجوعة، والسجع لم يمُت من النص في الشعري النثري فلا زال يقوم بدوره الصوتي السماعي الإيقاعي، هنا وردت كلمات (المرأة/ المظلمة/ خصلة)، (تركتْ/ رحلتْ/ بكتْ)، ولو دققنا النظر سنجد أن حركة الكسرة تحت حروف بعض الكلمات ملفتة لانتباه القارئ ، وتشكّل صوتا إيقاعيًّا -كما شعرتُ به – انظر لهذه الكلمات المكسورة بحركة الكسرة الواردة في المقطع السابق: (في الشرفةِ/ بالهجْر/ رحيْلِها/ في فناءِ البيتِ/ من شعرِها/ من وطنِها).
ولننظر في مقطع شعريٍّ آخر وهو من نصِّ (الحويّة/ رمال) من مجموعة (دم العاشق 2011)، يقول:
أرضٌ سجد على ترابها آباؤنا
أرضُ المنفيين، المهاجرين
أبناء سلالات الحنين
إلى التُراب[5]
يلاحظ القارئ أو السامع في هذا المقطع الشعري القصير تلك التموجات الخطيّة المكتوبة وفق ترتيب تنازلي؛ إذ تبدو الكلمات كأنها تنزل من أعلى جبلٍ حتى تصل للتراب، هنا نلاحظ هذا التشكّل الكتابي/ الطِّباعي المتموّج الذي خلق أيضا تموّجا إيقاعيَّا بحركات النزول هذه، بدأ بجملة: (أرضٌ سجد على ترابها آباؤنا)؛ ليصل إلى جملة: (إلى التراب)، وأنتَ تقرأ المقطع السابق لا بُدّ لك من قراءة المقطع الشعري دفعة واحدة أو بنفسٍ شعري واحد لتلاحظ الدفقة الإيقاعية المتحققة، ثم عليك أن تلاحظ الألفاظ الرنَّانة التي خلقت الإيقاع أيضا وهي، الألفاظ المتكررة: (أرض/ التراب ) والتقابل (الآباء/ والأبناء) والترادف (المهاجرين/ المنفيين) والسجع (المنفيين/ المهاجرين/ الحنين). أما لغة الحزن فهي غير مخفية على المتلقي؛ إذ تتبدى من أول جملة لفظة ودلالة؛ فهي أرض المنفيين والمهاجرين، وهم أبناء سلالات الحنين، وأيّ أسى وحزن أشد من النفي والهجرة ؟!
وفي مقطع آخر من مجموعة (غرباء كما جئنا 2019)، يقول الشاعر:
الوطنُ هو العالم
هو اللامكان
الانتزاع من الجذر
القذف في الزمن
إلى ما قبل الخلق
وما بعد الموت.[6]
ستلاحظ التبادل القائم بين الألفاظ بين الوطن واللامكان لتعطي إيقاعا بينهما، بين الانتزاع والقذف، بين قبل الخلق وما بعد الموت، ثم انظر إلى (ألـ التعريف) كيف جلبها الشاعر لنَفَسِه الشعري فبدأ بها وانتهى بها (الوطن/ العالم/ اللامكان/ الانتزاع/ الجذر/القذف/ الزمن/ الخلق/ الموت)، وتلاحظ تكرار (هو) بين الجملتين الأولى والثانية، كما تلاحظ أن هذا المقطع القصير يتقسم بين ثلاثة مقاطع إيقاعية وهي (الوطن هو العالم هو اللامكان)، والمقطع الثاني: (الانتزاع من الجذر القذف في الزمن) ، والمقطع الثالث: (إلى ما قبل الخلق وما بعد الموت)، أما دلالة الشعر المأساوي وإيقاعه؛ فهو مرتبط بالوطن الذي يعادل اللاوطن وهو يعادل الضياع والغربة، الذي يعادل ما قبل الخلق/ الحياة وما بعد الموت؛ إنّه العالَم ، إنه الحزن الدائم.
المراجع والهوامش:
- انظر: الشامسي، هاشم، سفر في وردة الغياب/ التجليات الجمالية في شعر سماء عيسى،ط1، بيت الغشام ، 2015.
- انظر: جعفر، أبي الفرج قدامة ، نقد الشعر ، تحقيق كمال مصطفى، مكتبة الخانجي ومكتبة المثنى ، القاهرة/بغداد،1963.
- انظر: المعمري، يوسف، سيمياء المكان بين قصيدتي العمود والنثر، ط1، دار الآن ناشرون وموزعون، عمّان ، 2022. وانظر : المعمري، يوسف ، قصيدة النثر العُمانية ،سنوات من الإنتاج الشعري / سماء عيسى نموذجًا ، مجلة الأندلس للعلوم الإنسانيّة والاجتماعية ، العدد 82، المجلد10 ، أكتوبر ، 2023.
- عيسى، سماء، برق أزرق في سماء بعيدة، ط1، دار نثر،مسقط،2022،ص10.
- عيسى، سماء ، دم العاشق ، ط1، دار الفرقد، دمشق،2011، ص111.
- عيسى، سماء، غرباء كما جئنا، ط1، مسعى للنشر والتوزيع، أوتاوا ،2019، ص9.
***
فلسفة الحزن وإيقاعه الشعري عند سماء عيسى؛ بقلم: د.يوسف المعمري
د. يوسف سليمان المعمري؛ حاصل على الدكتوراة في النقد الأدبي، يعمل أستاذا مساعدا بقسم اللغة العربية بجامعة الشرقية. صدر له: قراءة في مُضْمرَات علي المعمري الروائية، وكتاب سيمياء المكان بين قصيدَتي العمود والنثر.

اقرأ أيضا في هذا الملف:
سماء عيسى قيثارة الشعر.. ملف خاص وقراءة شعرية مصورة
عوالم الانغلاق والانفتاح في سرديات سماء عيسى | د. عزيزة الطائي
لا يعيش خيال الشاعر ويتوهج بعيدا عن الفكر | حاوره: عماد الدين موسى
سماء عيسى خارج التصنيف | د. فهد حسين
البحث عن طفولة العالم في ديوان «استيقظي أيتها الحديقة» | حامد بن عقيل
البعد الجمالي في شعر سماء عيسى | هاشم الشامسي
قصائد جديدة لِـ سماء عيسى خصّ بها مجلة قناص