مساراتمقالات

الفيلسوف بيتر أدامسون: عندما كانت الفلسفة بحاجة إلى المسلمين واليهود والمسيحيين

اهتمام المتحمسين المسلمين بأرسطو هو أن منطق أرسطو قدم لهم أداة لمواكبة منافسيهم المسيحيين في المناقشات اللاهوتية

بيتر أدامسون: عندما كانت الفلسفة بحاجة إلى المسلمين واليهود والمسيحيين على حد سواء

ترجمة: مسلم غالب

نشر المقال في موقع aeon.co أبريل 2017.

بيتر أدامسون: أستاذ الفلسفة في جامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونيخ. وهو مؤلف العديد من الكتب، منها: أفلوطين العربي (2002)، الكندي: كبار مفكري العصور الوسطى (2007)، الفلسفة في العالم الإسلامي (2016). ويتوفر منه أيضًا الكثير من الملفات الصوتية في مجال تاريخ الفلسفة.                                                    

إذا طلب منك تسمية أهم فلاسفة بغداد في القرن العاشر الميلادي، فلن تتردد في تسمية الفارابي. إنه أحد المفكرين القلائل في العالم الإسلامي الذين أصبح اسمهم مألوفًا حتى لغير المتخصصين، وهو يدين بهذه الشهرة إلى إعادة صياغته الطموحة للفلسفة السياسية والميتافيزيقية الأفلاطونية والأرسطية. لكن إذا كنت تعيش في بغداد في القرن العاشر الميلادي، على الأرجح، ستفكر أيضًا في يحيى بن عدي. الآن نادرا ما يسمع اسمه، لكن المؤرخ المسعودي يذكره باعتباره أهم معلم لفلسفة أرسطو في عصره. لكن ابن عدي ليس مجرد مثال جيد على مدى تلاشى الشهرة  على مر القرون، ولكنه أيضًا مثال واضح على طبيعة الفلسفة بين الأديان في العالم الإسلامي.

كان ابن عدي مسيحياً، كما كان معظم مجموعة الفلاسفة الذين كتبوا شروحاً لأرسطو في ذلك الوقت في بغداد. ويُعد  الفارابي المسلم، الذي يُفترض أنه معلم ابن عدي، استثناءً لهذه القاعدة. وإذا أردنا أن تكتمل هذه الصورة الشاملة، فإن ابن عدي كان يقوم بتبادل الرسائل مع عالم يهودي يُدعى ابن أبي السعيد الموصلي، الذي أرسل إليه أسئلة حول فلسفة أرسطو وتمنى أن يوضح له الأمر. من المؤكد أن بغداد كانت مكانا استثنائيا، وعاصمة الإمبراطورية، وبالتالي بوتقة تنصهر فيها العلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي. لكن الفلسفة كانت ظاهرة بين الأديان في أوقات وأماكن أخرى أيضًا. أفضل مثال على ذلك هو بالتأكيد الأندلس، التي كانت معروفة بثقافة التعايش. وكان اثنان من كبار مفكري العصور الوسطى، ابن رشد المسلم وابن ميمون اليهودي، معاصرين تقريباً، وكلاهما من الأندلس. وبعد سقوط مدينة طليطلة في أيدي المسيحيين، قام ابن داود اليهودي، بمساعدة المسيحي غونديسالو، بترجمة كتاب لابن سينا ​​المسلم من العربية إلى اللاتينية.

وهذا المثال الأخير الذي قدمناه يكشف لنا الكثير. كانت الفلسفة في تلك الأوقات تتضمن غالبًا ممثلين من ديانات مختلفة، لأنها  في كثير من الأحيان كانت تتطلب الترجمة. و لم يكن بإمكان أي من الفلاسفة في العالم الإسلامي قراءة اليونانية، حتى ابن رشد، أعظم مفسر لأرسطو. وكان عليه وغيره من المهتمين بالحكمة اليونانية أن يعتمدوا على الترجمات، التي قام بها في الغالب  المسيحيون خلال قرنين من الثامن  إلى العاشر. وقد حافظ العلماء المسيحيون في سوريا البيزنطية على المعرفة باليونانية، وهذا ما يفسر تحول المتحمسين المسلمين للفلسفة إلى المسيحيين لقراءة أعمال أرسطو وبطليموس وجالينوس والعديد من المفكرين القدماء الآخرين الذين ترجمت أعمالهم إلى  العربية. وبالتالي، فإن وجود الفلسفة المستوحاة من اليونانية في العالم الإسلامي كان مظهرًا من مظاهر التفاعل بين الأديان.

لكن هذا لا يعني أن العالم الإسلامي كان خالياً من الصراعات بين الأديان. على العكس من ذلك، يبدو أن أحد أسباب اهتمام المتحمسين المسلمين بأرسطو هو أن منطق أرسطو قدم لهم أداة لمواكبة منافسيهم المسيحيين في المناقشات اللاهوتية. ومثال واضح على ذلك الكندي، وهو أول مفكر مسلم يستند إلى المصادر اليونانية. وكتب رداً على الثالوث واستخدم فيه المنطق اليوناني للاحتجاج على أن الله يجب أن يكون واحداً مطلقاً وليس واحداً وثلاثة، وقال إن القراء المسيحيين يجب أن يكونوا قادرين على متابعة المناقشة نظراً لدرايتهم بالمفاهيم المنطقية. ومن المفارقة  أننا نعرف عن هذا الرد فقط بفضل ابن عدي المذكور سابقًا، الذي تطرق إلى الكندي ليقوم بعد ذلك بالرد على هجومه على العقيدة المسيحية.

بينما كان أشخاص مثل الكندي يتبنون الأفكار اليونانية للدفاع عن الإسلام ومهاجمة المسيحية، كان آخرون يعارضون استيراد نفس هذه الأفكار إلى الثقافة الإسلامية، رد الكندي على منتقدين غير معروفين الذين  كانوا ينددون باستخدام الفلسفة الوثنية، ودخل مؤسس المدرسة المسيحية في بغداد في نزاع علني مع نحوي مسلم حول فائدة منطق أرسطو. سخر النحوي من ادعاءات المسيحيين الأرسطيين، وكان مبتهجاً لأنه أظهر أن هذا المنطق لم يمنعهم من الاعتقاد بأن الله يمكن أن يكون بطريقة ما واحدًا وثلاثة في نفس الوقت.

وأخيراً، يبقى الحال أن الفلسفة، وبشكل عام، العلوم توفر للمثقفين من مختلف الأديان نقطة التقاء أو منصة محايدة للحوار. المسلمون والمسيحيون واليهود الذين شاركوا في الاهتمام بميتافيزيقيا أرسطو أو نظريات جالينوس الطبية، قرأوا تفسيرات بعضهم البعض للتراث اليوناني. وحتى جدالاتهم  تظهر هذه الحقيقة: إن استخدام المنطق اليوناني في مناقشة ضرورة الثالوث يؤكد أن الثالوث مسألة يمكن حلها بالرجوع إلى العقل. يرى العديد من المفكرين المذكورين سابقًا أن الفلسفة هي أفضل أداة لتفسير النصوص المقدسة، سواء كانت التوراة، أو الإنجيل، أو القرآن. لذلك، بالنسبة للكندي المسلم، وابن عدي المسيحي، وابن ميمون اليهودي، لا يوجد تعارض في حقيقة أن الإله الواحد في التقليد الإبراهيمي يحمل تشابهًا لافتاً مع إله ميتافيزيقا أرسطو. إن اهتمامهم المشترك، كفلاسفة بارزين في عصرهم، كان يعني أن لديهم قواسم مشتركة مع بعضهم البعض أكثر مما كانوا يشتركون به مع معظم أقرانهم من ذوي الديانة الواحدة.

*****

مسلم غالب: كاتب ومترجم و أكاديمي، محاضر في جامعة البصرة، قسم الفلسفة، له عدة ترجمات في مجلة الدوحة القطرية، مجلة التفاهم العمانية، مجلة المجتمع الكويتية، ويكتب في جريدة الصباح العراقية.

خاص قنّاص – مقالات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى