فيلم المجهول
يأتيها خادمها الأصم، طائعاً نظراتها الإجرامية، مُواصِلاً مراسمه المُعتادة فى حمل ضحاياها، استعداداً لإلقائهم فى جوف البحيرة الراكدة، كي يستقرون بلا حراك فى قاع الموت دون أدنى فرصة للنجاة.. لم تَفطِن إلى عدالة القدر، والحكمة وراء ذلك المجهول الذى راح ينسج شباكه حولها فى تَكتُم وحيطة، فإذا بها تستفيق دفعة واحدة على فاتورة آثامها التي وجب سدادها، فقد حانت لحظة تكفيرها عما اقترفت من جرائم، سبق وأن نَفذتها على مدار أعوام بدم بارد واستمراءٍ مَرضي. لم يكن ضحيتها هذه المرة أحد نزلائها الغرباء، مِمَن اعتادت دس المنوم فى أقداحهم تمهيداً للخلاص منهم والاستيلاء على أموالهم، بل كان (ابنها) الذى لم تره قَط، منذ أن انفصلت عن والده وفرت هرباً بابنتها إلى كندا.. ذلك الابن التعيس، الذى أراد البحث عن أمه وشقيقته – بعد وفاة أبيه – كي يجتمع شملهم، وبعد أن نجح فى العثور على كلتيهما، قرر إخفاء هويته، إلى أن يكتشف السر الغامض خلف هذه القطيعة، لكن القدر خبأ للجميع مفاجآت غير سارة بالتأكيد.
فيلم «المجهول» للمخرج المتميز أشرف فهمى، مستوحى من مسرحية «سوء تفاهم/ Le Malentendu» للأديب الفرنسى الشهير (ألبير كامو/ Albert Camus ) المعروف بفلسفته الأدبية القائمة على مفهوم «العبثية» و«اللامعقول»، إذ تنتمي مسرحية «سوء تفاهم» للمدرسة الرمزية، حيث يقول كامو: «إن شقاء البشر يتولد من عدم اتخاذهم لغة بسيطة، فلو أن بطل سوء تفاهم قال: أنا ابنك، لكان الحوار ممكناً، ولما كانت المأساة قد وقعت، ففي الواقع المأساة دائماً ما هي إلا سوء تفاهم بالمعني الحقيقي للكلمة». والواقع أن السيناريست مصطفي محرم وقع على عاتقه مهمة صعبة في تحويل النص المسرحي إلى نص سينمائي محكم، ليكتمل العمل بالموسيقي التصويرية المفعمة بالريبة التى ألفها سامي نصير، فجاءت مشبعة للغاية بأجواء الإثارة والغموض التي هيمنت على الأحداث.
بطولة فيلم المجهول كانت للفنانة القديرة سناء جميل فى دور (الأم.. صاحبة الفندق)، والفنان الراحل عادل أدهم الذى لعب شخصية (الخادم الأصم)، بينما قدم الفنان عزت العلاليلى شخصية (الابن) بالاشتراك مع الفنانة نجلاء فتحي» فى دور (الابنة).. الفيلم من انتاج عام 1984، واعتبره الكثير من النقاد أحد أبرز الأفلام التى قدمها الفنان عادل أدهم، وأفضل أدواره السينمائية على الإطلاق. كما يعد فيلم المجهول من أفضل الأفلام التي ثمنت للتجربة المصرية فى مجال الاقتباس باحترافية واعية، إذ غلب على الإنتاج السينمائى خلال حقبة الستينيات والسبيعينيات والثمانينيات طابع الاقتباس من أعمال سينمائية عالمية مستوحاة في الأصل من الأدب العالمي، ثم التأسيس على نجاحها، وهو أمر مشروع جداً فى إطار التبادلية الإبداعية بين الأدب والسينما. لكن الملاحظة الجديرة بالتوقف عند هذا الفيلم تحديداً، كونه مستوحى من النص المسرحي الأصلي، فلم تكن هناك أي أعمال سينمائية تناولته له من قبل، الأمر الذى عكس قيمة العلاقة التى ربطت السينما المصرية بالأدب العالمي آنذاك، وليس بالأعمال السينمائية العالمية، فحسب.
من هنا اتضحت أيضاً ملامح المخاطرة التى خاضها كل من السيناريست مصطفى محرم والمخرج أشرف فهمى عندما قررا تحويل عمل مسرحي مباشرة إلى عمل سينمائى، آخذين فى الاعتبار ضرورة التَحرُر من محدودية الأماكن والشخوص، نظراً لاختلاف البناء الفنى في كلا العملين. لذلك نسج مصطفى محرم بخياله شخصية (الخادم) المُصاب بالصمم والخرس، الذى لم يكن له وجود في النص الأصلى، لكنه جسد – فى رأيي- أهم شخصيات الفيلم على الصعيد الدرامي، كما عزز سير الأحداث، التى تأججت ذروتها بفضل موسيقى سامى نصير صاحب التيمة المليئة بالأصداء، وكأنها تكشف عن صوت الطبيعة الجَزِعة حين استاءت من آثام البشر تجاه بعضهم البعض، حيث دارت أحداث الفيلم في فندق بأحدى القرى الكندية النائية، الذى تديره سيدة عجوز مع ابنتها وخادمها، حيث يقومون بالتخلص من النزلاء الأثرياء بغرض الاستيلاء على أموالهم. ومع هذا السيناريو المتكرر يشاء القدر أن تكون ضحيتهما الجديدة (الابن) الوحيد لهذه السيدة، الذي لم تكتشف شخصيته الحقيقية إلا بعد فوات الأوان. لقد بدا لها ثرياً، مما أغراها فى الخلاص منه سريعاً.. وبعد أن صار بالفعل نصف ميت بفعل المنوم القوي الذي تسلل إلى جسده، وتنفيذاً للبروتوكول المعتاد تجاه نزلاء الفندق المشئوم، يكون الوقت قد صار متأخراً وأصبح بالفعل جثماناً ساكناً على كتف خادمها، الذى حمله في سكون، سالكاً ذات الطريق المؤدى إلى بحيرة الموتى، بينما تصل (هي) متأخرة إلى مسرح الجريمة، فما كان منها سوى أن قفزت خلف ابنها، لتستقر إلى جواره فى قاع البحيرة الموحش!
كاد يخلو هذا المشهد الصادم من حوار مباشر بين أبطاله، حيث انتقى المخرج أشرف فهمي استهلالاً مكثفاً غلب عليه «التكنيك الغربي» فىي الإخراج، من خلال توظيف مؤثرات الطبيعة بصورة مُقبِضة، ما ساعد على خلق حالة من التعبئة النفسية لدى المتلقي، فإذا بالضباب اللزج يكسو المكان، وحفيف الاشجار المقبض يتفاعل مع الأحداث، وأصداء مخيفة تتردد فى الخلاء، الذى احتضن البحيرة فى اشتهاء الموت.. كل هذه التفاصيل اشتبكت مع صراخ الأم وعويلها الهيستيري من ناحية، ومواصلة خادمها طريقه دون أدنى التفاتة من ناحية أخرى، وكأنه يجترها خلف خطاه الأتوماتيكية دون وعي، كى تنال جزاءها الموجع، وتلقى مصيراً ألحقته بالكثيرين. أخذت تهرول فى جزع أهوج.. تستجديه أن يُبطىء، ربما أوقفت خُطى القدر. راحت تناديه بكامل طاقتها، رغم إدراكها الكامل أنه لن يسمعها، لكنها ظلت تصرخ وتصرخ، وكأنها تنهر ذلك المجهول الذي وضعها على حافة هاوية وجعلها تخسر فرصتها الأخيرة، التي ربما لملمت شتات أعوامها الباهتة. لكن الأمر لم يكن بمثل هذه السهولة، فمن يُسدد إذن فاتورة سلبها كل هذه الأرواح المتراكمة فى جوف البحيرة الصامتة؟
وعن الأداء العبقرى للفنان (عادل أدهم)، فكم استحوذ على مشاهديه دون أن ينبس بكلمة واحدة، إذ حصل عن أداءه في هذا الفيلم علي جائزة أفضل ممثل من مهرجان طشقند السينمائي، حيث برع فى استخدام لغة الجسد، ناقلاً هذا الكم الضخم من انفعالات شخصية مُركَبة وغامضة كشخصية (الخادم).. فكم كان يسير كالآلة دون أدنى شعور بالانقباض عندما يحمل الجثث على كتفيه، وكأنه يمارس طقوساً لاإرادية، لا تثير فى نفسه شيئًا من التساؤل. لكنه فى المقابل، كان يحتفي بأسراب الطيور المحلقة فى السماء، راسماً ذلك التناقض المبهر في محاكاته لكلا الأمرين. وحين تأتي اللحظة الفاصلة، عندما داهمته (سيدته) بالقفز في البحيرة خلف الجثمان الذى ألقاه منذ ثوانٍ، تتهشم داخله تلك الحلقة المفرغة التي كان يعود بها من حيث أتى عقب إنهاء مهمته بنجاح.. لم يكن بإمكانه هذه المرة استيعاب الأسباب التى دفعتها إلى ذلك ولم يستطع إلقاء الذنب على أحد، كي ينتقم منه جراء بقائه وحيداً.. لذا ظل يبكي وينظر إلى فقاعات الماء الطافية أعلى جسدها الغارق، ثم دبت بأوصاله إرتعادة برودة، أشعرته بالخوف من المجهول الذى ينتظره، بعد أن فقد عائله الوحيد داخل هذا العالم الأجوف. لم يُشتت انفعاله المُقيَد سوى تلك الطيور المُحلِقة فى السماء، التي اعتاد مراقبتها ومحاكاة خفقان أجنحتها، ربما أمكنه الطيران معها، لتنتشله من عناء الأرض وما عليها.. وبعد أن اختفت طيوره المحببة من السماء، عاوده الشعور بالوحدة المخيفة من ذلك المجهول، الذي هشم رأسه الطفولى وزج به إلى نفق لانهائي من الضياع، كاد يشبه كثيراً ذلك الصمت الذى ألِفه رغماً عنه.. فإذا بالطبيعة الموحشة تتصدر الختام وتُسدل ستائر النهاية على الموتى والأحياء على حد سواء، فكم من الخبايا ابتلعتها وكم من الأسرار قذفتها على مسرح الحياة، وما بينهم يتشكَل (المجهول) بإرادتنا أو رغماً عنّا.
لم تكن النهايات المفتوحة معتادة في السينما المصرية، فكانت أيضاً وليدة الاقتباس سواء عن الأفلام العالمية أو اقتضاءً بالنهاية الواردة في نصوص أدبية تم اقتباسها في الأفلام. ولكن في فيلم المجهول شكل مشهد النهاية «براعة متناهية» في إخراج كواليسه بكيفية شديدة الإحكام جرى توليفها ما بين المؤلف والمخرج، حيث قام المؤلف بخلق شخصية جديدة داخل نسيج الأحداث، يمكنها حمل كل هذه الرسائل الفلسفية والضمنية للعمل، فيما تألق المخرج في تنفيذ هذه الرؤية باقتدار، وجعل من الفيلم إضافة للعمل المسرحي المهم للأديب الفرنسي ألبير كامو ليخرج به عن إطار الاقتباس، وإنما ليجسد إضافة إبداعية مؤثرة في رسالة العمل المسرحي والفيلم على حد سواء.
*****
شيرين ماهر؛ مترجمة ومحررة صحفية مصرية
