تعود معرفتي بالجالية اليونانية في المنصورة، ولو من بعيد، لفترة السبعينات حيث كانت واحدة من عمّاتي تعمل معلمة في المدرسة اليونانية في المنصورة. وكان ناظر المدرسة، الأستاذ إبراهيم أبوسعدة، وهو من الإسكندرية أساسا، يسكن في نفس البناية التي كنا نسكن فيها في حي توريل.
ولا زلت أذكر أنني ذهبت إلى المدرسة مع عمتي فايزة مرتين، وكانت مدرسة مبهرة بالحوش الفسيح الواسع الذي يمتد لمسافة طويلة قبل الوصول للمبنى نفسه، وفي إحداها حضرت حصة من الحصص معها التي كانت تقوم فيها بتدريس مادة العلوم الاجتماعية. وكانت المدرسة داخلية أي ملحق بها مبنى سكني للطلبة وآخر للطالبات. وكان العدد فيها في تلك الفترة بدأ يقل بسبب تناقص عدد أفراد الجالية اليونانية.
كانت تلك الفترة قد واكبت انحسار وجود اليونانيين في المنصورة، حيث أغلقت المدرسة بشكل كامل في نهاية الثمانينات، وتحولت إلى مدرسة تجريبية، وقد كتبت عن الجالية اليونانية في روايتي ابتسامات القديسين من خلال علاقة حب بين فتاة يونانية وبين بطل العمل رامي.
يعود تاريخ المقهى إلى العام 1907 | qannaass.com
كانت مدينة المنصورة في السبعينات لا تزال تحمل ظلالا من طابعها الكوزمو بوليتاني، الذي عرف بوجود جاليات أجنبية أخرى مثل الجالية الإيطالية، وذلك منذ بداية القرن الماضي وحتى الخمسينات، ولذلك اشتهر في المنصورة سوق عرف باسم “سوق الخواجات”، وهو الحي الذي ولد فيه أبي وأغلب أعمامي وعماتي، قبل الانتقال إلى حي توريل الذي ولدت أنا وأخواتي وأبناء عمومتي، فيه.
لهذا كان من الشائع أن ترى مقهى يحمل اسم أندريا، أو محلا للبقالة وللخمور أيضا اسمه “باولو كيرياكيدس”، أو أن تجد كازينو يحمل اسم “منيرفا” بالإضافة إلى النادي اليوناني بطبيعة الحال. ولكن هذا التراث سرعان ما اختفى تدريجيا، ولم يبق إلا بعض علامات قاومت الزمن ومن بينها “مقهى أندريا” الشهير الذي بدأت أتردد عليه منذ فترة المراهقة، وطوال فترة الشباب والدراسة في جامعة المنصورة. أي تقريبا بين أوائل الثمانينيات وحتى منتصف التسعينات.
حين بدأت التردد على أندريا كان قد احتفظ بطابع عام ظل مستقرا عليه، احتوى الروح العامة للمكان التي عرف بها منذ إنشائه، بجدرانه الخشبية التي أضفت عليه لمسة من الحميمية، وسقفه الشاهق الذي يمنح الإحساس بالبراح، وبالطريقة التي تتوزع بها المناضد بشكل يمنح للجالسين الحرية. لكن اختفت لمسات أخرى مثل أنواع معينة من الكراسي والمقاعد والمناضد لعلها كانت أكثر أناقة من الموجودة حاليا، وبعض الأعمال الفنية التي كانت معلقة على الجدران في زمن وجود المالك اليوناني الأصلي للمكان.
في فترة المراهقة لم نكن نبتعد كثيرا عن منطقة سكننا في حي توريل، الذي كان يجمع بين البنايات التي تكون محاطة بحدائق صغيرة، وبعض الفيلات التي تعود ربما إلى زمن وجود الأجانب، إضافة إلى سكن بعض العائلات الإقطاعية الذين شيدوا عددا من القصور الجميلة في ربوع المنصورة.
إبراهيم فرغلي: علاقتي الحقيقية بالمقهى فردية | qannaass.com
أما حين بدأت التعلق بفكرة الكتابة فقد بدأت أتردد إلى مقهى أندريا وحدي في الغالب، وأقطع المسافة إليه حيث يقع على شارع البحر قريبا من كوبري طلخا، لأجلس للقراءة والكتابة. كنت أبدأ اليوم بشراء أكبر عدد من الصحف والمجلات، وأتصفحها جميعا، ثم أكتب أيضا، خلال فترة كنت أجرب فيها نفسي في كتابة القصص وكتابة مقالات صحفية كنت أحتفظ بها جميعا في دفتر.
يعود تاريخ المقهى إلى العام 1907، على يد اليوناني الذي سمعت أن اسمه كوستاسيوس أندريا، ثم باعه لشخص آخر قبل الانتقال إلى اليونان، وباعه الأخير للحاج عثمان حسين، في عام 1958 وفق معلوماتي، الذي رفض تغيير الاسم أو أي من معالم المقهى وتوارثه أبناؤه الذين تمسكوا بوصية أبيهم بعدم تغيير اسم المقهى أو أي من ملامحه، ليصبح أندريا من أشهر مقاهي مدينة المنصورة.
لكنه بشكل ما كان مختلفا عن الكثير من المقاهي، ويتسم بالهدوء عادة، حتى لو اكتظ بالرواد، وكانت أغلبية الطبقة الوسطى تتردد عليه، وكثير من المثقفين واليساريين في المنصورة، ولفترة أيضا كان الطابق العلوي من المبنى الذي يقع المقهى فيه يضم مقر فرع حزب التجمع الاشتراكي في المنصورة، ولهذا السبب كان عدد من أعضاء الحزب يترددون على المقهى، بالإضافة لزواره من حزب التجمع في القاهرة في حالة وجود ندوة أو تجمع.
وكنت بين الحين والآخر ألتقي ببعض أصدقاء أبي أو معارفه وكان من بينهم عدد من المثقفين اليساريين وأغلبهم كانوا من المهندسين، وأحيانا كنت أجلس معهم وأتابع نقاشاتهم، وبينهم شخص نسيت اسمه الآن للأسف الشديد كان يشبه المفكر الفرنسي الوجودي سارتر بشكل كبير، ولم أعد أذكر الآن أكان هذا اللقب شائعا أم أنه لقب أطلقته أنا بنفسي على الرجل وهو “سارتر المنصورة”.
يوم الجمعة كنت أذهب للمقهى مبكرا لكي أتمكن من قراءة الصحف قبل أن يصل الأصدقاء، حيث كنا نتجمع أسبوعيا، ونقضي الوقت في لعب الطاولة أو الثرثرة، وفي الأيام العادية كان من الممكن أن أتردد على المقهى في أوقات مختلفة لأجل الكتابة.
طبعا، في ذلك الوقت قبل وجود الهواتف المحمولة كان من الممكن أن نتلقى هاتفا من كابينة التليفون في المقهى، حيث كنا نترك رقم المقهى في البيت في حالة إذا رغب أحد في الاتصال بنا.
وقد عاصرت الحاج عثمان رحمه الله، وكان يجلس على مكتب عال، في منتصف المقهى قريبا من مكان إعداد المشروبات، ثم عاصرت ابنه طارق في بداية وجوده لإدارة المقهى، وأظنه هو اليوم القائم بإدارتها. وأظنه أيضا من عمل على تجديدها بعد الدمار الذي لحق بها عقب تفجير الإخوان المسلمين لمديرية أمن الدقهلية المجاورة لها في عام 2013، والذي أصاب المقهى بآثار عميقة من التخريب. ولكن المقهى استعاد حيويته وأناقته عقب أعمال التجديد والترميم وبحيث حافظت إدارته على الطابع القديم، وخصوصا النوافذ الخشبية العتيقة التي تحمل لمحة من الفن الرفيع ولمسة من الأرابيسك، وكذلك الجدران المكسوة بالخشب.
ولا أعتقد أن المقهى كان يمثل لي تجربة الاجتماع مع مثقفين، فبين أصدقائي المقربين الذين أهتموا بالأدب والثقافة كان هناك اثنان فقط هما الشاعر خالد أبو بكر، وكنا نتردد على المقهى ويقرأ لي فيها قصائده بينما أمنحه قصة من قصصي لقراءتها ونتبادل الأفكار حول قراءات ما. وكذلك صديق آخر هو أشرف بلاط، لكن بشكل عام كان تجمعنا فيها لتزجية الوقت والتسلية. وكذلك الفنان أحمد وفيق، الذي أصبح نجما في السينما والمسرح، والذي كان يرسم كاريكاتير في مجلة جامعية كنت أحررها في تلك الفترة وكنا ندرس في جامعة المنصورة. بالإضافة للقاء بالصدفة مثلا مع الكاتب الصديق رضا البهات، وإن كنا اعتدنا أن نلتقي في بيته أكثر.
فعلاقتي الحقيقية بالمقهى فردية، وكنت أحب الانفراد فيه بنفسي، وكانت لي منضدة مفضلة لا أغيرها أبدا، تجاور نافذة شاسعة مطلة على الشارع الجانبي. وكان بعض الأصدقاء يحضرون للمقهى لأنهم يتوقعون وجودي بها أحيانا.
وكتبت عددا كبيرا من القصص القصيرة في بداياتي هناك، وأذكر أيضا كذلك أنني اتخذت قراري بالعمل في الصحافة خلال جلساتي الممتدة فيها. واذكر أنني في نهاية الثمانينات كنت ألتهم مجلة روزاليوسف الأسبوعية، وكنت أعدها في تلك الفترة واحدة من أجمل المجلات بفضل ما أضافه نائب رئيس التحرير آنذاك عادل حمودة، وعلى أندريا أيضا قررت أن ألتحق بها، وهو ما ساعدني عليه الصديق إبراهيم عيسى آنذاك، بعد انتقالي للقاهرة للعمل في الصحافة. وأصبحت أقرأ في روزاليوسف بعض كتاباتي بها على نفس المقهى، بعد سنوات.
كان ثمة إحساس بالإلهام، وبالألفة الشديدة، والسكينة أيضا. ولم أكن أتناول فيها سوى القهوة التركية، وكانت العلاقة مع النادل سواء “عم ميسرة” أو “عم إبراهيم” علاقة ودية كما لو أن واحدا من أبناء العائلة يأتي لزيارة بيت العائلة. وفي هذا ما كان يزيد إحساسي بالألفة مع المقهى.
مع ذلك فلم تكن تلك الفترة هي الفترة الذهبية للمقهى، فقد كنا نسمع من الأجيال الأكبر منا عمرا الكثير عن المقهى، وعمن يترددون إليه من نجوم الثقافة والفن ومن قبلهم كبار التجار، وإضافة لما كنت اسمعه عن طابعه الأوربي نسبيا، من ابي وبعض من عاصروه من رواده أبناء المنصورة مثل الفنان مصطفى رحمة، والكاتب الدكتور إيمان يحي. وكذلك بين ما تردد أن جانبا منها كان عبارة عن حديقة تابعة لها، وترتبط بعدة شجرات عملاقة، لكن تم إزالتها لاحقا من أجل توسيع شارع البحر (شارع الجمهورية) وقد كتب الكاتب الكبير محمد المخزنجي قصة عن هذه الشجرة ضمنها مجموعته القصصية البستان.
وأنقل مثلا ما ذكره الصديق الفنان مصطفى رحمة نقلا عن الأجيال التي عاصرت الفترة الذهبية للمكان قوله: “هذا المكان أيام كان يديره “الخواجة آندريا” كان بالكازينو صالة بلياردو، ومكان مخصص للاعبي البيريدچ، وباترينة زجاجية لعرض قطع الجاتوه والتي كانت طازجة دوماً، وكذلك مكان مخصص للرجال من مدخني الغليون والسيجار، لم يكن مسموحا للنساء ولوجه، وتتوسط كل هذا عازفة بيانو، كانت تعزف قطعا من الكلاسيكيات الشهيرة، ناهيك عن نظافة المكان، بل المنصورة كلها”.
طبعا هذه الفترة الذهبية كانت تعم على المنصورة كلها وليس على المقهى فقط. بالنسبة لي، ربما كما هو المقهى بالنسبة للكثيرين تمثل المقهى ذاكرة شعبية، لمدينة جميلة عرفت أشكالا من الجمال والبساطة جعلها تعرف باسم “عروس النيل”، وهي أيضا تمثل جزء من ذاكرة الثقافة والمجتمع المصري، لارتباط مدينة المنصورة بأسماء عدد كبير من النجوم في كافة الفنون والثقافات مثل أحمد حسن الزيات، أحمد لطفي السيد، محمد حسين هيكل، أم كلثوم، رياض السنباطي، أنيس منصور، الدكتور محمد غنيم، محمد المخزنجي، رجاء النقاش، فريدة النقاش، وعشرات من نجوم الإبداع في مصر.