أرخبيل النصوصجُذْمور الشعر

قصائد من ديوان جديد لـ شوقي عبد الأمير «اللهب الغارق.. نادو»

صوتُ نادو

ثمة أصوات
سوداءٌ
تجرحُ بشرةَ الهواء
لكنّ الدمَ يسيلُ
من مكانٍ آخر.

خضراءُ
تُشفي دون أنْ نَرى
موضعَ الإلتئام.

وثالثةٌ تُضيء
عميقًا عميقًا في مدافنَ
نحمُلُها في الرّوح.

أصواتٌ
لا تُرى ولا تُسمع
لا نعلمُ من أين تأتي
ولا إلى أين تَمضي
لكنّها تجُرّنا مثل حَدّاءٍ
يقودُ قافلةً عبْرَ صحراء.

أصواتٌ خفيّةٌ
نُصدِرُها نحنُ
لا لأَحدَ
ولا لكي نبعثَ برسالةٍ أو معنى
إنما تَحتاجُها أقدامُنا لِتَتَثبّتَ من أنها
ما زالتْ على الأرض.

إلّا أنّ صوتًا يأتي من بعيد
على جَناحِ يعْسوبةٍ
أو في رِقصة فزّاعة
“مُعلّماً مثل بابٍ” و “راقصاً كرخام”
وراءه تمشي الغاباتُ والأوديةُ والظلال
يغسلُ المعانيَ
يُجفّفُها
يُخبّئُها كحلوى للأطفال في الجيوبِ
يحشو التعاليمَ بريْشِ النّعام
والوسائدَ بقُصاصاتٍ من الوجيفِ والبَرَد والقشعريرة،
صوتٌ من وراء التاريخِ
والأناجيلِ والمعلقاتِ وشروحِ التفاسير
حشرجةٌ تكْوينيّةٌ
تَصّاعدُ كشُروقٍ جَنينيّ
في حروفٍ تُعيدُ الأبجديةَ الهرمةَ
إلى صيحةِ الولادة.

صوتُ نادو.

▪▪

إلى جلال الدّين الرّومي

يا جلالَ العشقِ إصغاؤكَ بَوحُ
الرؤى فيكَ تجَلّتْ
مثل كَرْمٍ عتّقَ الآيةَ والحرفَ
الذي يكتبُ الجمرَ ويمحو
أننا نحيا بسرٍّ
هو في الخفْقةِ والرعشةِ لمحُ.
أنا لا أعرفُ
كيف اصطخبَ الكونُ
بنونِ النارِ
والدالِ كَسَدٍّ
لرخاءِ الألفِ الأعلى
وفي الهمزةِ سفحُ.

يا جلالَ العشقِ
هذا قدحُ النّشوةِ في الإسمِ
فقُلْ ما شئتَ
إنّ الله
في صمتكَ جُرحُ.

الوصايا السّبع لآخر الآلهة

-1-

أنْ يظلَّ العقلُ
يرضعُ من ثدي الجمال.

-2-

أنْ لا تكونَ لنا
في أقصى النشوة أقداحٌ
غير أجسادنا.

-3-

أنْ نعيشَ الأيامَ
التي لا تعرفُ غروباً
إلا للشّمس.

-4-
أنْ نَثْمُلَ في العُشقِ
بخَمْرَتَي القُربِ والبُعد
في قدحٍ واحد.

-5-

أنْ نسيرَ كنهرٍ
ونَنْسى المَصَب.

-6-

أنْ لا تدوسَ أقدامُنا
بلا اكتراثٍ العُشْبَ الذي
سنُؤاخيهِ بعد حِين.

-7-

أنْ لا نبيَّ للآلهة
لا وريثْ.

تلاوة

إيهٍ يا نَهْري
إمضِ بالطمي وبالسَوْراتِ وبالغرقى
إمضِ بالنخلِ وبالقصبِ المُحتَرِقِ النجوى
إمضِ بالخُبْزِ اليابسِ غَمَرَ الضفّةَ والمجرى
إمضِ بالشّمعِ العائمِ مَثْوى
إمضِ بالعُشْبةِ في نابِ الأفعى
إمضِ بتواشيحِ المندائيينَ أكفاناً أخرى
إمضِ برمادِ الحلّاجِ طواسينَ العشْقِ الحَرّى
إمضِ بالتيّار السيفِ رؤوساً تتْرى
إمضِ تلك مزامير وتلاواتٌ شتّى.

تعريفات

الحدودُ
اعترافاتٌ منتزعةٌ من التضاريس
تحت التعذيب.

الأوطانُ العربيّة أمهاتٌ عواقر
تبنّتْ في غابر الأزمان
جماعاتٍ بشريّة مشرّدة.

بين عصا الرّاعي والصّولجان
فارقٌ رقميٌّ
قطيعٌ يمشي على قدمين
وآخر يدُبُّ على أربع.

الأجيالُ شمّاعاتٌ ومشاجب
لتعليق أسمال الآباء
وأسلحتهم المندحرة.

الشّكُ أُحفورٌ
نائم فينا منذ التكوين
لن يقول كلمته قطّ.

الأعذارُ
شراشفٌ لا تُغطّي
كامل الجسد.

التّعاليم
التّعاليم
اعترافٌ صارخٌ بعجزنا
عن المحو.

عقربُ السّاعة
سيفُ الجلّاد الأعظم
لكنّنا لا نرى الرّؤوس الّتي تتهاوى
في دورته.

الغجر
البرهانُ الحيّ
لمقايضة الوطن بأغنية.

شواطئ الصّيف
سبورات لأبجديةِ العري
لمكافحة الأمّيةِ
في النظر.

التعذيبُ
لإقناع آخر المتشككين
بأنّ الإنسان أحطّ حيوان.

الطّينُ
أسطورتنا تحتّ الأقدام
ونحنُ نبحثُ عنها في السّماء.

الشّعرُ
عندما نكونُ قاب قوسين
او ادنى من ال “هو”.

أن ترى
لا ضير
أن تقول
هي المعضلة.

يطولُ الغيابُ
عندما تحشُرُ السماءُ نفسَها
بين جسدين.

مزمور

أمَّا وَقدْ دَفَنّا
غرناطةَ بكفنٍ دمَشْقيٍّ
وأودعنا سمرقندَ
في جبّانةٍ عبّاسيّةٍ ببغداد
وتركنا شهرزادَ
ناعيةً ألفيّةً على سرير الشّرقِ
أنتِ يا حبيبتي
مَنْ سَيَرِثُك؟.

حكاية الفزّاعات الثلاث

-1-

البارحة غلَبَ النعاسُ فزّاعةَ الحقل
رأتْ كما يرى النائمُ في ليلةِ صيفٍ باردة
أنّ لها أبناءَ وأحفادَ ،كانت تُداعبُ الأحفادَ
وتنصحُ الأبناءَ أنْ احْذروا أنْ تناموا فَتَحْلُموا
وتَصيروا نَهباً للعواطفِ التي تجْلُبُ لكمُ
الأبناءَ والعوائلَ والأنساب.

في صباح اليومِ التّالي
كان الحقلُ
مليئاً بصغارِ الفزّاعات
خالياً من السّنابل.

-2-

فزّاعةٌ ثانيةٌ عجوزٌ
أُعْفيتْ من دوْرِها وتُرِكتْ في ركنٍ مُهملٍ
رفَضَتْ هذا المصيرَ وراحتْ تبحثُ عن
حقل جديدٍ فلم تَجِدْ إلا المقبرة
فيها أحسّتْ أنّ دورَها سيكون الأهمَّ فهو
لا محدود في الزمان والمكان
وسيتوجّبُ عليها ردعَ الأشباحِ لا الطيور
وإثارة الرعبِ في الأرواحِ لا في الجراد.
ستَتَرَبّعُ على عرشٍ وتكونُ الكائنَ الأوحدَ
الذي يتَسَيّدُ على حقولِ وعُشْبيّات الماوراء.
وهكذا رأتْ نفسَها إمبراطورةً
وحتّى إلهةً
ولكنْ أصْدقيني نادو
هل تفعلُ الآلهةُ شيئاً أكثرَ.

-3-

فزّاعةٌ ثالثةٌ لا تعْرفُها الحقولُ ولا شأنَ لها
بالطيور والجراد والنوارس، فزّاعةٌ تُطاردُ
الفَراشَ حول المصابيح وتُلاحقُ الشهقاتِ
والقشعريرة فزاعةٌ يزرعونَها في الأرحام
وفي الرّؤى والأحلام ويرعونها تماماً كما
يفعلُ الفلاحون في مواسمِ البذار يَسْقَونَها
ماءَ الخوفِ والخُرافةِ ،
لا تُلْمسُ لا تُرى
لكنَّ ظلالَها لا تغيبُ عن الوجوهِ والعُيونِ
والحركاتِ والأصواتِ الخفيّةِ والخفيضة
رأيتٌها يوماً تَتَسَلّلُ بين مساميَّ فاقْتلَعْتُها
لم أكنْ أعلمُ
كان ذلك في اليوم الذي أحْبَبْتُكِ قبل أنْ أراكِ.

تلاوة

تكْتُب
غيمةٌ على تُراب
تضْحك
القُبّعات لا تليقُ بالسّلاحف
تنسى
بحيْرةٌ في حقيبة يَد
تصمت
قطيعُ أناشيد في هاوية
تبكي
بأجفانٍ تمسحُ دموع الأزهار
تغضبُ
لهَبٌ في مجرى
تسأل
كيف ترقدُ في سرير جواب
تَتَحدّى
لَيُّ أعناق الأشجارِ الضالّة
تفرح
قاربٌ في نهْر
تأمل
عبور الصّحراء في يوم ماطر
ترحلُ
الأطلسُ منديلٌ بألوان أوطانٍ مُضاعةٍ
تعودُ
أحياناً يعودُ الزمن
أو هكذا يَدّعي المكان
تَعْشَقُ
منْ سواكَ.

مزمور

أريني صلاتَكِ أيّتُها الشجرة
تذَكّري أنّ الأرضَ
لا تَسْتَحقُّ الوقوفَ إلى الأبد.

الأشجارُ لا تموتُ واقفةً
هذهِ أنْسَنة.

دابّةٌ محكومةٌ بالرَّحيل
هو الوقتُ.

ورقٌ

أتَطاوَفُ
راحتايَ ورَقٌ
الشُّعاعُ الّذي يقودُني ورَقٌ
الحَصيرُ الّذي تنامُ عليهِ النّخيلُ ورَقٌ
لِحاءُ الشّجر ورَقٌ
أسِرّةُ الأهوارِ ورقٌ
صفيحُ الشّاحناتِ ورقٌ
سياراتُ الإسعاف ورقٌ
الجُسورُ النائمةُ ورقٌ
الأكتافُ التي تحملُ منذُ نصف قرنٍ
نصبَ الحريّةِ ورَقٌ
وحدَها التماثيلُ التي لا تنامُ
في ساحاتِ بغداد
تقرأُ ما أكْتُبُهُ لكِ الآن
على أوراقِ هذا اللّيل.

في الديكور

الكرْسيُّ الذي يحْتَلُّ مكانَهُ
باعتزازٍ وجدارةٍ في رُكْنٍ مُهْمل
كان أعرجَ في حياةٍ سابقة.

في التّرحال

حقيبةُ السّفرِ التي
تُعِدُّها لكلِّ رِحْلةٍ
شكلٌ هندسيٌّ مُصَغّرٌ
لجَسَدِ العودةِ لا الرّحيل.

في الفيزياء

الطاولةُ السّوداءُ المربّعةُ الدائريّةُ
التي تدورُ ثابتةً كالنُقْطِةِ
أُحْفورٌ لمدارٍ مُنْقَرضٍ
كان يدورُ عكسَ كُرويّةِ الأرض.

في الأنواء

المِظلّةُ التي في يدِك
بالأمسِ كانت تحْميكَ من الشمس
واليومَ من المطر
إنّها تَعْرفُ فقط
أنْ تُديرَ ظهْراً للسماءْ.

في النشر

مدينتُكَ التي غادرتَها الى باريس
كانت إصْداراً بثلاثةِ أبعاد
لكتابِ الموتى الفرعوني.

* الديوان صدر حديثاً عن دار أروقة في القاهرة.

شوقي عبد الأمير: شاعر عراقي | qannaass.com

خاص قناص

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى