إنها دعوة إقامة في حيٍّ غامضٍ حيث كان ما يمكن: الشعر. ثم في سماء الشمس اسم وديع سعادة يكتب ويُشَعْرنُ العالم وكأنه في مهنة الشعر يمارس قصيدته على ظهر باخرة لنقل حمولة ما. حمولة ما كان يمكن. روح شعرية بسجية تقاوم في كهف الكتابة الشعرية.
حين نقرأ شعر وديع سعادة، نسبح في موجة لسانية لنحاول تفكيك شرنقة قصائده وكأنها قصيدة مهمة محددة تكتب ما ترى وهي تمشي في: “عربة تغص بالطبول وسط شارع/ يغص بالمتسولين/ وأضواء تكشف بهدوء/ أحذية المارة”. غريب، لولوج الأثر الشعري في متن وديع سعادة، يتعين علينا التخبط في معمار ما نرى من هندسة يومية. يتعين علينا أيضا السهر بين سطوره الشعرية للسقوط في بئر مضامينه البلاغية. إنه كان ما يمكن أن نفهم أحيانا “ماذا يحدث بعد الصلاة/ ملاك يذهب طيرانا”. أهو ملاك ريلكه أو دعوة وديع سعادة إلى تأمل سماء الشعر في مساء الكتابة؟
شعر وديع فيه رقص مع كلاب النثر السوداء. نثر العالم والسطر الشعري حين يقتضب الكلام ليسرق من إيقاع الخطوة شيئا ما. وهذا الشيء هو دعوة إلى الرقص مع العالم مجددا. وهنا بالذات، الشاعر يكتب بصيغة المفرد المتكلم: “أرغب أن يخرج من هذه القصيدة كلب/ أتملقه بعظم بحلمة راقصة”. ألسنا هنا أمام رغبة دفينة تحفر ذات الشعر في وجه ما يمكن كتابته شعريا؟ ألسنا هنا نبادر شعر وديع سعادة بما ملكت يدنا التي تقرأ؟
إننا نتلعثم في دهاليز شعر وديع سعادة، وكأننا مصابون بمرض لأننا نبصر اللغة مع قصائده التي تخفي توترا جوانيا ولسانيا في نفس الآن. ثم نواجه وبالصدفة شجاعة اللغة في رعشة غريبة، حيث الشاعر يسمو ويسأل: “ماذا لو تهيجوا؟”. والذين يتهيجون شعريا، هم المتكلمون المنفيون الذين ينفون أنفسهم: صفقة لسانية لأنه “ليس ممنوعا طبعا ارتجاف قضيب على نفقته الخاصة”. خصوصية القضيب الرمزي يرقص على إيقاع قصيدة قادمة من مساء الكتابة والتمتمة الشعرية. كل هذا يحدث مع شعر وديع سعادة لأنه كان ما يمكن.
في هذه الشُّدْفَة، وديع سعادة يرى العالم ليكتبه في أخدود وغرابة ما. “كان يمكن أن يحدث شيء ما/ كالظل مثلا/ أو ضربة ثوب/ في فضاء قلق”. وفقط، في كما لو في الظل تحدث أشياء باسم الشاعر والقصيدة التي تكتب في سماء الشمس حياة جديدة. ولم لا؟ في الشعر، دائما، خليط احتمالات وأوقيانوس معاني. النهار مع وديع سعادة يصير أجمل، لأن اللغة وطن أو إقامة حيث لا تواصل لا مع ذاتنا ولا مع الآخر. وهنا، معضلة الشعر القصوى حيث القصيدة تتكور كالقنفذ المحارب في صمت نيتشوي، ربما.
من قريته اللبنانية إلى أسمنت أستراليا، كمينٌ ما يأخذ شكلا شعريا ويقول: “لن أتوقع شيئا/ فليذهب القطار”. وكأن وديع سعادة يكتشف اللغة كما لو لأول مرة مستعملا مطرقة بلاغية. وكأن ظلال نيتشه تحوم حوله لتورِّطه في العالم. لذلك هو يقول: “مجموعة هائلة من السنوات/ وعليَّ أن أبيدها/ بمطرقة”. وكأننا بوديع سعادة يتصرف وكأنه في منزل حداثة ضرورية في حالات الشعرية العربية المعاصرة. وكأنه يقيم بين شقاء الوضوح وسعادة الغموض من أجل كتابة شعرية لها طعم غيمة.
وديع سعادة يمشي في لون القصيدة وكأنه يفكك قلب العالم الذي لا قلب له. اللهم قلب الشعر النابض بحياة جديدة. ثم ماذا لو كانت قصائده متعددة في وضوح آخر ومزركشة ووجها لا وجه له. قصائده أرضية ومشفوعة بصرخة طيبة. هكذا نرى الشعر فيه.
“سلالم لا تنتهي لالتقاط ملاكٍ أو ذبابة/ لأيام وحيتان”، هكذا يأخذنا وديع إلى الشعر وكأنه يكتب تحت الدُّرْجِ كما لو من ثقبٍ لساني. ثم يطل على العالم عبْر جبة تبحث عن حدود بحار شعرية لا ميزان ذهب لها. شعر وديع يحتفي بالصمت الذي يخرج من “النشيد الجميل، النادر، البدني، السري، النقي. النشيد الذي لا يقول شيئا، لا تراوغه الكلمات، لا يحكي ولا يُسْمَعُ”. وهنا، يصير الشعر ذكاءً لأنه يقترح بويطيقا تترنم بغنائية لا تريد أن تقول أو أن تحكي. إنها بويطيقا بدنية. جسدية وعضوية لأنها على الحافة وعلى الحدِّ.
قصائد وديع سعادة أحداث صغيرة في عالم كبير ومتوحش. كأن بالشاعر لا يحب اللغة لأنه يشك في ما يجري، في الممكن والمستحيل أيضا. ثم هل “يجب أن يطول هذا إلى ما لا نهاية؟” في الذي كان ما يمكن. سحر الذكاء الشعري والأذن كأنها جملة أو فقرة ترتجف. الشاعر يصير شاهدا لغويا في عالم فقد لسانه لأنه طويلٌ في ما لا نهاية. وديع سعادة شاعر التوبيخ، بامتياز ربما. الجزئي يصاحب إيقاع القصيدة الداخلي. الجزئي، حتى لا نقول المرئي والملموس والمسموع، يُمَوْسِق الجُمَل التي تكتب الخارج بعين داخلية. ربما هو فن الوصف في قصائد تدعونا إلى التأمل.
الشاعر طفل يريد السهر مع العالم حيث القصائد صديقة متمنعة في سيل الكتابة. لأنه الشعر في بهاء وضوحه الآخر. “لذلك/ الرؤيا باردة/ وينبغي الصراخ بشيء آخر/ يمكنك أن تثقل أجنحتها بالأسراب الانتحارية”. هكذا وديع سعادة يستقبل ما يرى عبر أسراب تنتحر شعريا. العين تسمع كالأذن والشاعر ينبطح في قصيدته ليكتب قفا العالم. المجهول نعني. أو منافحة الشاعر في معدة الكوسموس، بشكل أوسع. وديع سعادة يوسِّع دائرة الشعر ليكتب وليرى أحسن وهو يوبخ بقساوة طيبة.
في حكومة الشعراء، يظهر الشاعر وديع سعادة كما لو قنفذ المعركة. يتكور في شعره. يحارب بظهره الشائك جريمة الكتابة شعريا. وديع سعادة يرسم من أجل تمثل العالم رمزيا. “رسم إناءً/ رسم زهرة في الإناء/ وطلع عطر من الورقة/ رسم كوب ماء/ شرب رشفة/ وسقى الزهرة/ رسم غرفة/ وضع في الغرفة سريرا ونام”. رائحة جاك بريفير بين هذه السطور تتكور في صوت وديع الشعري. لا هنا، اللهم ما كان يمكن. إمكانية الشعر في شيء يمكن تسميته بالمرآة الارتدادية. الشاعر مرة أخرى يشرب ماء اللغة ليتكلم بلسانه، هو.
شعر وديع سعادة يلتف لينطلق في لوحة وصفية تضيء ليل الكتابة ومساءها. الفضاء والزمان، معا، تحت سقف واحد في شعره. حيث كل شيء حَدَثٌ، لذلك يكتب بيننا. “في هذه الأيام/ أحاول أن أجد لصا/ يأخذ كل شيء دون أن يوقظني”. حتى الشخصيات في فضاء وديع الشعري تصير مبنية للمجهول. وجوه بالنفي تقول الأشياء وضدها أيضا. كاللص الذي يأخذ دون أن يوقظ أحدا في القصيدة. جزئيات المياومة تسكن طيات الشعر عند وديع سعادة. لأنه وهو يكتب، يكتب فكرة الشعر كحدث ضروري وأساسي. الحدث شعرٌ وفكرة في الكلام الشعري.
الشاعر وديع سعادة يكتب “نثر حياة بين ضفتين” كما ذهب إلى ذلك إسكندر حبش. أو إنها هوية التذكر في شعره تأخذ هيئةَ ممارسة للنسيان والغياب. للأشياء في صنيع كتابته رئةٌ، بوح هادئ، نشيد زيزٍ. غنائية نقدية، ربما، تسكن شعر وديع. غنائية تكتفي لتكون رحيقا لغويا في بساتين الوجود واليومي: “كل شيء باقٍ/ حتى صراخ طفل بين الجدران/ هناك جار يزورني/ لشرب القهوة أو/ لإبادة النهار/ وبعد ذلك جميل/ أن أذهب إلى النوم”. وكأن الشاعر يحلم بالنوم لملامسة وجه العالم. الكل يمر عبر لحظات وأصوات وخطوات. ثم فكرة الشعر تتعقب في نثر هادئ لأنه يغازل القصيدة بشكل من الأشكال.
ماذا لو كان شعر وديع سعادة أُكالا إيجابيا في خريطة المعاصرة العربية. أُكالٌ يلتصق بجسم عنيد يكتب الشعر في “رتق الهواء”، لأن “الصوت لا يموت، يخفت في الهواء رويدا رويدا، لكن لا يموت”. وحدها صرخته تقول شيئا غريبا مع الكتلة التي تقرأ. وديع سعادة يعيد ترتيب أثاث اللغة كي يُزَوْبِعَ الأمكنة والأعراض الأخرى. ضفتان من أجل قصائد تطارد السديم على حد تعبير بختي بن عودة. وديع سعادة يكتب أرضا مكدَّسة بالجثث التي تمارس هندسة شعرية ما.
ثم هنا، مقاربات لفكرة النثر في الشعر. فعلا النثر في الشعر فكرة. ومن الممكن، أن يكون مُخُّ الشاعر علبة حزن أو سويداء. ولِمَ لا. النثر بالكاد أرضِيٌّ. السويداء هي ذلك النثر الفيزيولوجي الذي يحتِّم على الشعر. السويداء نثرٌ في الجسد، هي عنصر المَعِدَةِ حيث التَّمَثُّلات تَسْبَحُ” حسب التأويل الرائع للشاعر الفرنسي فيليب بيك. من مخ الشاعر إلى حزنه الأرضي يخرج النثر من قصائد وديع سعادة. إنه يكتب في سعادة الوضوح، تقريبا.
كثيرا، وديع يمارس المطرقة ليمحو المرئي كما لو في حربٍ: “لم أحلم مطلقا بأن ذلك قد يحدث/ مجموعة هائلة من السنوات/ وعليَّ أن أبيدها بمطرقة”. هكذا يشتغل في العالَم الشاعرُ وكأنه في سقيفة أفكار أرضية. يتقدم ويتراجع ليمارس شعره في هدوء نثريٍّ وبين ضفتين نثريتَيْن. ويا لها من مغامرة إبداعية.
بسبب ما، وديع سعادة يكتب لأنه يعيش شعريا ليقاوم شعريا، دائما وأبداً. مهنة صعبة بالكاد. الشاعر الذي يفهم أحيانا، الذي يسهر مع صديقه شارل شهوان، الذي يرشف القهوة مع جاره، الذي يستعمل المطرقة لإبادة السنوات والأشياء. إنه كل هذا، وديع في الكتابة الشعرية. بينه وبين العالم، مائدة أفكار وأسْطُر شعرية. يقول: “أريد قليلا من الماء. فقط لئلا تموت الأسماك في حوضي”. ماء الشعر حياة أخرى وجديدة في عالم قديم، تقريبا.
إنه مشاء. يمشي بكثرة حتى لا نقول كثيرا. إنها مشاء تحت قبة السماء. إنه مشاء تحت غيمة الحداثة. ثم مع الآخرين يقِرُّ: “مشينا كثيرا، باحثين عن حب قليل. مشينا بقامات قصيرة في شوارع طويلة”. الشاعر يمشي ليرى أطول. ويكتب الشعر ليراه العالم أطول. المسألة مسألة حجمٍ وقامةٍ. المشي كتابة ثالثة لترجمة ما يعْبُرُ الكائن شعريا. ثم “يستبد الهلع بالأنهار العالية”. المشاء الشاعر يسمو قليلا أو كثيرا.
“يقال إن الصوت لا يموت، يخفت في الهواء رويدا رويدا، لكنْ لا يموت”. فعلا، وديع يتربص بأثر الصوت ليكون صدى أو أصداء لا تموت هي الأخرى. القصيدة، إذاً، صوت يحاول رسم حداثة جديدة في حياة جديدة.
حين نتأمل شعر وديع سعادة ونحن نقرأ قصائده، نتأكد قليلا أو كثيرا أنه يكتب بجسده، بعينين مغمضتين. الجسد الشاعر الذي يقنص لحظات أو لُحَيْظاتٍ في الواقعيِّ. جسده يتقدم ويلتقط ما تم نسيانه. ثم نسقط في طبيعة شعرية من طين وماءٍ. الكتابة عبر الجسد الذي يلمس ويهشم بأداةٍ هي المطرقة. ثم، أيضا نسقط في مطرقة وديع سعادة الطيبة. الحداثة الشعرية في نصوصه مسألةٌ جسدية وبدنية، في نفس الآن. جسد بين ضفتين.
مع وديع، نتدثر بصوت الشعر وهو ينادي على خفة لغوية رقيقة. ينادي على سكوت صغير. ها هو يقول: “غير أن الصمت يخفف الثقل؟/ كلما نقص صوت، أعتقد أن الأرض تشعر براحة”. يزج بنا في حالاته الشاعرية. الشعر حالات. الشعر ربما مطلق هادئ. الشعر عتبة. شعره يوسِّع دائرة ضفتين إبداعيتين. من الشعر يصل إلى النثر ليكتب على الحافة أو الأخدود. “هناك قد تكون حياتنا على الحد الضئيل النحيل المسنون كشفرة”. كم يكفي من كلمات ليتناسل الخارج بالداخل في نصوصه؟ ربما، مطرقة وديع سعادة تعلن شعرا ضاربا في حداثة مختلفة وهادئة. حداثته تتكور كقنفذ المعركة في منافحة ترد الاعتبار إلى الشعر الذي “يلوك ألسنة الساعات”، على حد تعبيره.
ألا تكون القصيدة المعاصرة جسدا يتحول إلى أشلاء؟ القصيدة المعاصرة، مع وديع سعادة، بدن مهشم وغير منظم. هنا بالذات، يجب أن ننظر إلى القصيدة المعاصرة بشكل فِكِّيرٍ. لأن الشعر يفكر ولو قليلا. ثم ماذا لو كانت القصيدة جسدا بدون أعضاء؟ ولم لا. الشعر في نصوص وديع سعادة مربك ومحير. لأنه يسكن منطقة عاصفة ذهنية حيث الأفعال تمطر فكرا وإحساسات. القصيدة مطرقة وديع سعادة لأنه يريد أن العالَم شعريا: “بودي أن أعرف ماذا يقول ميتٌ لصرخته/ وماذا تقول الصرخة للفضاء”. الشاعر يقول ونحن ننصت بجسدنا القارئ ونتخبط في سماء الشعر والإبداع.
*احساين بنزبير: شاعر ومترجم من المغرب
الشِعر في العراء | د. هدى فخر الدين
وديع سعادة في «أعماله الكاملة».. الشعر يُصادِق الحياة | شريف الشافعي
إيروسية الصمت عند وديع سعادة | ممدوح رزق
وديع سعادة.. الشاعر المعبّر عن الحزن | عزيز العرباوي
وديع سعادة والتآخي مع الطبيعة | د. علياء الداية
الشاعر الذي مشى في شوارع الدّهشة | عبد الجواد الخنيفي