مساراتمقالات

كتاب الإسرائيلية رونيت مرزن «الأب والابن وروح الثّورة»: تفسير أوديبي لعلاقة الحراكيين العرب بالغرب | جهاد الرنتيسي

تحاول الباحثة الإسرائيلية رونيت مرزن في كتابها “الأب والابن وروح الثّورة”* المزاوجة بين الأسطورة والموروثات الاجتماعية في تحديدها لطبيعة العلاقة بين صانع السياسة الغربي والحراكيين الذين شاركوا في هبات ما عرف بالربيع العربي خلال العقد الفائت.

تفضل مرزن وهي أستاذة علوم سياسية في جامعة حيفا، حاصلة على الدكتوراة في تاريخ الشرق الأوسط استخدام مصطلح “الأب الغربي” في بعض الأحيان، لكنها تستخدم “زوج الأم” في مواضع أخرى من كتابها، مما يترك لدى القارئ انطباعاً بأنها لم تستقر على تصوّر دقيق لشكل العلاقة بين الطرفين، خلال قراءتها لمسار تطورات الأحاسيس والمشاعر التي أوصلت الشباب للخروج إلى الشارع والذهاب بعيداً في طموحاتهم.

 وراء عدم الاستقرار على المصطلح الأدق انشداد واضح لمحاولة إسقاط أسطورة أوديب سوفوكليس على العلاقة الملتبسة بين حملة الأفكار الليبرالية الذين نزلوا إلى الشوارع بعد تشربهم أنماط التفكير الغربي -الأكثر حضورا في ثقافته- والمؤسسة السياسية الغربية التي راهنوا عليها وتبين لهم فيما بعد المسافة التي تتركها بين الفكرة والممارسة، وبناءها القرار السياسي على أساس المصلحة بالدرجة الأولى.

لا يخلو الأمر من انطباع بقناعتها في وجود علاقة زواج كاثوليكي بين الغرب والدولة العربية، تبقي صانع القرار الغربي حريصا على دقة قياس المصلحة لضمان حالة الاستقرار في العلاقة، مما يصيب الطامحين لعونه في إعادة ترتيب بيتهم الداخلي دون القفز عن قوانينه بخيبات الأمل.

وقد يعود تأرجح رونيت مرزن بين المصطلحين إلى وقوعها في لبس فهم تاريخ نشوء دول المنطقة، حيث لعب الغرب بعد الحرب العالمية الثانية الدور الأكبر في تحديد الخرائط الجغرافية والسياسية، الأمر الذي يستحق التوقف والتدقيق، لا سيما وأن تقسيمات الحدود ظلت قنابل موقوتة منذ نشوء الدولة القطرية العربية، وأبقت الدول في حالة معاناة مع الحاجة إلى التنمية  وبناء الإقتصادات بفعل غياب التكامل، ولم تقدم العواصم الغربية مساهمات حقيقية في إيجاد مخارج من المأزق .

في جميع الأحوال يبقى من الوارد أنها قرأت نشوء الدول وتحولات السياسة في العالم العربي تحت تأثير فكرة ومراحل نشوء الدولة العبرية، التي تتجنب حتى الآن تعريف نفسها بأنها جزء من الشرق، وتصرّ على مواصفاتها الغربية، لتحتفظ بتميز يمنحها الأفضلية لدى الغرب، الأمر الذي يعني انزياح الباحثة نحو إسقاط ومحاكاة نموذج مختلف عن آليات نشوء دول المنطقة وتكون مجتمعاتها.

يتيح الكتاب -الصادر بالعبرية والموجه للقارئ الإسرائيلي بالدرجة الأولى- التهاون مع الإحراج الذي يمكن أن يلحق بالشباب العربي المخذول في مراهنته على الانحياز الغربي لحراكه وإمكانية تحقيقه الاصلاحات السياسية التي يريدها من خلال الاستعانة بالآخر لكن هذه الإتاحة لم تحل دون محاولة رد بعض الاعتبار للخائبين مما يكرس فكرة التاثير الأوديبي على فهم الباحثة للعلاقة.

جاءت هذه المحاولة من خلال مناقشة أحد فصول الكتاب حرص المخذولين على التخلص من شبهات الارتماء في أحضان الغرب والظهور بصورة الثوار المتمردين على الواقع المراد تغييره.

وفي هذا السياق حرصت الباحثة على توضيح ردة الفعل التي قابل بها الشباب التعاطي الغربي مع تظاهرات الربيع العربي، والتي تمثلت في رفضهم ما اعتبروه تلونا وكيلا بمكيالين، ووصفوه بالخيانة والتعامل بأجندات لا تتفق مع أنماط التفكير العربية، لكن توضيحها يضع المخذولين في صورة المفصوم الذي يطمح للنموذج الغربي ويصر على نمط حياته الشرقي في الوقت ذاته، ويشكك في مدى دقة استخدامها للمصطلحات.

ومع تجاوز مخذولي الربيع العربي العتب على الغرب إلى توجيه الاتهامات بالجملة يكتمل الملمح الأوديبي للمصطلح الذي استخدمته رونيت مرزن سواء بصيغته السوفوكليسية أو بتفسيرات سيجموند وفرويد ولاحقيه من الذين تناولوا الأسطورة بالبحث والتحليل والتأويل.

رافق الاسقاطات وحالات اللبس التي وقعت فيها الباحثة محاولة للتأصيل من خلال تفكيك الخطاب المستخدم وتحليل الأفكار وتوظيف ابن خلدون في سياقات بحثها بالإشارة إلى العصبية القبلية وللاقتراب من حالة الانسداد السياسي في العالم العربي لجأت إلى نصوص ابداعية لسعدالله ونوس ونوال السعداوي وإحسان عبدالقدوس لكن لجوءها لم يخرجها من الدائرة التي ولجتها مع غياب التدقيق في مصطلحاتها.

جاءت حيرة الباحثة بين مصطلحي “الأب الغربي” و”زوج الأم” وسط منظومة من المصطلحات الأبوية التي استخدمتها باعتبارها مسلمات، فهناك أيضا مفاهيم الأب البيولوجي، والأب السياسي الذي تحول إلى دكتاتور، ليكتمل ثالوث الأبوات الذين يحكمون قبضتهم على تطور المجتمعات العربية.

تتجاهل رونيت مرزن في كتابها ضرورات التركيز على أثر الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي أدى إلى استنزاف موارد الدول العربية ولعب دورا في تحديد أولوياتها على مدى العقود الماضية وساهم في وصول الجنرالات إلى السلطة ومن ثم إيقاف تطورها السياسي والاجتماعي.

لا تولي اهتماما لأثر الشرق على الأزمات البنيوية التي يعيشها النموذج “الاسرائيلي” ولا تثير الشكوك حول ديمقراطيته وفساده السياسي واتساع حضور الدين في حياته اليومية على حساب تعدديته المفترضة.

وظلت اعترافات المفكرين الغربيين بالمأزق الليبرالي بعيدة عن تشخيص الأسباب التي منعت العواصم الغربية من التجاوب مع مطالب المتظاهرين المخذولين الذين اكتشفوا جهلهم بالغرب بعد فوات الأوان.

بذلك لم يخرج الكتاب الذي لقي اهتماما بين متابعي تطورات الحياة السياسية في العالم العربي عن القراءات الإسرائيلية التي لا تستطيع رؤية العرب خارج دائرة الدونية، مما يبقي الدراسة على تماس مع  الجذر الاستشراقي، ويبعدها عن قراءة المستقبليات التي أتاحت لرونيت مرزن حضورا بين المهتمين بالقضية الفلسطينية والتفكير الإسرائيلي في إدارة الأزمات مع الفلسطينيين والمحيط العربي.

* الكتاب صادر عن دار بردس 2021.

جهاد الرنتيسي: كاتب فلسطيني | qannaass.com

خاص قناص

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى