«لم يصل عليهم أحد» ومسارات الكتابة عند خالد خليفة
من يُراجع تجربة الروائي السوري الراحل خالد خليفة (1964 – 2023)، وكذلك من خلال آراء وانطبعات قرائه المُقرّبين والمجهولين، سيجد بأن تجربته لم تكن تجري في خط واحد. بل حتى أن أسلوبه الحكائيّ واللغويّ ربما تغيّر في أعماله الأخيرة، ولم يبق على حالة واحدة تدلّ على أسلوبه الخاص، ضمن تجربة الكتابة الروائية السورية.
كيف حدثت هذه التنقلات؟ وماذا يعني تغيّر مسارات الكتابة لدى خالد خليفة؟ وغيرها من الأسئلة التي تحتاج إلى بحث مستفيض في تجربة امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً في حقل الرواية.
ربّما كان لنيل خالد خليفة جائزة نجيب محفوظ عن روايته «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» في عام 2013، وهي الرواية ذاتها التي أوصلته إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، تأثير كبير على ما نتصوره من تغييرات حصلت مع خالد خليفة. ويمكن تفسير ذلك في عدد من النواحي.
فنيل خالد خليفة لجائزة نجيب محفوظ جعل روايته تلك تُترجم إلى اللغة الإنجليزيّة، وهي إحدى بنود الجائزة إضافة لقيمتها المادية التي تبلغ 75 ألف جنيه مصري. ووصول الرواية إلى القائمة القصيرة للبوكر العربية، جعل من خالد اسماً غير مجهول في العالم العربي. هو الذي كان معروفاً قبلها سورياً، على نطاق واسع، وعربياً على نطاق ليس بواسع، من خلال أعماله السابقة «حارس الخديعة» (1993) و«دفاتر القرباط» (2000) و«مديح الكراهية» (2008).
إغلاق دار أميسا
الروايات الثلاث السابقة نشرها خالد بمعدل رواية كل سبع سنوات، وأسسّ بنفسه دار نشر «أميسا» من أجل نشرها، ولم يصدر عنها سوى تلك الروايات، إضافة لكتاب ضم المجموعات الشعرية الأربع الأولى للشاعر السوري منذر مصري.
بعد شهرة خالد تلك، الذي كان مشهوراً قبلها من خلال سيناريوهاته التلفزيونية، لم يعد بحاجة إلى دار نشر أميسا، وتمّ إغلاق تلك الدار على ما أعتقد، أو تأجيل النشر من خلالها.
تأسيس دار نشر، في حالة خالد خليفة، يُمكن فهمها بأنه لم يكن يريد أن يقع تحت أية شروط تخص دور النشر العربية، ومزاج لجان القراءة إن وُجدت، وكذلك عدم الانصياع لشروطها المادية، ومعاملاتها السيئة. وربّما أراد عدم الإضرار بدار نشر أخرى، خاصة إذا عرفنا أن روايته الثانية «دفاتر القرباط» جمّدت عضوية خالد في اتحاد الكتاب العرب لمدة 4 سنوات. وتجميد العضوية هذا يتم ذكره في أكثر من مقالة وموقع، ولا ندري ما هو السبب وراء ذلك، وكيف حدث. كما أن خالدا نفسه لم يأت على ذكر ذلك في حواراته العديدة. وكذلك إذا عرفنا أن روايته الثالثة «مديح الكراهية» حُظرت من السلطات السورية بعد نشرها من دار أميسا في دمشق.
بعد تلك الشهرة صارت دور النشر تستقبل أعمال خالد الجديدة بلهفة، بل صارت إحداها تُعيد نشر أعماله السابقة، التي نشرتها داره الخاصة.
التاريخ والماضي
كان خالد خليفة مشغولاً بالأماكن وسيرتها وتاريخها وحكايات شخوصها، المغمورة منها بخاصة، وكلما ذهب إلى مناطق أبعد عن حلب، صار يكتب عن حلب، وقراها، بشكل أكبر وأكثر دقة. كان الأمر ليبدو بأنه يعثر على صفاء أكثر كلما ابتعد عن المكان الذي أخلص في الكتابة عنه.
فإذا نظر المرء لعمله الخامس «الموت عمل شاق» لوجد ذلك الصفاء الذي نشير إليه. ففي هذه الرواية استخدم خالد خليفة الشكل الذي اتبعه الروائي الأمريكي العظيم وليم فوكنر في روايته «بينما أرقد محتضرة»، من أجل دفن شخص/ أب مات في دمشق، أثناء الثورة والعنف الذي اشتعل في سورية منذ آذار 2015، وطلب من أبنائه، خلال احتضاره، أن يدفنوه في مسقط رأسه في العنابية، وهي إحدى قرى مدينة حلب. كان خالد خليفة يحتاج هذه الأحداث، وفكرة هذه الأحداث، لكي يكتب عن طرقات دمشق وحلب وقراها ونورها وعتمتها وهو، خارج سورية، في مالطا.
هكذا سيحصل كذلك مع روايته الأخيرة «لم يصل عليهم أحد» (دار هاشيت أنطوان؛ 2019)، والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، والتي كتبها خلال ثلاث سنوات متنقلاً بين دمشق وكامبريج وبوسطن.
في كل أعماله الروائية سنعثر على التاريخ والماضي، وشغف خالد بتاريخ الشخصيات التي عاشت في أمكنة عزيزة على قلبه. خاصة تلك الأمكنة التي عاش فيها طفولته وصباه. حتى وصوله لرواية تاريخ ضخم، يخصّ أجيالاً متوالية، كما في روايته الأخيرة «لم يصل عليهم أحد». وهذا ليس بالأمر السهل أبداً.
بعد نيل خالد جائزة نجيب محفوظ لم يتغير فقط مسار حياته، وإغلاق دار نشره، والترحيب الكبير به من دور نشر مختلفة، بل كذلك في ترجمة أعماله، والحصول على الكثير من المنح الأدبية في أوربا وأمريكا، لدرجة أنه صار يقضي العطلات فقط في سورية، ولم يعد مقيماً فيها بشكل دائم. وهذا التغيير شمل حتى أسلوب خالد خليفة في الكتابة. فأسلوب خالد خليفة في «حارس الخديعة» هو غيره في الروايات التي تلت عمله «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة». بل كان تطور الأسلوب الروائي لدى خالد خليفة ملحوظاً من رواية إلى أخرى، فتنقل بين الأسلوب الملحمي والمونولوغ حتى انتهى إلى أسلوب الحكاية أو الحكايات الأقرب إلى الواقعية. وبما أن رواية «لم يصل عليهم أحد» كانت عمله الأخير، فيمكن لأحدنا القول بسهولة، بأنها ربما هي من أفضل أعماله سردياً ولغوياً وبناء ومتانة.
عقلية جديدة
فعلى الرغم من إخلاص خالد خليفة لكراهيته لأصول علامات الترقيم، التي يلاحظها القارئ في جميع أعماله، إلا أن هذا العمل يبدو مكتوباً بتلك العقلية الأوربية / الأمريكية في الكتابة، ولم يكن ينقص سوى وضع خارطة للشخصيات الرئيسية والثانوية قبل مفتتح الرواية. فهذا العمل يبدأ من عام 1907 وينتهي في عام 1951. ولكنه يعود قبل تاريخ البداية مرات كثيرة، بحسب الشخصية والحدث. لذلك يمكن القول بأن هذا العمل الضخم يُقدّم خمسة أجيال من الشخصيات الأساسية والثانوية.
في هذا العمل الأخير، يبدو وكأن خالدا يُقدّم حلب كلّها للقارئ الغربي والعربي على حد سواء. فأبطال روايته الأساسيين هم مسلم ومسيحي ويهودي، مقدّما تلك الحياة الغرائبيّة والقاسية والفاحشة بسلاسة. قافزاً من مكان إلى لآخر، ومن شخصية إلى أخرى. ولأن الرواية تبدأ من «حوش حنا» في حلب، حين انتهى الطوفان العظيم، أو فيضان النهر، والفيضان يختلف عن الطوفان، ولكن الذاكرة الشعبية سمّته “طوفاناً” لهول ما جرى خلاله، فلا بد أن تنتهي في حوش حنا من جديد، وموت الشخصية الرئيسية، التي نجت من الطوفان، غرقاً وانتحاراً في النهر ذاته. الرواية تبدأ من موت جماعيّ بسبب الطبيعة، وتنتهي بموت اختياري للشخصيتين الرئيسيتين في العمل (حنا وزكريا). وخلال هاتين النقطتين نقرأ قصصاً كثيرة عن الجوع والطاعون والموت والخوف والقتل والعصابات والعثمانيين والأرمن والسريان والكنائس المطمورة والعامرة والمخطوطات. عن الصوفيين والمتشددين. عن مكان خاص بالملذات والشهوات والقمار. عن الأحصنة وعوالمها. عن القاع السفلي للمدينة والخمارات وبيوت الدعارة. عن حلب التي كانت تريد أن تخرج وقتها من ضربات الحربين العالميتين الأولى والثانية، والفخاخ التي صنعها العثمانيون باسم “الأمة الواحدة”، التي لا تسمح بالاختلاف أو الخروج عنها. ولكن يبقى المحرك الأكبر في هذا العمل، كما في أكثر أعمال خالد خليفة، هو الحب والهجران والموت وتأثيرها على المصائر.
لا تجري رواية «لم يصل عليهم أحد» في مكان واحد، ولا في مكانين، بل تمتد خريطة المكان من إيطاليا وفرنسا، إلى تركيا وسورية ولبنان وفلسطين. وكل ذلك ليس بذكر الأمكنة فحسب، بل بذكر أطعمة وأقمشة وأحصنة وأحداث ترتبط بأشياء لا يجوز الخطأ فيها. وربما ما يقرأه القارئ في الصفحتين الأخيرتين من هذا العمل، بعنوان «عرفان بالجميل»، يدلّ على العقلية الجديدة التي أحبّ خالد خليفة اتباعها بدءاً من هذا العمل، ولكن للأسف كان هذا العمل الأول، بتلك العقلية المحترفة، والأخير.
الحد الفاصل
فخالد كتب بأنه يشعر «بالعرفان الشديد لأصدقائي الذين كانوا معي كرماء كما هي عادتهم دوماً، قرأوا مسودات هذه الرواية في مراحلها المحتلفة، وكان لملاحظاتهم الدقيقة أبلغ الأثر في نفسي، وفي تخليص النص من شوائب كثيرة، وإن كان لا يزال هناك الكثير منها، فهي مسؤوليتي الشخصية». ثم يذكر الكثير من الأسماء التي تابعت العمل معه، وقرأت مسوداته وأعطته ملاحظات، بل منهم من رسم له شجرة لشخصيات العمل، ومنهم من زوده بمعلومات عن الأمكنة والخيل والأحداث. منهم وكيلته الأدبية التي «قرأت المسودات الأولى الفوضوية والنهائية أكثر من خمس مرات»، ومحامي وناقد أدبي «سجّل جملة ملاحظات مهمة لمتن السرد واللغة والمعمار الروائي» وشاعر «قرأ النص بإمعان ودقة كبيرة ونبهني إلى أخطاء المسودة المبكرة، كما قام بجدولة الشخصيات ورسم خريطة علاقاتها بدقته المعهودة»، وبروفيسور ومترجم وكاتب طبيب في علم النفس ومخرج تلفزيوني…. وهذا يدلّ على العقلية الجديدة التي فكر فيها خالد في عمله الروائي وقارئه على السواء، وهو تصرف احترافي يجري العمل به في أوربا وأمريكا، التي تضيف إلى كل ذلك محرراً أدبياً يقوم بالمساهمة في كتابة النص كقارئ محترف.
الشعر، الذي لطالما كان خالد خليفة يتمنى أن يُنادى به، لم يتخلّ عنه في رواياته. ربما أكثرها حضوراً وسماكة كان في عمله الأول «حارس الخديعة»، ولكنّه خفّف منه رويداً رويداً، حتى وصوله لعمله الأخير، لصالح الحكاية والسرد. صار ذلك الشعر مُمدّداً بماء السرد والحكاية إن جاز التعبير.
هذا التغير طال حتى عناوين أعماله قبل الرواية التي شكلت حداً فاصلاً ضمن تجربة خالد خليفة، فيمكن المرء أن يقول بأنها أصبحت ما قبل «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» وما بعدها. فالعناوين الأولى كانت مكونة من كلمتين. من جملة اسمية: حارس الخديعة، دفاتر القرباط، مديح الكراهية. بينما تحولت بعد ذلك إلى جملة فعلية، أو اسمية تتعدّا الكلمتين: لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة، الموت عمل شاق، لم يصل عليهم أحد.
بإجراء مقارنة بسيطة كهذه بين أعمال خالد خليفة الستة السابقة، سنجد أن مزاج الكتابة لديه تغيّر، أسلوباً وبناء ولغة روائيّة، منذ «لا سكاكين في مطبخ هذه المدينة»، التي صار بعدها ينشر رواية كل ثلاثة أعوام، وليس كل سبعة أعوام، وكان قد وصل إلى الأفضل بينها في عمله الأخير «لم يُصلّ عليهم أحد»، ولكنّه للأسف رحل بعده بأربعة أعوام. رغم أن هذه الأربعة أعوام هي فترة كانت كافية، في الفترة الأخيرة من عمر خالد، أن يكتب ويصدر فيها عملاً جديداً.
***
«لم يُصلّ عليهم أحد» ومسارات الكتابة عند خالد خليفة؛ بقلم عارف حمزة
عارف حمزة؛ شاعر سوري مقيم في ألمانيا