عاد مهرجان بغداد الدولي للمسرح إلى نشاطه بعد أن توقف سنوات عديدة نتيجة الحرب، وضمن دورته التي شهدت نشاطها تحت شعار “المسرح يضيء الحياة” الشهر الفارط (20/26 تشرين/ نوفمبر 2021)، لفت انتباهنا العرض المسرحي “أمكنة إسماعيل” للمخرج العراقي إبراهيم حنون. هذا العرض هو في حقيقة الأمر علامة جذرية على مسرحة واقعة جدّ عنيفة تحدث في الفضاء العمومي لمدننا العربية، ألا وهي تلك المتعلقة بانفعالات المساجين السياسيين حدّ الجنون نتيجة الإفراط في تعذيبهم.
لقد سبق لميشال فوكو أن قال في كتابه “تاريخ الجنون”: “الظاهر أن العالم العربي قد شيّد في وقت مبكر مستشفيات خاصة بالمجانين: ربما في فاس مع إطلالة القرن السابع، وربما في بغداد أيضا مع نهاية القرن 12”، وأضاف: “الجنون هو بالذات الشرط الأساسي لاستحالة الفكر”، فردّ فولتير بالقول: “نحن لا نستطيع معرفة ما إذا كان الرجل الذي يأخذ الكلمة يستوحي أفكاره من العقل أو الجنون”، وهذا ما يؤكد فرضية الوعي بالجنون الذي تمارسه الذات البشرية قصداً، إمّا على سبيل التورية والتقنّع أو الهروب من إكراهات مّا، هي في أغلبها نتيجة القمع، وليس أدلّ على ذلك من شيء ما ردّده فوكو مرّة أخرى بالقول: “كان من الشائع العثور على مجانين في السجون”، فمرحبا، مرحباً بإسماعيل الذي جعل من الجنون الوجه الآخر للحرية مقابل أبديّة المعتقل.
ميشال فوكو في كتابه “تاريخ الجنون”: “الظاهر أن العالم العربي قد شيّد في وقت مبكر مستشفيات خاصة بالمجانين: ربما في فاس مع إطلالة القرن السابع، وربما في بغداد أيضا مع نهاية القرن 12“
لاحظوا معي، لقد استخدمت عبارة “أبدية المعتقل”، ولا أستخدمها هنا من باب الاستعراض اللغوي. ما دفعني إلى ذلك هو عتبة العرض بوصفها النص الموازي له (أمكنة إسماعيل). على هذا النّحو سوف يكون تأويلنا كالتالي، إنّ تعدّد الأمكنة هو ما يعكس شتات الإنسان باستحالة سكنه في المكان الواحد، الإنسان الشريد، الهارب، الخائف، والملاحق، ولذلك فإنّ كلّ الأمكنة التي يرتادها ستكون مثابة المعتقل نسبة إليه أو هي كذلك فعلا. هذا ما يفصح عنه عنوان العرض، عتبته التي نفتحها مثلما فتح إسماعيل أبواب المعتقل بعد أن ادّعى الجنون فتمّ وضعه في مستشفى للمجانين، أمّا نحن فنوضع في المسرح بوصفه هو الآخر تقنية شفاء من جنون الفضاء العمومي الذي نعيشه. ربما نفرط في الـتأويل حين نقول بأنّنا نحن المجانين وما إسماعيل الآن إلّا الطبيب المداوي. لماذا؟ لأنّ مدننا الآن تعاني من الجنون المعمّم، الجنون الذي بالغ في استدعاء كلب الجحيم، سربروس العوّاء، ساكن بوابة العالم السفلي وصاحب الأشداق الثلاث ومعذّب الأرواح مثلما كان يعذّب إسماعيل في المعتقل.
اسمحوا لي، لا أريد أن أسقط في مهنة الببغاء الذي يعيد على مسامعكم ما شاهده في العرض. ما أريد أن أوصله إليكم هو نبأ الكارثة التي من شدّة نشاطها في مدننا ألفناها وتعوّدنا على معايشتها، ولذلك فأنا أطرح السؤال التالي: ما الذي يوجد في اللحم الفرجوي لهذا العمل المسرحي؟ أن أستخدم كلمة اللحم فهذا أمر لا يدخل في باب الاستعراض اللغوي أيضا، ما حرّضني على ذلك هو تلك الجملة المسرحية التي قذفتها إلينا شخصية إسماعيل على نحو مبحوح: “يذبح الإنسان إلى جانب حيوان يتم ذبحه كقربان/أنا متأكد أن لحم الإنسان أشهى وأطيب ألف مرة من لحم الحيوان”. نعم، لقد تحوّل القربان في مدننا إلى قربان آدمي، هذا ما تفصح عنه المعتقلات التي تحوّلت إلى مسالخ للبشر فهرب منها إسماعيل بعد أن ادّعى الجنون، وبعد أن عايش الموت التعذيبي بوصفه “فنّ إمساك الحياة في الوجع، وذلك بتقسيمه إلى ألف موتة، مع الحصول قبل أن تتوقّف الحياة، على أشدّ حالات الفزع”، وليس إسماعيل هنا إلّا قوّة استحضار لأولئك الذين تمّ سلخ جلودهم في سجون القمع، وهذا ما يفصح عنه الفضاء العمومي الذي شُطِبَ فيه الإنسان نتيجة الحرب فهرب منه إسماعيل هو الآخر وعاد لاجئاً إلى حيث يعتقل الجنون في المستشفيات. “هجموا في اللحظة ذاتها على المرأة ومزقوها ثم بدؤوا بتوزيع جسدها قطعة قطعة”، ليس ثمة في الفضاء العمومي غير تشغيل القرم البدائي حيث يأكل اللحم نيئا وتنشأ الحاجة إلى وجود أوموفاجي!، ولهذا فإنّ الجنون الحقيقي ليس جنون إسماعيل، بل جنون العقل بوصفه مصنعا لتشغيل الوحوش.
لاحظوا مرّة أخرى، سأبدو كما لو أني أطوف بعوالم العرض ليس أكثر، كما لو أنّي أتخذ النص عكازا أتكئ عليه. ولهذا اسمحوا لي أن أسأل ثانية: كيف قدّ اللحم الفرجوي للعرض؟ كيف تمّ تشغيله فرجويا؟
فولتير القائل: “نحن لا نستطيع معرفة ما إذا كان الرجل الذي يأخذ الكلمة يستوحي أفكاره من العقل أو الجنون”
الآن سيجوز الكلام مسرحيا:
إذا كان ثمّة قربان على المسرح فهو الممثل، إنّه صيغة عليا عن القربان القديم، سيّد الركح وإلهه، ومن ثم فهو الوحيد الذي يصيّر فرجة العرض. إنّ ما نسميه تجاذباً بين الممثل والشخصية المسرحية لهو في حقيقة الأمر مسألة مهمّة في كل عملية إبداعية، لئن نجح في تحقيقه جلّ الممثلين، فقد توغّل في اختراقه الممثل رائد محسن، هذا الذي لم يبرح الركح طيلة اشتغال العرض، ضارباً بسكينه تحت جلد شخصية إسماعيل، وكاسراً لمستحيلات التمثيل بجعله تمثيلاً مضاعفا. التمثيل المضاعف يأتي على نحو بالغ التعقيد في هذا العرض، فبينما تلعب شخصية إسماعيل دورا تمثيلياً من خلال تقمصها دور المجنون وهي في الحقيقة شخصية عاقلة، يكون على رائد محسن لعب الدورين معا، وهذا ما يدفعه إلى الانسلاخ عن ذاته مرتين، الأولى بتقمصه شخصية إسماعيل، والثانية بالرحيل معها إلى مناخ الجنون. إنه يؤدي دوراً لشخصية هي الأخرى تؤدي دوراً تمثيليّا من داخل العرض، وهذا مقصودنا باختراق التجاذب بين الممثل والشخصية. سيتأكد لنا ذلك من لعبة الإخفاء والتمويه التي فرضتها الوضعيات الدرامية في العرض، إذ كلّما تأكدنا من جنون إسماعيل نجده قد انصرف إلى التنظير حول الجنون وتعريفه، وهو ما جعل الممثل رائد محسن يضطلع بمهمّة رسم الحدود ومحوها في الآن نفسه: الحد الفاصل والواصل بينه وبين شخصية إسماعيل، والحد الفاصل والواصل بين إسماعيل المجنون وإسماعيل العاقل: مهمّة أشبه بالمشي على شفرة السكين الحادّة لأنّها تغمّس الحقيقة في بحيرة الوهم.
ثمّة في المقابل مكر من حيث التشكيل البصري للعرض، هذا الذي جعل من ديكور العرض وأكسسواراته تضطلع بأكثر من وظيفة تأويلية، وذلك من حيث اختراق دوالها وتهشيم مدلولاتها، فالأسرّة ليست معدّة بشكل صارم لتكوّن أثاث المستشفى، إنما تتحوّل في نهاية العرض إلى مشانق، وحذاء الممرضة يتخطى كونه مجرّد حذاء من مهامه تشغيل الخطوات على نحو مّا، إنّما يمثّل وقعه استدعاء مريع لحفلات التعذيب في المعتقلات، والفوانيس المضيئة ما هي إلا ضرب من تشغيل الظلمات في ذاكرة إسماعيل أين كان جسده تحت التنكيل، والبالونات التي فجرها الممثلون بالقرب من إسماعيل ما هي إلا ترميز لانفجارات الحرب الدائرة رحاها في الفضاء العمومي، أما الطاولة فما هي إلّا كفن يقول بواقعة الموت في المعتقل أو في المستشفى: واقعة يسري تشغيلها فرجوياً من خلال الوجوه المقنعة تحت الرداء الأخضر فإذا بها علامة جذرية على فظاعة المسلخ البشري. تضطلع الإضاءة بمهمّة أخرى، هي في الحقيقة تقنية إحالة على المكان، من البيت إلى المستشفى ومنهما إلى المعتقل، ومنهم جميعا إلى المقهى أو الشارع فالمستشفى من جديد، ولكن يبدو أن أهمّ علامة مسرحية مروّعة في هذا العرض قد وردت من خلال المعطف الأسود الذي لبسه إسماعيل، إذ يعد تدليلاً صارماً على تغييره المكان، على خروجه إلى الشارع، ولكنّ المروّع أكثر هو اكتشافنا فيما بعد أنّ جلّ الأمكنة – التي كان فيها جوّابا وخائفا-، ما هي إلا أمكنة تخييلية تحدث في ذهنه، وهذا ما يجعل من العرض في مهمّة بتر الحقيقة وتشتيتها كعلامة جذرية على اصطفافه مع فكره الجنون.
الممثل رائد محسن يقوم بتمثيل مضاعف على نحو بالغ التعقيد في هذا العرض؛ إنه يؤدي دوراً لشخصية هي الأخرى تؤدي دوراً تمثيليّا من داخل العرض، وهذا ما يدفعه إلى الانسلاخ عن ذاته مرتين، الأولى بتقمصه شخصية إسماعيل، والثانية بالرحيل معها إلى مناخ الجنون.
نعود الآن إلى سؤالنا الأوّل: ما الذي يوجد في اللحم الفرجوي لهذا العمل المسرحي؟ ونضيف إليه سؤالا ثانيا: ما هو النبأ الذي يريد أن يوصله إلينا المخرج إبراهيم حنون؟
لا يتوجّب أن تكون الإجابة من خارج العرض، ولذلك يجب أن نلتقطها مثلما يُلتقط الشَّيب من ضفيرة الشعر الأسود. إنّها تلك الصرخة التي يسمعها إسماعيل من حين إلى آخر، صرخة الهلع المدويّة لإنسان تُطحن عظامه طحناً ويتمّ تهريبه إلى الموت على نحو بشع لا يطاق.
رُبَّ صرخة هي الآن تضطلع بوظيفتين. تنهض الأولى من مناخات نفسية وفلسفية حول مفهوم الجنون عينه، إذ كلّما علت هذه الصرخة إلّا وتحرّك الخوف مجدّداً في قلب إسماعيل وعاد إلى إدعاء جنونه أو هو جنّ فعلا، ولذلك فإنّ الخطاب التنظيري حول الجنون في هذا العرض له مبرراته الدرامية، ولذلك أيضاً فإنّ اللحم الفرجوي الذي نشاهده يمكن أن يكون مرجعاً لفهم أنواع الجنون وأسبابه التي منها الرعب والخوف، ولذلك أكثر، سيبدو خطاب فولتير القائل: “نحن لا نستطيع معرفة ما إذا كان الرجل الذي يأخذ الكلمة يستوحي أفكاره من العقل أو الجنون” أكثر وجاهة من كل خطاب آخر في فهمنا للعرض. كيف يمكننا الاطمئنان إلى العقل بعد أن أنتج جنونا عموميا؟
إنّ جنون إسماعيل في زاوية منه هو موقف من الفظاعة التي تحدث في الفضاء العمومي، وهنا ستنهض الوظيفة الثانية لهذه الصرخة بموقف ممّا يحدث الآن وهنا في مدننا العربية، المدن التي تكمم الأفواه وترفع رايات الحداد، والمدن التي تُقطع فيها الألسنة وتنعدم فيها حرية التعبير حيث تنشأ السجون المتلاصقة وتتحوّل إلى مسالخ بشرية، والمدن التي يتباهى فيها الشياطين بتكبيل الناس على ظهور الكاتيوشا، والمدن التي يحكمها الكلب سربروس، صاحب الأشداق الثلاثة، العوّاء الذي يعاوي الأحياء من فرط وحدته راغباً في تعذيبهم.
ربّ صرخة هي لا تقول ما يحدث الآن وهنا فقط، ولكنّها قوّة استحضار لألمنا القديم أيضا: ألم نذكر سلفاً ما قاله ميشال فوكو حول تشييد مستشفيات للمجانين في بغداد منذ القرن 12؟ كم من الكوارث مرّت بتاريخنا كي يخرج إلينا إسماعيل ويقدم إلينا هذا الجحيم؟ وهل ثمّة إسماعيل واحد وهو الذي شاهد أكثر من إسماعيل في الشارع؟ وهو الذي ظل ملاحقاً حتى في حالات جنونه؟ من أين يأتي هذا الرّعب المريع إلى ذاكرتنا؟ من طحن عظام الإله تمّوز الذي قتل شرّ قتلة؟ من موت أنكيدو القديم وانطفاء الخلود على وجه جلجامش؟ من جزّ الرؤوس في واقعة كربلاء؟ من زجّ المثقفين والمعارضين في السجون وتقطيع أوصالهم وطحنها تحت الإسمنت في المعتقلات؟ من سجن أبو غريب الذي قدّ بوجه جهنّم؟ من الحرب التي لا تنتهي؟ من القتلة الجدد الذين خرجوا من بطون الماضي ورموا بالإنسان في غدير الدماء؟
مرحبا، مرحبا بإسماعيل الذي جعل من الجنون الوجه الآخر للحرية مقابل أبديّة المعتقل.
خاص مجلة قناص
حاتم التليلي محمودي كاتب وناقد مسرحي من تونس، مهتم بالمسرح وفنون العرض. له العديد من المؤلفات من بينها: “أدونيس سورياليا”، “مسائل في اللاهوت المسرحي”، “الانقلاب الفرجوي: مذابح ديونيزوس”.