أزهر جرجيس وروايته «وادي الفراشات» إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية
حوار هدى مرمر
بعد بحث بطل «النوم في حقل الكرز» (2019) عن الأب في مقبرة أميركا الجماعيّة في العراق، فتّش بطل «حجر السعادة» (2022) طولًا وعرضًا عن الحظّ والحبّ في شوارع الموصل وبغداد أيام سيطرة الأمريكيين، لِيعود بطل «وادي الفراشات» (2024) إلى أصل الحكاية في حكم صدّام حسين: الطفولة المصروعة في مهد الرافدين.
بمناسبة وصول رواية «وادي الفراشات» الصادرة عن دار الرافدين في بيروت وبغداد إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (2024-2025)، أجرت الأستاذة هدى مرمر الحوار التالي مع الكاتب العراقي أزهر جرجيس.
***
– بدايةً، مبارك إصدارك الروائي الثالث، «وادي الفراشات»، ووصوله للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية. حدّثنا عن أصداء الرواية عند القرّاء والنُّقّاد. ما أكثر تعليقٍ طُبِع في ذهنك؟
شكرًا للتهنئة، بالطبع أنا سعيد بدخول الرواية ضمن سباق البوكر السنوي لما له من أهمية بالغة في تكريم النص وتسليط الضوء عليه ثم الوصول به إلى شواطئ القراءة البعيدة. كان لظهور “وادي الفراشات” ضمن اللائحة القصيرة للجائزة صدى طيب في أوساط القراء والنقاد على حد سواء، وما زلت حتى اللحظة أتلقى التهاني والأماني كما المراجعات والمقالات. من التعليقات التي طبعت في الذهن تعليق سيدة من بغداد تعاني من ذلك المرض، كتبت لي تقول: قبل شويّه خلّصت الرواية، ضحكت هواي وبچيت هواي، والحمد لله أني خلصتها الليلة، لأن باچر الصبح عندي جلسة كيماوي.. الله ينطيك العافية خفّفت عني.
– لديّ شعور بأنّ روايتك الثالثة، «وادي الفراشات»، مرتبطة بالروايتَين الأولى، «النوم في حقل الكرز»، والثانية، «حجر السعادة»؛ وكأنّها امتدادٌ لهما وجسرٌ بينهما، إن كان بالتقنيّة أو بالثيمات. ما رأيك بهذا التوصيف، وما مدى إصابته من ناحية رؤيتك لرحلتك الروائيّة؟
ربما الفقد الذي يعاني منه أبطالي هو ما جعلك تشعرين بذلك، فالقاسم المشترك بين سعيد وكمال وعزيز هو فقدهم المبكر للأحبة وما نتج عنه من فقدان للشعور بالأمان والطمأنينة، فتجدينهم على نحو ما أشخاصًا مشوّشين غير قادرين على اتخاذ قرارات صائبة تنجيهم مما حلّ بهم. كذلك التقنية المتماثلة التي اعتمدتها في السرد، مع ذكر الموت الدائم في حكايات الأبطال وحسهم الساخر من الوجود، كلها جعلت من الأمر يبدو وكأنه ثلاثية روائية موضوعها الإنسان العراقي، مع أنها ليست كذلك. فأنا أكتب عن الهم الإنساني بشكل عام وما يذره ظلم المجتمع من ضحايا على شاكلة كيمو وأخوته، دون اعتبار لزمان الوقائع ومكانها. هذا الصنف من “الضحايا” هم مشروعي الأدبي الذي أعمل عليه محاولًا أن يكون لهم صوت مسموع في عالم صاخب بالزيف والكذب.
– هل توافق بأنّ الجملة التي تبتدئ بها وادي الفراشات: «احتفظ بهم كي لا تقف عاريًا في الريح!»، هي جوهر الصراع العراقيّ بالخصوص، والإنساني بالعام؟
أجل، فهنالك معركة دائمة بين التمسك والفقدان تكلف المرء الكثير ما لم يحسن إدارتها. الإنسان كائن هش لا يستطيع الوقوف بوجه العاصفة ما دام وحيدًا، وهذا ما بدا واضحًا في حكاية عزيز عواد ومآلاتها. «احتفظ بهم كي لا تقف عاريًا في الريح». لقد أردت لهذه الجملة الافتتاحية القصيرة أن تكون خيطًا يربط مفاصل الرواية كلها، بدءًا من أول حالة فقد تعرض لها البطل في الصفحات الأولى حتى آخر حالة شهدت ضياع الابن فالزوجة. هذه الخسارات القهرية المتتالية، التي لم يحسن عزيز التصرف معها، كانت مصدر هشاشته وجعله غصنًا ضعيفًا قابلًا للكسر في مواجهة قدر عبثي ساخر.
– في «وادي الفراشات»، يعترض الموت والقدَر الساخر طريق بطلها، وعلى غرار الروايتَين السابقتَين، تزجّ به في عالمٍ تراجيديّ إغريقيّ تسخر فيه الآلهة من أحلامه وأبسط طموحاته. هل لذلك أسباب روائيّة دراماتيكيّة، أم هي نظرتك الحقيقيّة للواقع دون مواربة؟
لا أظن أن بمقدور الكاتب لجم رؤاه الخاصة في المسائل المطروحة داخل النص، بل ربما تقوده رؤيته في مسألة ما إلى طرحها كموضوع رئيس في الرواية أو دسّها بين السطور كحد أدنى. بالنسبة لي، أنا أنظر إلى الحياة بوصفها ساحة من المفارقات، حيث الحلم يصطدم بواقع قاس، وحيث القدر لا يُعنى بعدالة البشر ولا بأحلامهم. هذه الرؤية ليست مجرد أداة روائية، بل هي اعتقاد نابع من قناعة بأن العالم مكان عبثي، وأن المصائر تُحدَّد غالبًا بعيدًا عن رغبة الإنسان وجهده. في «وادي الفراشات» استحضرت اعتراضات القدر وسخرياته لما في ذلك من تماهٍ طبيعي مع سياق «المهزلة» التي يعيشها البطل عزيز عواد وأمثاله. هؤلاء «المگاريد» جاءوا إلى الدنيا بحظ منقوص، وليس من المنطق أن يتراجع القدر فيدلّلهم، ما لم يجدوا هم بأنفسهم طريقة للخلاص.
– في الفصول الأولى من «وادي الفراشات» غموضٌ وسخريةٌ واقعيّة، تتدرّج نحو العبثيّة التراجيديّة في منتصف الرواية، لتنتهي إلى واقعيّة سحرية وفانتازيا. علمًا بأنّ الجزء الأخير هو الأكثر متعةً ورمزيّةً، لمَ أردتَه أن يكون الأسرع والأقصر؟
لو نظرتِ إلى إيقاع الرواية، ستجدين أن البدايات متأنية، ذلك أنها تعكس واقعًا قابلاً للفهم، ثم تتسارع الأحداث مع ازدياد العبثية، لتنتهي أخيرًا إلى الفانتازيا كنوع من الذروة الحتمية. لقد آليت أن يصبح عالم عزيز عواد أكثر غرابة مع الاقتراب من النهاية، وأن تتلاشى الحدود بين الواقع والفانتازيا، مما يجعله، أعني البطل «وربما القارئ كذلك» منجرفًا في تيار كالحلم لا وقت فيه للتفسير أو التحليل الطويل. هذه التقنية تعكس كيف أن الواقع نفسه ينهار ويتحول إلى رموز مكثفة، تمامًا كما يحدث في الأحلام أو في لحظات الصدمة العاطفية الكبرى، حيث تبدو الأمور أكثر وضوحًا لكنها تمر بسرعة خاطفة. لهذا وذاك يمكنني القول بأن اختزال الجزء الأخير من الرواية لم يأت عبثًا، بل كان خيارًا سرديًا يخدم الرؤية العامة لها، كما أنه يُبقي على القارئ في حالة الدهشة والتأمل، بدلًا من أن يقع في فخ الاعتياد على الفنتازيا ولربما فقدان تأثيرها المرجو.
– في الثلث الأخير من «وادي الفراشات» ندخل إلى المطهر. هل الحبّ وحدَه ما أعاد بطلك إلى النور؟
لم يخل قلب عزيز عواد من الحب قط، فمن الأم إلى الخال فالمكتبة فالحبيبة والزوجة، لكنه قلب طاهر أكثر مما يلزم، جعل من صاحبه شخصًا متخبطًا ساذجًا لا يحسن التدبير. كان لعزيز أن يخون قلبه ويهجر شجرة الأحبة بدلًا من النظر إليها وهي تنزف الأوراق واحدة تلو الأخرى، كان له أن يدير المعركة بشكل أفضل؛ أن يعتبر «صبيح» شخصًا غريبًا ويتعاطى معه بالنديّة ذاتها فيحتفظ بحقه في بيت أبيه، وأن يترك صحبة «مهند» قبل أن يخون الأخير الصداقة ويرميه في أتون الخطر. حتى «تمارا»، اللائمة على الدوام، كان له أن يطلّقها ويضع حدًا لطوفان اللوم والاتهام بالتقصير. إلا أنه لم يفعل شيئًا من ذلك وظل مخلصًا للحب، بل حتى عندما خاب أمله فيهم وجد طريقًا للحب، أعني تلك الكائنات البريئة التي أمسى يلمّها من الطرقات والبساتين وأكتاف المزابل ليمنحها جنّة ملأى بالحب تدعى وادي الفراشات.
– في «حجر السعادة» كما في «وادي الفراشات»، هناك صورة أبويّة لرجلٍ مُلهم مختلف ومبدع من الزمن الجميل يساعد البطل على تحمّل عراق اليوم، ويُنير له صورًا عن عراقٍ أكثر جمالًا وتحرّرًا وأمانًا. لهذه الشخصية دور أساسي تنهار الرواية وحياة البطل دونه. بالتالي، حين نخسر مَن تبقّى من هذا الجيل، ما مصير الأجيال القادمة؟
هذا سؤال مهم برأيي، يمس جوهر التحولات الاجتماعية والثقافية في العراق والمنطقة عمومًا. أتفق تمامًا بأن الشخصية الأبوية، سواء في «حجر السعادة» أو «وادي الفراشات» جاءت ملهمة ومبدعة، ذلك لأنها ليست مجرد شخصيات روائية، بل رمزًا لذاكرة حية، جيل حمل القيم والجمال والإبداع وسط الخراب. جيل كان بمثابة جسر بين الماضي المشرق والحاضر المرتبك. لذلك أرى بأننا إذا افترضنا، حسب منطوق السؤال، أن هذا الجيل يختفي دون أن يترك إرثًا ملموسًا أو تواصلًا مؤثرًا، فالأجيال القادمة قد تواجه خطر فقدان البوصلة، حيث يغدو البلد صورة مشوشة بلا مرجعيات واضحة للجمال أو للحرية أو حتى للقدرة على الحلم. أجل، يمكن للأدب أن يكون أداة للحفاظ على هذا الإرث، ليس كشعور بالحنين فقط، بل كمصدر إلهام للأجيال القادمة للبحث عن قيم بديلة، وإعادة ابتكار ماضيهم لمستقبل أكثر إنسانية.
– ما الذي ألهمك لكتابة كلّ من أعمالك؟
الحياة والناس هي مصادر إلهامي. لقد عشت نصف قرن من الزمان، وهذه مدة كافية لأكون شاهدًا على ما حدث، سيما وأن ما حدث ليس حريًّا بالنسيان. ففي السابعة من عمري اشتعلت حرب تكفّلت بعمر الطفولة، ثم سلّمتني لحرب خاطفة خطفت حلاوة المراهقة وشوّهتها، ثم حرب ثالثة تمكنت من أيام الشباب وخرّبتها بالعوز والفاقة والتحسّر على ارتداء حذاء جديد. وما الحرب الرابعة إلا ضربة قاضية لما تبقى. لقد وقعت خلال أعمار الحروب هذه العشرات، بل المئات من الحوادث المؤسية التي ظلت ساكنة في خزان الذاكرة تلكزني بين الفينة والأخرى لإخراجها وتدوينها على السطح.
– نوّهَت الجائزة العالمية للرواية العربية برواياتك الثلاث التي وصلت لقوائمها الطويلة والقصيرة. ما أهمية الجائزة برأيك؟ ككاتب وكقارئ، ما الذي قدّمته لك الحائزة؟
للجائزة العالمية للرواية العربية أو ما يسمى بالبوكر العربي تأثير كبير على المشهد الروائي العربي. كان وصول رواياتي الثلاث إلى قوائمها الطويلة والقصيرة بمثابة شهادة تقدير مهمة، تعكس صدى هذه الأعمال وتُسهم في توسيع دائرة قرّائها، سواء داخل العالم العربي أو خارجه بعد الترجمة إلى لغات أخرى. بالنسبة لي ككاتب أرى أن الجوائز عمومًا ليست مجرد اعتراف نقدي، بل هي فرصة للتفاعل مع قرّاء جدد بما يحقق إيصال الصوت الأدبي إلى مديات أبعد. كما أنها تمنح صاحب العمل نوعًا من الدفع المعنوي للاستمرار في الكتابة، خاصة في ظل التحديات التي تواجه الأدب العربي، سواء من ناحية النشر أو التوزيع أو التلقي. أما القارئ، فالجائزة تُسهم في اكتشاف أصوات جديدة وأعمال غير تقليدية بالنسبة إليه، وفي كثير من الأحيان يكون ظهور الأعمال في اللوائح الطويلة أو القصيرة بمثابة توصية موثوقة، تُرشده إلى أعمال ربما فاته المرور بها. أما ماذا قدّمت لي الجائزة على المستوى الشخصي، فهي الفرص الاستثنائية في الانتشار، النقاش النقدي، والتواصل مع قرّاء ومترجمين ودور نشر. كما أنها جعلتني أكثر وعيًا بمسؤولية الكاتب تجاه نصه، وأهمية أن يحمل كل عمل جديد قيمة مضافة، سواء على مستوى السرد أو الموضوعات التي يتناولها.
– هل من مجموعة قصصيّة ثالثة بعد «فوق بلاد السواد» و«صانع الحلوى»؟ أم بات أزهر جرجيس يميل للرواية؟
بعد إنجاز الرواية الثالثة بت ميّالًا لهذا الجنس الأدبي وما يمنحه لي من مساحة واسعة لاستكشاف عوالم معقدة وممتعة في الوقت ذاته. الرواية توفر مساحة شاسعة للقول، ومرونة في حياكة المقالب والمنعطفات التي تمرّ فيها حياة الأبطال، قد لا تمتلكها القصة القصيرة. لقد اكتشفت بعد خوض التجربتين، أن لدي رغبة في تقديم رؤية أكثر شمولية مما تستطيعه القصة القصيرة. القصة فن يعتمد التكثيف العالي واللحظة الخاطفة، على خلاف الرواية وما تتيحه من مساحة زمنية ونفسية. لا أنكر أني أحببت كتابة القصة وكان لي فيها ما كان، غير أن حدودها تخنقني وتجعلني في بعض الأحيان كالأخرس؛ يرنو إلى السطور ويتحسّر القول.
أزهر جرجيس كاتب وروائي عراقي من مواليد بغداد، العراق، عام 1973. عمل صحفياً في العراق منذ العام 2003 ونشر العديد من المقالات والقصص في الصحف والدوريّات المحلية والعربية. ألّف كتاباً ساخراً عن الإرهاب، عام 2005، بعنوان «الإرهاب.. الجحيم الدنيوي». من مؤلفاته مجموعتان قصصيتان: «فوق بلاد السواد» (2015)، و«صانع الحلوى» (2017)، وروايته الأولى «النوم في حقل الكرز» (2019) التي ترشحت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية في 2020 وصدرت نسختها الإنجليزية عن منشورات بانيبال. وصلت روايته الثانية، «حجر السعادة» (2022)، إلى القائمة القصيرة للجائزة في دورة عام 2023. روايته الثالثة «وادي الفراشات» (2024) مرشّحة حاليًا إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية في دورة عام 2024. يعيش أزهر جرجيس حاليا في النرويج، ويعمل محرّراً أدبياً ومترجماً بين اللغتين العربية والنرويجية.
الكاتبة اللبنانية هدى مرمر

بالتوفيق دائماً أزهر الجميل