مساراتمقالات

صعود الرواية العُمانية في المشهد السردي العربي | عماد الدين موسى

لا غرابة، إذاً، أن تصل أعمال عُمانية إلى منصات الجوائز الكبرى، وأن يلقى الروائيون العُمانيون ترحيباً نقدياً وجماهيرياً واسعاً

صعود الرواية العُمانية في المشهد السردي العربي .. تجارب لافتة وحضور بارز

شهدت الرواية العُمانية في العقدين الأخيرين تحوّلاً نوعيّاً، انتقلت فيه من الهامش إلى فضاء سردي خصب، يفرض نفسه بهدوء وعمق على المشهد الثقافي العربي. هذه الرواية، التي تتكئ على موروث حضاري ثري ومكان نابض بالتحوّلات، لم تعد مجرد كتابة عن الداخل العُماني، بل غدت مساحة لاستبطان الإنسان وتاريخه وأسئلته الكونية. فقد برز عدد لافت من الكتّاب والكاتبات ممن انشغلوا بتجريب الشكل، واستنطاق الذاكرة، والتعبير عن قضايا اجتماعية وشخصية بلغة متأملة. هذا الحضور اللافت لم يأتِ من فراغ، بل من خصوصية فنية وتجريبية بدأت تترسخ وتُترجم إلى حضور جوائزي ونقدي كبير، جعل من الرواية في عُمان أحد أهم تمثيلات الأدب الخليجي الحديث، وأكثرها نضجاً وتنوّعاً على مستوى الشكل والمضمون.

كتابة من عمق الذات

في السنوات الأخيرة، أخذت الرواية العُمانية تفرض حضورها بهدوء وثقة على خارطة السرد العربي، حتى صارت من بين أبرز التجارب التي يُشار إليها في الخليج، بل وفي الساحة الثقافية العربية عموماً. لم تعد الرواية في سلطنة عُمان حالة هامشية، بل تحوّلت إلى مساحة سردية تتوالد فيها الأسئلة، وتتشكل فيها الهويات، وتتفتح فيها تجارب إنسانية عميقة تُعبّر عن المجتمع، وتشتبك مع التاريخ، وتتأمل الفرد في علاقته بالعالم.

لقد شهدت العقود الأخيرة نمواً ملحوظاً في الكتابة الروائية داخل عُمان، من حيث عدد الكُتّاب والكاتبات، وتنوّع الموضوعات، وجرأة الأساليب، وتعدّد المقاربات الفنية، وهو ما منح الرواية العُمانية خصوصيّتها التي لا تخطئها العين. هذه الخصوصيّة لا تنبع فقط من السياق الجغرافي والثقافي الذي تكتب منه الرواية، بل أيضاً من قدرتها على مساءلة هذا السياق ومواجهته بأسئلة فنية وفكرية معقّدة، تجعل من النص العُماني سرداً مُحمّلاً بالوعي، ومُتشبّعاً بروح المكان.

ولم يكن غريباً أن تتصدّر الرواية العُمانية أغلب الجوائز الأدبية البارزة في العالم العربي والخليج، بدءاً من جائزة البوكر، ومروراً بجائزة الدولة التشجيعية، ووصولاً إلى ترشيحات طويلة وقصيرة في مسابقات عربية مرموقة. هذا الحضور لم يكن مجرد تتويجٍ عابر، بل هو انعكاس لعمق التجربة الروائية العُمانية، وإشارة إلى أن ما يُكتب هناك أصبح يستحق الإصغاء النقدي والمتابعة الجادة.

وفي هذا السياق، يأتي خبر وصول رواية «بوصلة السراب» للكاتب أحمد الرحبي لقائمة الـ(18) لفئة الرواية المنشورة في الدورة الحادية عشرة لجائزة كتارا للرواية العربية، الذي أعلن عنها مؤخراً.

اللغة بوصفها أداة كشف

ضمن الفضاء السردي الذي تنسجه رواية «بوصلة السراب»، تتجلّى خصوصية الأسلوب لدى الروائي أحمد الرحبي بوصفها واحدة من أبرز نقاط القوة الفنية في العمل. ليس الأسلوب هنا مجرد وسيلة لنقل الحكاية، بل هو الكيان الحيوي الذي يمنح النص نَفَسه وفرادته، ويجعل من اللغة نفسها كائناً حيّاً ينبض بجماليات متقنة، ويتحوّل إلى صوتٍ داخليّ للمكان والشخصيات في آن.

يكتب الرحبي بلغته كمن ينقّب في تربة الأرض بحثاً عن جذرٍ نسيه الناس، أو كمن يعيد رسم ملامح قريةٍ بالكلمات، فيهبها الحياة من جديد. ما يبدو بسيطاً في الظاهر، هو في العمق بناء دقيقا لعبارات متأنّية، تحاكي إيقاع الطبيعة، وتُراكم الصور والظلال والمجازات بحسّ شعري داخلي، لا يبالغ، ولا يتكلف، بل ينساب في نبرة هادئة محمّلة بعذوبة وخفاء.

تنبني الرواية على لغةٍ مشهديّة تحتفي بالتفاصيل الصغيرة: لكل عشبة ظلّ، ولكل بيت ذاكرة، ولكل نَفَسٍ في المكان أثر. يكتب عن المزارع المهجورة والبيوت الطينية المتداعية بعبارات تستحضر الماديّ والمعنوي في آن، فتغدو النخلة العجوز صورة لزمن ذابل، ويصير الخراب بوحاً طبقيّاً وشاهداً على قسوة التاريخ.

يتقاطع الجمال اللغوي مع البنية الرمزية للنص، إذ تمتلئ الرواية بتشبيهات مرئية ومقاطع وصفيّة مشبعة بالشجن، وتذكّر بأساليب الرواية الحديثة التي تدمج الشعر بالسرد، والحوار بالتأمل. ثمّة اقتصاد لغوي مدروس، يُقابله اتساعٌ فيما يوحي به النص، وكأن الجملة الموجزة تفتح باباً واسعاً لتأويلٍ لا ينتهي.

بهذه اللغة المتأملة، ينقل الرحبي القارئ إلى قلب التجربة، فلا تكون الرواية وثيقة عن حياة فتى في قرية، بل تكون مرآة للغربة والانتماء، للذكورة والسلطة، وللحب الذي يتسلل من بين الأسوار الثقيلة، ويعيد تعريف المعنى.

زخم الأصوات النسائيّة

ضمن المشهد الروائي العُماني، يبرز حضور لافت ومتصاعد للأصوات النسائية، وقد شكّل هذا الزخم تحولاً نوعيّاً في مسار الرواية داخل السلطنة. لم تعد الكتابة النسوية العُمانية تكتفي بإثبات الذات أو كسر التهميش، بل أصبحت رافداً إبداعياً غنيّاً يُسهم بعمق في تشكيل الوعي السردي وتوسيع أفق الحكاية.

يتقدّم هذا الحضور على مستويات متعددة: جمالية اللغة، وجرأة التناول، وتعدد مستويات السرد، والانفتاح على الذات والعالم معاً.

في طليعة هذه التجارب تقف جوخة الحارثي، التي استطاعت أن تفتح باب العالمية أمام الرواية العُمانية، حين حصدت جائزة «المان بوكر الدولية» عن روايتها «سيدات القمر» بترجمة مارلين بوث، فبات اسمها مرادفاً للنقلة النوعية التي عاشها الأدب العُماني في العقد الأخير. سردها لا يعيد فقط تركيب الماضي الاجتماعي للمرأة، بل يمنح الشخصيات أنفاساً فردية، ويُدخل القارئ في نسيج نفسي معقّد ومتشابك.

أما هدى حمد، فصوتها يأتي مختلفاً بنبرته الهادئة، المحمّلة بقلق داخلي، إذ تكتب عوالمها بلغة مشبعة بالحساسية والشفافية، وتصوغ حكايات شخصياتها على تماس دائم مع الانكسار والحنين، لتمنح النصوص نكهة خاصة لا تشبه غيرها.

من جهتها، تكتب بشرى خلفان برؤية تُعانق الأسطورة والواقع، وتُعيد تشكيل الأمكنة والوجوه بعين مفتونة بالتفاصيل، وقد تُوّج هذا التميّز بجائزة مرموقة مثل «كتارا» عن روايتها «دلشاد»، التي قدمت فيها لوحة سردية مكتنزة بالأزمنة والعوالم والهويات.

هذا التنوع في الأصوات النسائية، بين الذاتي والتاريخي، الواقعي والمتخيل، جعل من الرواية العُمانية فضاءً غنيّاً يُسهم في إعادة تشكيل صورة المرأة، لا بوصفها موضوعاً سرديّاً فقط، بل باعتبارها كاتبة لرؤيتها ومصيرها، وصانعة لخطاب فني آخذٍ في الاتساع والنضج.

زهران القاسمي.. سارد العزلة

من بين أبرز الأصوات الروائية العُمانية التي رسّخت حضورها على مستوى عربي واسع، يبرز اسم زهران القاسمي، الذي مثّل تتويجه بجائزة الرواية العربية البوكر لعام 2023 عن روايته «تغريبة القافر» لحظة فارقة في تاريخ السرد العُماني.

القاسمي، الذي جاء إلى الرواية من عوالم الشعر، يكتب بعينٍ مرهفة وحساسية عالية تجاه المكان والطبيعة، متّخذاً من الماء -في تجلياته المادية والرمزية- محوراً سردياً ومفاتيح تأويلية تنفتح على أبعاد اجتماعية وفكرية وروحية عميقة.

في «تغريبة القافر»، يتحوّل «القافر» إلى شخصية تكتنز الهامش وتعيد إنتاج المركز من موقعه الهش، وتغدو المياه الجوفية والفلج والينابيع رموزاً لنظام حياتي وثقافي مهدّد بالانقراض، حيث ينهض السرد على تماسّ بين البيئي والأنثروبولوجي، متجاوزاً التقاليد الواقعية إلى كتابة تتأمل الزمن وتستنطق الكائنات والمعالم والطقوس.

يكتب القاسمي بلغة رائقة، تتراوح بين التكثيف الشعري والنثر الوصفي، وبناء سردي يعتمد على تدفق الحكاية في مسارات متشعبة، تعكس غرابة الواقع أكثر من محاكاته.

تميّز زهران القاسمي لا يأتي من خصوصية لغته فقط، بل من قدرته على تحويل التفاصيل المحلية إلى عناصر كونية، ومن استثماره للتجربة العُمانية في بعدها القروي والروحي بطريقة تمنح السرد طاقة تأملية وعمقاً فلسفياً نادراً.

لقد جعل من «تغريبة القافر» نصّاً خارج التصنيفات المألوفة، تستدعي قراءات متعددة، وتضع الرواية العُمانية في صدارة المشهد العربي، من دون أن تتخلى عن جذورها الأصيلة.

من المحلّي إلى الإنساني

لقد تجاوزت الرواية العُمانية، حدود النشوء والمُراوحة، لتغدو واحدة من التجارب السردية اللافتة في العالم العربي. هذا التقدّم لم يكن وليد صدفة أو مدفوعاً بضوء عابر، بل جاء ثمرة تراكمات إبداعية وجمالية، وتجارب فردية شقّت طريقها بصبرٍ وإصرار.

ما يُميّز الرواية في سلطنة عُمان هو انفتاحها على محيطها الجغرافي والثقافي، وقدرتها على تحويل التفاصيل اليومية إلى مادّة حكائيه متخمة بالدلالات والرموز، ما منحها هُويّة فنية خاصة داخل المشهد السردي الخليجي والعربي.

كما أن تنوّع الأصوات الروائية، وخصوصاً زخم الحضور النسائي، أسهم في إثراء هذا المشهد، ورفده برؤى جديدة تتقاطع فيها التجربة الشخصية مع الهمّ الجماعي، ويتلاقى فيها الواقعي مع التأملي، والمحلّي مع الإنساني.

لا غرابة، إذاً، أن تصل أعمال عُمانية إلى منصات الجوائز الكبرى، وأن يلقى الروائيون العُمانيون ترحيباً نقدياً وجماهيرياً واسعاً.

فالرواية العُمانية تكتب اليوم من داخل أسئلتها، ومن قلب تحوّلات مجتمعها، ولكن بوعي فني قادر على تجاوز اللحظة، والذهاب بعيداً في التأمل والبناء الجمالي. إنها كتابة لا تسعى إلى تمثيل المكان فقط، بل إلى إعادة تخييله، واكتشاف الإنسان من عمق الذاكرة إلى أفق المعنى.

هذه المكانة المستحقة التي بلغتها الرواية العُمانية ليست مجاملة، بل اعتراف بإبداع حيّ، يُصغي إلى نبض الأرض ويحوّله إلى حكاياتٍ تسكن القارئ وتُوسّع مداركه.

*****

الكاتب السوري عماد الدين موسى

خاص قنّاص – مقالات

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى