أهوى الهوى كتابمكتبة بورخيس

الشِعر في مرمى دُعاة الحريّة | عماد الدين موسى

الشاعر الفلسطيني أنس العيلة والإيقاع المتناسق لتتابع الصور في مجموعته الجديدة «مُهروِلاً على ساقٍ واحدة»

قراءة في مجموعة « مُهرولاً على ساقٍ واحدة » للفلسطيني أنس العيلة: الشِعر في مرمى دُعاة الحريّة

في المجموعة الشِعريّة الجديدة « مُهرولاً على ساقٍ واحدة »، الصادرة حديثاً عن دار النهضة العربية في بيروت 2023، والتي تأتي بعد: ضيوف النار الدائمون (بالاشتراك مع شعراء آخرين 1999)، مع فارقٍ بسيط (دار فضاءات، عمَّان 2006)، عناقات متأخِّرة (دار لارماتان، باريس 2016)، يضعنا الشاعر الفلسطيني أنس العيلة، في مَشاهِد متحرِّكة لصورٍ مليئة بالتراجيديا؛ عن المآسي اليومية التي يعيشها الإنسان، فيفك عنها الطلاسم والألغاز ويحاول حصر دفقها علينا مستهجناً، فلا نخاف ونَجْبُن ونُباعَ في المزادات العلنية: ماذا نفعل بحلمٍ تحقَّق أخيراً، جالباً معه غباراً من الأمس وحاملاً في يده حبَّةَ دواءٍ قديمة… بطَلَ مفعولها!.

سنفعل؛ (ماذا) الاستفهامية الاستنكارية هنا، هي للهزء والتحريض، فلا نقضي على كينونتنا امتثالاً لرغبة مَنْ يحكمنا. ماذا- عند الشاعر أنس العيلة في هذه الصورة متحيِّزة للحرية، فلا تبقى الأنا الإنسانية صامتة محكومة بالخوف والخنوع، فقوَّة الإنسان هي في انفعالاته وتأملاته وبقلبِ ماذا الاستفهامية إلى (لماذا) الاحتجاجية المتمرِّدة، يقول: أركلُ العالمَ، لا مرمى أمامي ولا حَكَم يَصْفِر، ولا جمهور يقفز في الهواء، أركله بملوكه وعبيده، بأسفاره المقدَّسة، وطوائفه، ووصاياه العابرة للأجيال.

خطوط وألوان وأصوات

الشاعر أنس العيلة في صوره المتلاحقة في « مُهرولاً على ساقٍ واحدة » هناك قوة صهرٍ ومزجٍ بين إحساسه بالفواجع وبين موقفه منها. أنس يكتب قصيدته بتركيبة وإنْ من الألفاظ اللغوية، لكنها تحيلنا إلى صورٍ هي مثل اللقطات السينمائية، وبكثير من التوازن والتناغم والانسجام بين مكوناتها، فالخيال عنده هو الذي يصوِّر الجمال والقباحة كطرفين متضادين متصارعين، كان خيالاً سياسياً عن سرقة حقوق الإنسان، أو جغرافياً عن سرقة المكان: الجدارُ الذي لم يمنع هواء البحرْ، ولا رطوبة آب، ولا النوارس التائهة… يقفُ طويلاً  في الحلق، يبتلعُ النهار الضروري للخيال، ويقسمُ الحاضرَ إلى زَمَنيْن مُخْتلفيْن.

صور أنس العيلة (من مواليد قلقيليّة 1975)؛ ذات أشكالٍ من خطوط وألوان وأصوات؛ صورٌ مُدهشة، وإن كانت من عمارة لغوية، كما أسلفنا. فهناك مُثيرات حسِّية تتحكَّم وتصنع صوره، لكنَّها صورٌ عقلية، ومن قسوة الشرط الحياتي الذي يعيشه الإنسان ستراها قد صارت صوراً سوريالية- ما فوق الواقع، وأنَّ عنوان الديوان سوريالي؛ يهرول وبساقٍ واحدة؛ وكأن الشاعر العيلة يكتشف وقائع بَادَتْ ولكنَّ صلاحيتها ما تزال مستمرَّة، وهذا ما يثير استغرابه واستهجاناته؛ بل وتحديه: ستسقطُ أسماءٌ على الأرصفة، سَترسُو قوارب في قاع المحيطات، سيبولُ رجالٌ في أَسِرَّتهم… لكنَّها شدَّةُ الأَلم، وقوَّة الصراخ، ما سيضيءُ أرواحنا من جديد.

لقطات سينمائيّة

في مقطعه «مشهد متحرِّك في متحف» يُلاحق الشاعر أنس العيلة ذاك الأعرجَ الذي يرافق امرأةً بعينين زرقاوين وهو يصوِّر مشيتهما، فيضعنا أمام لقطاتٍ هي أقرب للسينما، وإن كان يصورها بالملفوظات، فالعين تقرأ وترى ذاك النسق السيمائي الذي لا يتعارض مع النسق الدلالي حين تشغلك، تشغِّل المُشاهِد مِشية الأعرج والمرأة، تشغل فكره وخياله أكثر ممَّا تشغله لوحات الرسَّام الانطباعي فان غوغ، الذي جاء ليتفرَّج عليها.

أنس العيلة المقيم في باريس، يشغِّلُ في هذا المقطع الصورة- المجهودَ الفلسفي، هو مجهودٌ نظري يُشغِّل المجهود الفلسفي ليعثر القارئ، أو ليصل إلى خلاصة الحكاية المغمَّسة بالمآسي اليومية لامرأة ترافق؛ تحب رجلاً أعرج، بحيث أنَّك: لن تحيل الأمر إلى معادلات الحُبّ الطبيعي المُتبادل، ربَّما عليكَ الإقرار يوماً أنَّ أعرجَ بقميصٍ أسودَ بسيطْ، وألقٍ حقيقيٍّ خافِتْ…يمكن أن يملكَ ما تحلمُ به دون شريكٍ وبلا منازع!

صورٌ مليئة بالتراجيديا

لا تنظير في أشعار العيلة، ثمَّة مواطن قوة في النفس الإنسانية يضرب عليها فيُشعِل ويُشعِّل عملية التفكير في متنٍ فلسفي، فتتواتر الأفعال ونشاط الحواس، وترى الانفعالات النفسية والعاطفية قد ملأت شعره، ملأت الشعر بالصور من أوَّل قصيدة في الديوان «فاترينة للتّحف القديمة» وحتى آخر قصيدة «دوائرُ الحُب العشر»، ونحن في إيقاع متناسق لتتابع الصور المؤلمة، الصور المليئة بالتراجيديا الشعورية التي لا تنفجر، لا يفجِّرها أنس العيلة لتبقى سخريته، استهجاناته من لا معقولية الصور التي يرسلها في حركةٍ وديمومة، لأنَّه يُجسِّد ما يشعر به؛ يجسِّد إحساساته، رؤيته الفلسفية تجسيداً مادياً: المُحتدِمون… يحلمون بعدالةٍ اجتماعيِّة دون احتكار أو اختلاس، ودون تضخُّمٍ في الجيب أو في الكرش، لا يطالبون بحظوظٍ متساوية في الحب، وسنين العمر واليانصيب، فهذا من شأن الرب، لكن أمام المكاتب الإدارية على أبواب الوزارات، حيث تتكدَّس الأجسادُ على النوافذ! يحلمون بشبكةِ مواصلاتٍ عامة، بأسعارٍ واضحة كالأسماء وأعياد الميلاد… وأجورٍ تليق بآلام الظهر والأوجاع السريَّة.

الشاعر أنس العيلة في مجموعته الشِعريّة « مُهرولاً على ساقٍ واحدة »، التي جاءت في 80 صفحة من القطع المتوسط، وإنْ كان سوريالياً في صوره، فإنَّما كونه يرى بعينين اثنتين، وإنْ هرولَ بساقٍ واحدة، فيأخذنا بخياله من التجريد إلى الاختراق، فتصير أشعاره تجليات، فلا ظلال، ولا أطيافَ يتخفَّى فيها الشبحُ الأشباحُ- المُشبِّحون، ذلك حتى لا نمارس القمعَ، أو يمارسه علينا دُعاةُ الحريَّة.

أنس العيلة: شاعر فلسطينيّ من مواليد قلقيليّة 1975، يقيم في باريس. حاصل على بكالوريوس لغة عربية ودبلوم صحافة من جامعة بيرزيت 1998، ثم أكمل دراساته العليا في فرنسا في مدينة ليون. حصل عام 2012 على جائزة Les journées Brautigan في فرنسا عن مجموعته الشعريّة “مع فارق بسيط” التي صدرت بالفرنسيّة بترجمة من الشاعر المغربيّ محمد العمرواي، وقد وصلت إلى طبعتها الرابعة. يكتب مقالات في الصحف الأدبيّة وبحوثا أكاديميّة باللغتين العربيّة والفرنسيّة. عمل مع موسيقيين فلسطينيين وعرب، منهم الموسيقي محمد نجم، ولحُّنت العديد من قصائده. وعمل مديرا فنيّا لمهرجان شعريّ بالتّعاون بين المركز الثقافيّ الفلسطينيّ وبين معهد العالم العربيّ وبيت الشعر الفرنسيّ في باريس. يعمل حاليا مُحاضِرا جامعيّا، ومسؤولا عن قسم اللغات الساميّة في مكتبة جامعة باريس الثامنة. صدر له: “مع فارق بسيط، دار فضاءات، عمان 2006″، و”عناقات متأخرة، دار لارماتان، باريس 2016″، مُهرولاً على ساقٍ واحدة 2023.

***

« مُهرولاً على ساقٍ واحدة ».. الشِعر في مرمى دُعاة الحريّة؛ بقلم عماد الدين موسى

اقرأ أيضا:

قصائد للشاعر الفلسطيني أنس العيلة: نصوص شعرية من مجموعة « مُهرولاً على ساقٍ واحدة »

الشاعر والأديب الكردي السوري عماد الدين موسى

مُهروِلاً على ساقٍ واحدة

خاص قنّاص – أهوى الهوى كتاب

المحرر المسؤول: زاهر السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى