لنبدأ من حيث توقفنا آخر مرة
عندما عدت إلى سورية، كانت كما غادرتها منذ اثنتي عشرة سنة. وصلتُ العاصمة في صباحٍ مبكرٍ منعشٍ، وغادرتها عند مشارف المساء في رحلة ليل كاملةٍ نحو الشرق، مارّاً بالأحياء التي رأيتها آخر مرة على جانبي مخرج البانوراما مُسوّاةً بالأرض، كانت هذه المرة طافحة بالأبنية المتلاصقة نفسها والبشر والأصوات.
غادرتُ الحافلة في ساحة المدينة الصغيرة، ومشيت متجهاً إلى بيتنا عابراً الاستيقاظ الصباحي لناسها، كأنهم كلهم لا يزالون هنا منذ طفولتي: معلمات الابتدائي، مدّرس الرياضيات البدين في الثانوية، وجوه كبرت لأطفالٍ لعبتُ معهم الكرة في الشارع وأخرى تعاركت معها بالأيدي، بائعو خضار لا يزالون يبيعون على عربات بدواليب تحت شمسٍ تحمى مع توغل النهار.
البيت لم يتغير، كان فقط أصغر. وضعت المفتاح، الذي ظننت أنني رميتُهُ في بحر بعيد، في قفل بابه وأدرته فانفتح. وجدت أمي، التي رحلت بغيابي، جالسة على طاولة المطبخ، تمارس صباحها الذي اعتادته: الاستيقاظ باكراً، إعداد خبز التنور، تناول الافطار وحيدة. كان هذا طقس تأملها الصباحي الخاص، والذي تختمه باستيقاظنا ومراقبتنا نتناول الفطور دون أن ننتبه لها.
كنت قد علمت بوفاتها من رسالة على الماسنجر. الرسالة التي لم أصدقها تماماً. أقنعت نفسي أول الأمر أنها ربما غابت احتجاجاً على ما يجري، وأنها ستعود عندما يعود الأوكسجين إلى الهواء.
تخيلتُ أنها غادرت مؤقتاً إلى حلم حياة لطالما تحدثت عنه ولم تعشه، تطعم فيه تحت شمس شتوية دافئة دجاجات وحملان بيضاء، وتقطف فاكهة من أشجار بروائح سكرية، وتجلس على عشبٍ أخضر، وتأكل من زوّادة قطنية مزهرة مفروشة أمامها. كان حلمها طيف حياة عاشتها في طفولة بعيدة قبل أن تتحول البلدة الريفية الصغيرة إلى مدينة اسمنت ضيقة.
عندما جلست أمامها..
لم تسألني عن غيابي، كأني عدت للتو من إحدى غيباتي السابقة الصغيرة.
ولم أسألها عن غيابها، كأنها عادت بالأمس من بستان حلمها.
فقط جلسنا بهدوء وابتسمنا لبعضنا، وبدأنا الحديث من حيث توقف آخر مرة.
جسد السرد: لنبدأ من حيث توقفنا آخر مرة؛ بقلم بهجت المصطفى
بهجت المصطفى؛ كاتب سوري يُقيم في ألمانيا













