حكاؤو السكة الحديد
عرضت قصة حكاؤو السكة الحديد كمسرحية عام 2020، في حديقة غابة كيميربورجاز بإسطنبول، وهي من أروع القصص التي كتبها الأديب والروائي التركي الكبير أوغوز آتاي( 1934-1977)، ويعد من أعلام الأدب التركي الحديث، ولد في بلدة اني بولو بكاستنامو، وتخرج من كلية الهندسة المدنية في جامعة إسطنبول التقنية عام 1957. ثم التحق بالجيش، وبعدها عمل كموظف صيانة وإصلاح في مَرسَى كاديكوي. بعد ذلك عمل بالتدريس بأكاديمية إسطنبول للمعمار والهندسية، والتي تعرف الآن بجامعة يلدز التقنية. بدأ في نشر كتاباته في عدة صحف. ترك أوغوز آتاي عدداً من الروايات التي تركت بصمة في الأدب التركي.

***
كنا ثلاثة حكّائين نعمل بمحطة سكة حديد بقرية على سفح جبل، وبعيدة عن المدن الكبرى للبلاد. كانت أكواخنا الثلاثة متلاصقة، ومجاورة لمبني المحطة. كُنتُ أنا، وشاب يهودي، وامرأة شابة، نعمل باعة حكايات جائلين. لم يعد عملنا مزدهراً كما السابق؛ بسبب عدم مرور القطار بمحطتنا بانتظام. وكذلك لا يمكن قول إننا كنا نعمل بشكل جيد في الأيام التي كانت تمر فيها قطارات البريد؛ لأن بيع التفاح، والعيران (يشبه اللبن الرائب)، والخبز المحشي بالسجق كان يلقى رواجاً أكثر في قطارات البريد التي تصل بعد الظهيرة. عادة كنا -نحن الحكاؤون- ننام في هذا الوقت، نستريح استعداداً لليل؛ فكل آمالنا كانت معلقة على قطار «الإكسبريس» الوحيد الذي يمر بعد منتصف الليل. وفي الوقت عينه، غالباً ما كان يعجز الباعة الجائلين الآخرين عن الاسيقاظ والمجيء في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل. وكذلك نحن أيضًا، أحياناً كان قطار «الإكسبريس» يمضي في جنح الليل، ونحن نغط في النوم. من حسن الحظ، أن علاقتنا بناظر المحطة كانت طيبة، ولكن لسبب ما -هذا الموظف الوحيد المتبقي في المحطة- كان يهمل إيقاظنا معظم الوقت. ومع ذلك كنا نلتمس له العذر؛ لأنه كان مسؤولاً عن تحويل القضبان، ومباشرة التلغرافات، وتنظيم كل الإشارات، وقطع تذاكر القطارات، وفتح الأبواب وغلقها، كانت كل هذه كانت المهام منصبة على عاتقه.
كنا نهديه قصصاً لكسب وده، ولكنه رغم ذلك، ينسى مجدداً أن يوقظنا. كنا مجبرين على إيقاظ أنفسنا بأنفسنا دائماً. كما أن قضاء اليوم كله في كتابة الحكايات، يبرز مدى صعوبة عملنا. نعم، كنا ننام حتى العصر، وعادة ما كان ينزل علينا الإلهام وقت الغروب، بل ويلازمنا حتى آخر الليل، وكأنه «يمسك بياقتنا». كان ناظر المحطة يسخر من كلمة : يمسك بياقتنا. أما نحن فكنا ننتقده بشدة، لعمله بمفرده، وغض الطرف عن عجزه عن القيام بجميع المهام وحده، بل ونقول له: «هل مجيء ناظر المحطة إلى أكواخنا -عند وصول القطار السريع- هو أمر شاق؟». كنا نعتبر أنفسنا موظفين وزملاء له في نفس المكان، وفي بعض الليالي، كنا نعيد كتابة الحكايات التي كتبناها بأيدينا على الآلة الكاتبة الوحيدة الموجودة في غرفة ناظر المحطة، كان يمضي بنا الوقت، حتى ننسى تناول الطعام. كان يسمح لي أصدقائي أن أبدأ بالكتابة على الآلة الكاتبة، لكوني الأقدم في المهنة، ولكنني عادة ما كنت أتنازل عن دوري إلى الشاب اليهودي النحيف والمريض، كنت أحبه للغاية.
نعم ، كنا نُعتَبر من موظفي إدارة السكة الحديد، بُنيت أكواخنا في ساحة منفصلة، ولكنها تابعة للمحطة، صممت كلها على نفس الطراز والخصائص المعمارية للمحطة. كان ناظر المحطة يقول لنا مبتسمًا: «الحكاؤون الموظفون». وبعدها كان ينشب ذلك الجدال الذي لا يتوقف، فنحن لا نعتبر أنفسنا موظفين؛ لأننا كنا نكسب أجورنا بالمرة والقطعة. وعلاوة على ذلك؛ لم يكن هذا الأجر رسمياً، لأننا كنا نتقاضاه من قِبَل مسافري القطار السريع. كان ينعتنا ناظر المحطة بإننا «حكاؤون تجار». في الأصل، لم يكن يروق لي تصنيفنا كتجار أو موظفين؛ لأننا ببساطة كنا فنانين، وينبغي أن يكون وضعنا مميزاً. ولا يمكن أن نعتبر «وضعنا مميز»، بينما نحاول جذب المسافرين إلى بضاعتنا، مزاحميين بائعي العيران، والتفاح، والخبز المحشو بالسجق في الليالي التي يسهرون فيها. كنا نصرخ كسائر الباعة للترويج لحكاياتنا؛ بالطبع لم يكن صوت الشاب اليهودي يخرج بقوة من حنجرته، أما المرأة الشابة، فكانت تُحشر بين باعة الأطعمة والمسافرين النازلين على رصيف المحطة. أصلاً، لم يكن لدينا الكثير من البضاعة لبيعها؛ لأننا كنا ننسخ نسخة أو أثنتين فقط من كل حكاية على الآلة العتيقة لناظر المحطة. كانت النسخ الأخيرة لحكاياتنا باهتة الحبر، ولم يكن زبائنها كثيرين. هل كانت تَقْدَم الحكايات لعدم بيعها -من أول أو ثاني مرة- فلا تجد زبائن لها؟!؛ لأننا كنا نكتب قصصاً تتناول مواضيع يومية، وعندما نعطيها للمسافرين -بعد انقضاء «موضتها» قصيرة المدى- يقولون لنا وهم عابسو الوجوه: «نحن نعرف هذه القصص، ألا توجد أخرى جديدة؟»، ثم يطيحون بها في وجوهنا. وبهذا الشكل، كنا نتنازل عن أماكننا لبائعي التفاح والعيران.
كانت تواجهنا تحديات أخرى: مثل عدم وقوف القطار بانتظام أمام أكواخنا؛ لأن ناظر المحطة كان يوقف قطارات الأحمال الثقيلة عند الرصيف الأول معظم الوقت، فيضطر قطار «الإكسبريس» إلى الوقوف عند الرصيف الثاني أو حتى الثالث (لو كان بإمكاننا أن نطلق عليه رصيفاً). بالإضافة إلى تجمهر باعة المأكولات هناك؛ لأنهم كانوا على علم مسبق بذلك. أما نحن، فكنا دائمًا ما نستيقظ في آخر لحظة، ونصطدم بعربات الأحمال الثقيلة ونحن في عجلة من أمرنا؛ بسبب النعاس الذي يثقل جفوننا، بل ونضطر إلى الدوران حول عربات القطار، والمرور من على القضبان -بحذر- في عِزّ الليل. لم يكن المكان الذي يقف فيه القطار إضاءته جيدة، وهذا الأمر تحديداً، كان غاية في الأهمية بالنسبة لنا؛ لأنه ببساطة كان يؤثر على بيع قصصنا الملفوفة بداخل السلال. فكان كل مسافر يفتح لفافة الورق -مكرمشاً إياها- ويلقي نظرة عليها، ولكن كان الظلام يُضيّق الخناق على عملنا؛ لأن المسافرين كانوا يعيدون لنا الحكايات بعدما يلقون نظرة خاطفة عليها، لعدم رؤيتهم لسطورها بوضوح.
لم يكن البيع يسير جيداً؛ كنا في سنوات الحرب، وكان الخبز باهظ الثمن، ودائماً ما تطفأ الأنوار بسبب الغارات، ولم تكن الأنوار الخافتة للمحطة كافية لتنير قصصنا بشكل تام. كان يفقد العمل معناه في مثل تلك الليالي، التي كنا نحاول فيها كتابة حكياتنا القصيرة مجهولة المصير، خلف الستائر السوداء المنسدلة –بإحكام- على نوافذنا، وتحت أنوار المصابيح التي غلفناها بورق أزرق. لكن كان يبعث الله لنا مسافرين من عربة النوم، يدفعون لنا ضعف السعر، دون أن يتفقدوا البضاعة التي يأخذوها منا، فقد كانوا لا يبالون بالباعة القذرين للتفاح، والعيران، والخبز المحشو بالسجق؛ لأنهم يتناولون طعامهم في مطعم القطار. فقد ذاع صيتنا وسمعوا عنا؛ لأننا كنا المحطة الوحيدة التي تبيع قصصاً جديدة و«طازجة» في البلاد بأسرها. كنا نخصص لهم النسخ الأولى، ومع ذلك كانوا زبائن يصعب إرضاؤهم. كان تركهم لسرائرهم المريحة واستيقاظهم بعد منتصف الليل لشراء الحكايات أمر صعب، ولكننا وجدنا حلاً سهلاً لهذه المشكلة؛ كنا نطلب من موظفي عربة النوم إيقاظ المسافرين عند الوصول إلى محطتنا، وذلك مقابل دفع بضعة قروش لهم (إلى جانب إعطائهم حكايات مجانية، كل مرة. ولا أظن أبداً أنهم كانوا يقرؤونها، فعلى الأرجح كانوا يبيعونها على أنها حكايات مستعملة).
كان وضعنا يتدهور في غياب ركاب في قطار النوم. أقمنا صداقات مع بعض منهم، وعندما علموا بحالتنا البائسة، أرسلوا لنا -مع أصدقائهم المارين من هنا- بعض المأكولات مثل: الغُرَيبة، والجاتوه. فعملنا في جنح الليل، كان يجعلنا نتضور جوعًا؛ لأننا كنا نحاول كتابة ونسخ الحكايات على الآلة الكاتبة، وبيعها أيضًا في هذا الوقت. وبعد مضي القطار السريع، كنا نعود منهكين إلى مبنى المحطة، ونجلس في غرفة الانتظار، لتناول الكعك الذي أعطاه لنا مسافرو عربة النوم، وأحياناً كان يأتي البائعون الآخرين للجلوس بصحبتنا، فيمنُّ علينا بائع العيران باللبن المتبقي ولم يبعه؛ لأنه كان سيفسد لو ترك لصباح اليوم التالي. يبدو أنهم كانوا ينظرون إلينا بعين شفقة وعطف. أما بائع التفاح فكان يقشر لنا التفاح من حين لآخر، ولكننا لم نكن نعطيهم حكياتنا التي لم تباع؛ لأنهم أميين. وفي بعض الأحيان كان يطلب منا بائع الخبز المحشو بالسجق النسخ الأخيرة من قصصنا، ليلف فيها السجائر، وذلك لرفعة ورقها.
كنت أقص على بائعي المأكولات حكاياتي، في تلك الأوقات التي كنت أنتشي فيها وتغمرني السعادة، لسير البيع على قدم وساق (لكن المرأة الشابة كانت تعارض ذلك). كان بائع الخبز وبائع التفاح يخلدان إلى النوم مع السطور الأولى للحكاية، ويبقيان في حجرة الانتظار حتى نهايتها (كانا يستيقظان بعدما تنتهي الحكاية). أما بائع العيران، فكان يصغي بإهتمام إلي، فينشرح صدري، وكنت أسعى جاهداً لتجسيد محادثات أبطال الحكاية، وأنا أقصها عليه. في النهاية كان يومىء بائع خبز المحشو بالسجق برأسه، ويتنهد قائلاً إننا نعيش أياماً صعبة. وكذلك يقول بائع التفاح أشياء مماثلة: «كلما عاش المرء، رأى الكثير». كنت أدون حكايات البائعين المأساوية، وأنا استمع إليها، أما بائع العيران فكان يغط في النوم.
كان ناظر المحطة يتجاهل كل ما نكتبه، ولكنه يأخذ نسخة من كل حكاية، ويخفيها في خزانة منفصلة، محتفظاً بعناية بكل منها في ملف، وذلك بدافع القوانين واللوائح. وضعنا كان يندرج تحت مادة رقم 248؛ لأن حكاياتنا كتبت على أرض إدارة السكة الحديد. كنت أنتفض غضباً لوقوفي مكتوف اليدين، عند الإشارة إلى مادة من مواد القانون: ألم يكن هناك قانون ينص على تحسين وضعنا، واعطائنا مكاناً جيداً وأكثر إنسانية بداخل المحطة؟ كنت أعارض أن تسري علينا نفس القوانين التي تسري على بائعي السجق والخبز، ومن ثم يبدأ جدالاً لا ينتهي، ويُنَزل ناظر المحطة كتباً أغلفتها سوداء من فوق الخزانة، زاعماً إنه يطبق على باعة المأكولات قوانين الحماية الصحية.
كان الوضع في تدهور مستمر من وجهة نظري، فكان الشاب اليهودي يزداد نحافة، أعتقد أنه كان يعاني من مرض غير معروف، لم نمتلك مالاً لعلاجه، وكذلك لم تكن مشفى السكة الحديد تقبلنا. كنت أغضب من ناظر المحطة وأقول له: «إن نص مادة 248 يعرف فقط انتزاع الحكايات من أيدينا عنوة، أليست هناك مادة في القانون تنص على معالجة الشاب اليهودي؟». كان الجميع مدركاً أن الأوضاع لا تطاق. انتشرت أنباء عن إنشاء خط سكة حديد جديد، لن يمر بمحطتنا؛ وذلك لشق طريق جديد مختصر، كانت قطارات البريد وحدها هي التي ستستمر في المرور من هنا.
تراكمت الأحزان بداخلي، وكان قلبي عاشقًا. قطعًا، كنت مغرماً بالمرأة الشابة التي كانت تسكن الكوخ الثالث. ذات ليلة، طردها موظف -لا يعرفنا- من قطار النوم، دفعها من باب عربة القطار؛ لأن دخول الباعة الجائلين إلى هناك كان محظوراً. وقعت المرأة في مكان ممتلىء بالغبار، تبعثرت سلتها، وتناثرت حكاياتها. واسيتها، وجففت دموعها، ممسداً على شعرها. لم يكن على رصيف المحطة أحد سوانا، فقد غادر الباعة المحطة، بعد انتهائهم من العمل وبيع بضاعتهم. توترت علاقتنا بهم في الفترة الأخيرة؛ لأنهم كانوا يتفقون مع موظفي قطار النوم، أن يسمحوا لهم ببيع خبز السجق في ورق شفاف، ومشروبات غازية في زجاجات مغلقة، وذلك تطبيقاً لقوانين الحماية الصحية. يا إلهي! لماذا كانت تظهر لنا مشكلات جديدة يومياً؟ كان يداهم الجوع مسافري قطار النوم النهمين، بعد منتصف الليل، رغم تناولهم الكثير من الأكل في مطعم القطار (ومن يعرف ماذا كانوا يأكلون). هبطت علينا من السماء مادة قانون من حيث لا ندري، وبموجبها لم يجرؤ الباعة الجائلين الاقتراب من عربات قطار النوم. ثم تم تعليق العمل بهذا القانون -الغير المنطقي- بعد شهر من تفعيله.
تعانقنا -أنا والمرأة الشابة- وسرت رعشة في جسدنا، في ليلة باردة. فأي رياح أتت بنا إلى هذه القرية يا ترى؟. كنا نعمل تحت ظروف سيئة وقاسية. عجزنا عن ممارسة فننا بشكل جيد، بسبب مجابهتنا لسفالة وهمجية موظفي القطار وباعة المأكولات. لم نمتلك كتاباَ جيداَ، أو حتى ثمن تذكرة نذهب بها إلى المدينة لشرائه. فماذا كانوا ينتظرون منا في مثل هذه الظروف؟. كلما تمعنت في التفكير، فهمت مدى بؤس وضعنا. أصلاً، إدارة السكك الحديد لم تعمل لصالحنا أبداً، كل ما فعلته أنها منحتنا أكواخاً ضيقة كالعلبة قريبة من مبنى المحطة. كان نومنا متقطعاً، بفعل أصوات صفارات القطارات المارة والممتزجة بالضوضاء في النهار. لم يقدر أحد قيمة ما نكتبه؛ فذات ليلة من الليالي قال لي مسافر -شاب ووقور- بقطار النوم، إنه أطلع على جزء من الحكايات التي اشتراها منا، على ناقد معروف، فوجد هذا الناقد الكبير أنها نمطية جداً، ولم تعد مطلوبة. كنا في فصل الخريف، وكان رذاذ المطر يبلّ الصفحات الخارجية للحكايات، ويجعل جسدي يرتجف بداخل معطفي الخفيف والمتهرىء، فماذا كان بوسعي أن أكتب في هذه الظروف؟ انفجرت صائحاً في وجه ذلك المسافر الشاب، بصوت بارد كالثلج، قائلاً له أن يعيد لي القصص إن شاء، ويسترد نقوده. كنت أكذب؛ لأنه لم يكن بجيبي مليماً واحداً.
شردت بتفكيري، حتى انفصلت تماماً عن كل ما حولي. غادر القطار. وفجأة، رأيت المرأة الشابة بين ذراعي. ارتمت في حضني، وسندت رأسها إلى صدري. قبلتها. وعلقتُ سلَّتي قصصنا في ذراعي، ومشينا صوب أنوار محطتنا المنبعثة من بعيد، وبداخلنا مشاعر مختلطة نابعة من الوحدة واليأس. وبينما أكتب هذه السطور الآن، يتملكني خوف من أن تقتصر حكاياتي اليومية -التي أكتبها في الكشك، وأنا أجلس مختنقاً ومحشوراً وسط الباعة الآخرين، وتلك القضبان، وناظر المحطة متجهم الوجه- على أحاسيس رخيصة.
نعم، وقعت في حب المرأة الشابة، وكنت أتسلسل إلى حجرتها كثيراً، ولكنني كنت مجبراً على المرور من أمام حجرة الشاب اليهودي؛ التي كانت تحيل بيننا. سئمت من هذا الوضع. أشتد مرض الشاب اليهودي، ولم يعد قادراً على الخروج لبيع حكاياته كل ليلة كعادته، تقلص بيعه للحكايات مع الوقت. فبدأت أكتب له حكاياته في أيامه الأخيرة، ولم يكن أمامه سوى أن يقبل بطريقة مساعدتي هذه؛ لأنه كان منهكاً، لكنه كان يجلس أمام الطاولة ويكتب حكايات قصيرة جداً، في الأوقات التي كان يشعر فيها أنه أفضل. أما ناظر المحطة فكان يرى أن هذه الحكايات قليلة، بل ويقول لنا إن علينا كتابة المزيد منها، كي نُعفى من دفع أجرة الأكواخ التي نقطن فيها، وذلك وفقًا لمادة في لائحة المحطة، لا أقوى على تذكرها الآن. كان هذا الأمر يؤثر على الموضوعات التي نكتبها، بل وحتى أسلوب كتابتا.
في تلك الفترة، بدأت في كتابة قصص رومانسية. كان ناظر المحطة يحاول منعها؛ لأنها ستفتح أبواب النميمة. كنا نقبل بكل تصرفاته قصر إرادتنا، فأي محطة ستوفر لنا أكواخاً نكتب فيها حكاياتنا، لو طردنا من هنا؟. لذا؛ كانت حبيبتي تطهو له طعامه، وتحيك له ملابسه البالية، تجنباً للمشاكل. أما هو، فكان يحتقرنا ويستهين بنا، بلا، كان يحتقرنا دائمًا، بل ويطلب منا كتابة حكايات متعلقة بالسكة الحديد وحسب، مدعيًا إن الخبز الذي نأكله هو بفضلها. حتى أنه ضرب لنا مثلاً بنفسه وقال: هل يوجد ناظر محطة يقوم بعمل آخر خارج نطاق السكك الحديد؟. كنت أحاول أن أشرح له -ولكن بلا جدوى- صعوبة العثور يومياً على مواضيع جديدة متعلقة بالسكك الحديد. في الأصل كان يعرف عجزنا عن فعل ذلك، فيهددنا قائلاً إنه سيكتب تقاريراَ ضدنا ويقدمها لمسؤولين كبار، حتى يخلق لنا مصدراً جديداً للقلق، ويجعل عملنا وحياتنا تحت الضغط. توترت علاقاتنا مع الباعة الآخرين، وفشلنا في أن نعيش في هدوء وطمائنينة، بداخل مجتمعنا الصغير-الذي لا يتعدى بضعة أشخاص- في تلك الزاوية المنعزلة من البلاد.
كنت أشعر أنني منهك نفسياً. لم أكن أعرف ماذا علي أنه أواجه أولاً.. هل النوم المتقطع كل ليلة، أم صفارات القطارات، أم ضرورة إيجاد حكايات جديدة لحشود الزبائن عديمي الفهم، الجهلاء، والفاترين المتكبرين، أم مرض اليهودي الذي يشتد عليه، أم ناظر المحطة الذي أصبح سريع الانفعال وسيء الطباع بمرور الوقت. علاوة على ذلك، كانت حبيبتي متعبة وضاجرة، وكنت مجبراً على مساعدتها في كتابة حكاياتها أيضًا.
شعرت بضباب يخيم على تفكيري. كانت علاقتي بالعالم الخارجي تتقلص مع مضي الوقت. لم أعد أقوى على ترقب مرور الأيام. تلاشت مهارتي القديمة في إيجاد أحداث يومية لحكاياتي، والربط بين الناس والمغامرات. وكذلك كنت أعجز عن الإلمام بالأحداث المهمة في معظم الأحيان. نعم، كنت على علم بما كان يجري، ولو بقدر قليل: فقد انتهت الحرب، وكانت القطارات تمر ممتلئة بجموع من العساكر العائدين من جبهات القتال. ولفترة من الفترات، كتبت حكايات عن الحرب، مبنية على معلومات غير مكتملة ومنقوصة. بالمناسبة أصبحت تخونني ذاكرتي: هل نشبت الحرب في بلادنا؟، أم كانت في البراري البعيدة؟، هل اتسعت رقعة أرضنا أم تقلصت؟ فكان يجيبني الشاب اليهودي بإبتسامة واهنة: «هل لذلك أهمية بالنسبة لمحطتنا التي لم يتغير مكانها أبداً؟؟». على كل حال، لم تقترب الحرب من محطتنا في أي وقت؛ لأننا لم نسمع دوي المدافع أبداً.
فيما بعد، فَهمتُ من الوجوه المتجهمة لمسافري قطار النوم، ومن نظراتهم إلي حكاياتي، أن الحرب قد انتهت منذ وقت بعيد. ذات يوم، قال مسافر إنني بدأت أخطىء أخطاءً جسيمة في أسماء المدن، بل أخلط أو حتى أنسى تماماً أسماء الولاة. فأنا لم أنادي على اسم أي مخلوق بصوت عال منذ سنوات طوال، لم نكن حتى ننادي حتى على بعضنا البعض بداخل المجتمع الصغير لمحطتنا؛ ربما لأننا لم نشعر أن هناك ضرورة لذلك. فحتى اسم المحطة صار طي النسيان؛ لأنه مُحيَ من على اللافتات الموجودة على الجدارن بجانبي المحطة. لم نكن نملك ولو حتى قاموساً، نلجأ إليه لو تطلب منا الأمر البحث عن كلمات. شككت في قدرتي على تذكر الكلمات التي تبقى خارج إطار الحكايات التي كنت مجبراً على كتابتها بشكل يومي. لم نعد نتحدث إلى بائعي المأكولات، وكان ناظر المحطة يُعبر عما يزعجه بالإيماء فقط، ومرض الشاب لدرجة جعلته عاجزاً عن الكلام، فكان يحدد ما يريده مشيراً إليه برأسه. وكذلك كنت أعشق المرأة الشابة في صمت. تأقلمت على هذا الوضع في وقت وجيز.
عجزت عن تلخيص الفترة الماضية بشكل واضح، ولم يكن أمامي حل آخر سوى التأقلم على الوضع الراهن. لم أعد شابًا. ولم أكن أعرف عملاً غير الكتابة، كما أن الذهاب إلى مدينة أخرى كبيرة، لتأسيس حياة جديدة، كان أمراً صعباً. أخذت علاقتنا بالعالم خارج المحطة تتقلص تلقائياً، ولم نعد على علم بما يجري، بسبب غلاء الصحف، ووجود وسائل نقل أخرى دون القطار. فقد افتُتح خط سكة حديد جديد، وأصبح قطار «الإكسبريس» يمر يومًا واحداً فقط في الأسبوع. لكن كان هذا لصالحي أيضًا؛ لأنني فقدت الشغف في كتابة حكايات قصيرة تنتهي في ومضة عين، وتجعلني ألهث وراء كتابتها بلهفة وتسرع.
كنت أنغمس في الكتابة طوال اليوم، دون أن تطأ قدمي خارج حجرتي. لكن عقلي كان مشتتاً، بسبب الضجيج الذي يحدثه جاري الإسكافي. فقد رحل الشاب اليهودي؛ توفي قبل مدة. في الأصل أردت نقل المرأة الشابة إلى جواري، ولكن قبل أن أجد فرصة للإفصاح عن رغبتي هذه، ظهر هذا الإسكافي بصحبة ناظر المحطة ذات يوم، وسكن المكان في الحال. لم يكن عمله أفضل حالاً من عملنا في هذا المكان المنعزل. كنت أفكر في أن أطلب من الإسكافي أن ينتقل إلى كوخ المرأة، ولكنني أظن أن هذه الفكرة استغرقت مني وقتًا طويلاً في التفكير؛ لأنني عندما ذهبت إلى حجرته ذات يوم،لأطلب منه ذلك (صار عقلي مشتتاً) فوجئت أن المرأة الشابة قد رحلت. نعم، وجدت مكانها خاويًا. رَكَبَت القطار وغادرت، في ليلة من الليالي التي غلبني النعاس فيها، فور انتهائي من كتابة واحدة من حكاياتي الطويلة. كان عقلي مشتتاً حينذاك، ولسبب ما، ظلت حكاياتي الطويلة هذه عالقة ولا تباع. كنت في حاجة ماسة لبيع المزيد منها؛ لأنني كنت أبيع واحدة فقط في الأسبوع. كانت حكاياتي غامضة ومعقدة.
قضيت أيامي نصف شَبِع. ذات يوم، يعني بعد فترة، انتقد زبون -سبق واشترى مني حكاية- حكاياتي انتقاداً لاذعًا. وقال إن أرقام الصفحات كانت غير مرتبة. فأخبرته إنه قد مضى أسبوع، ولم يدخل الطعام جوفي. لا، في الحقيقة، عجزت عن قول ذلك. ولكنني قلت هذا الكلام لمسافر آخر فيما بعد. تظاهرت أمام المسافر السابق أنني تعمدت فعل ذلك. في الواقع كانت العديد من الأشياء تتسرب من ذاكرتي ويلتهمها النسيان، ولكنني كنت شديد الحساسية تجاه النقد. كنت أسترد حماستي القديمة في مثل تلك الأوقات التي كان يسيطر فيها علي القلق والتوتر، ولكنها سرعان ما كانت تتلاشى. فمثلاً كنت أقلق، عندما يقول لي ناظر المحطة إنني لم أعد نافعًا للعمل وإنه سيطردني، فتراودني فكرة كتابة قصص أفضل، رغم تقلص عدد الزبائن.
كان الإسكافي يحكي لي حكايات متعلقة بالدنيا، لا أتذكرها بالضبط. فكانت الدنيا التي كان يحكي لي عنها معقدة ولا أستوعبها. أما هو، فلم يكن يصغى إلى حكاياتي التي كنت أحاول أن أقصها عليه، ظننت أن قيمتها ترتفع، كلما زادت صعوبة حكيها. عجزت عن قول هذا للإسكافي؛ لأنه قد غادر هو الآخر، وتركني وحيداً؛ فقد ترك المحطة بعد فترة من محادثتنا الأخيرة.
فهذه واحدة من بين آخر الحكايات التي ألفتها. لاتزال هناك حكايات أخرى عديدة مثلها متراكمة. أحتفظ بحكاياتي كلها في ذاكرتي، أتذكرها كلها بوضوح جليّ. فلم أكتبها كلها بعد. ففي بعض الأماسي، أنهض من سباتي في منتصف الليل كعادتي القديمة، وأضع حكاياتي الجديدة بعناية في سلتي، أو سلة المرأة أو اليهودي الشاب، وأتجه صوب السكة الحديد. لم يعد القطار يمر من هنا، وكان ناظر المحطة غائباً لسبب ما. أظن أنه في عطلة، لأنه لم يذهب في عطلة منذ سنوات طوال. والآن، أنا أرتدي ملابسه، فاضطر أن يتركني بدلاً منه عندما يذهب. لم تعد تمر القطارات من هنا. على كل حال، فهذه تفاصيل تافهة.
الخوف يخدر أوصالي؛ لأنني أتطلع لترك هذا المكان. لم أسدد دين البقّال بعد، ومستحيل أن يستمر الوضع بهذا الشكل. عجزت عن سؤال البقال لخجلي، وفيما مضى عجزت أيضاً عن سؤال الإسكافي بسبب نفس الخجل، والذي ينبع من رغبتي في كتابة رسالة، وجهلي بالعنوان، فأنا لم أكن أعرف أي عنوان. لم يكونوا سيصدقون ذلك، لذا؛ كنت أخجل. عجزت عن سؤالهم: «هل بوسعكم إخباري بأي عنوان؟»، فأي عنوان سيكون كافياً بالنسبة لي. واجهتني مشكلة ثانية، بل ولا تزال قائمة حتى اللحظة- رغم مرور الوقت- وهي أن تفكيري منشغل بكتابة عنواني على هذه الرسالة. فحتى وإن عثرت على طريقة أتمكن من خلالها إيصال قصتي هذه إلى قرائي (فأنا لم يعد لي زبائن)، رغم انقطاع مرور قطار «الإكسبريس» أو البريد، فكيف سأدلهم على مكاني؟، كان هذا السؤال يشغلني. ولكنني سأكتب إليه مجدداً، دائمًا سأكتب من أجله، سأحكي له بلاتوقف، حتى أُعلمه بمكاني.
أنا هنا يا قارئي العزيز، فأين أنتَ يا ترى؟
الكاتبة المصرية ميّ عاشور
