جسدُ السردنصوص

فصلٌ من رواية «الشعراء الأخيرون» لـِ كريستين أوتِن | ترجمة: عبد الرحيم يوسف

آكرون، أوهايو، 1968

حب الغرباء

وقف أومار في مؤخرة قاعة المحاضرات، بالقرب من باب الخروج. كان يتعرق لكنه لم يستطع أن يخلع معطفه الجلدي بسبب المسدسين في جيبيه الداخليين. ناء كتفاه بثقل الحديد. لأول مرة ذلك اليوم، شعر بالاسترخاء. راقب عازف الطبول على المسرح. بدا الرجل وكأنه في حالة نشوة. بدت الإيقاعات المعقدة صادرة دون مجهود على الإطلاق. مال أومار على الجدار. كأنه يستمع إلى أوركسترا كاملة من عازفي الطبول – سمع إيقاع خط القرار ولحنا في نفس الوقت، لكن اللحن لم يكن يُعزف في الحقيقة، بل كان ينبعث فقط من هذه الإيقاعات الطبيعية كأنه بخار خفيف. التقط نتفا من نغمات ناعمة غامضة اختفت، تبخرت، قبل حتى أن يسمعها حقا وصدقا. نظر إلى حاملات الميكروفونات والسماعات على خشبة المسرح. كان الطلاب قد استقروا في مقاعدهم، مستندين بظهورهم إلى الوراء في ترقب. تمنى لو كان باستطاعته أن يذهب ويجلس معهم. شعر أنه فائض عن الحاجة هنا. كان يعرف أن عليه أن يبقى منتبها، وأن المزاج الكسول المسترخي يمكن أن يكون نذيرا بشيء آخر، خطر، عنف. لقد شرح إيفانز الأمر له كثيرا، مبادئ الأمن، الردع، أن تكون دائما متقدما على عدوك بخطوة، الخوف وكيف يمكنك هزيمته بالدعاء والسلاح، كيف يشحذ الخوف حواسك. كان أومار يعرف هذا جيدا. لم تختلف قواعد الأمن كثيرا عن قواعد الشارع. أغلق عينيه. كان الخوف آخر شيء يحس به. في الحقيقة كان الغياب الكامل للخوف هو ما يقلقه أحيانا. اللامبالاة البليدة التي كانت تنتابه في أغرب اللحظات. لم يحك لإيفانز قط. لم يرغب في أن يعتقد إيفانز أنه يفتقد الصخب والمخدرات والسيارات المارقة. انتبه فزعا من خيالاته على صوت ذكوري عال منفعل أتى من مكبرات الصوت. “أتوا من هارلم. قصائدهم قذائف. فلتصفقوا لهم بقوة. (الشعراء الأخيرون)!”

تهادى ثلاثة رجال في شبه لا مبالاة صاعدين على خشبة المسرح. أبطأ عازف الطبول إيقاعه. ميز أومار الرجل الذي فتشه للتو. انجذبت كل العيون إلى قميصه الداشيكي بألوانه الزاعقة. أخذ الميكروفون. 

صاح في قاعة المحاضرات: “من الثرثار الكبير من الأمن؟” ضحك مكتوم من الجمهور. اعتدل أومار في وقفته. لم يكن يهمه ما ظنه به الزنجي القادم من هارلم.

“هذه القصيدة من أجله ومن أجل كل الملاعين الآخرين الذين يعتقدون أنهم مستعدون للثورة. عندما تأتي الثورة…” قالها منشدا، وانضم إليه الرجلان الآخران بنفس النغمة. “عندما تأتي الثورة… عندما تأتي الثورة…”

توقف عازف الطبول. حبس الجمهور أنفاسه. صفع الكونجا بضع صفعات حذرة، وشكَّل الإيقاع تدريجيا: دقات مرنة مستديرة بدا أن صداها يتردد في أرجاء القاعة، أسرع وأسرع، ليصبح نغمة مفردة مطولة تلوت كالثعبان شاقة طريقها حول القاعة.

حرك الشاعر رأسه مع الإيقاع. بدا أنه أصغر الثلاثة. كان له صوت عميق رنان، ونغمة قوية عدوانية.

عندما تأتي الثورة

سيلمحها بعضنا في التليفزيون

وقطع الدجاج تتدلى من أفواهنا

ستعرفون أنها الثورة

لأنه لن تكون هناك أي إعلانات

عندما تأتي الثورة

سيشق القوادون الواعظون المشهد

بنبيذ القربان المقدس…

خبا انتباه أومار. لم يستطع أن يبعد عينيه عن اللاتيني الجذاب الذي ظل يكرر في الخلفية كلمات الشاعر: “عندما تأتي الثورة” كأنها لازمة أغنية. كان يرتدي بنطالا ضيقا من الجينز وانفتحت أزرار قميصه حتى سرته. التمعت بشرته الأقرب للون قهوة الموكا. كان يرقص. أما الشاعر الآخر فكان أكبر سنا. بشرته شديدة السواد، أرجوانية تقريبا في الإضاءة الزرقاء الحادة للمسرح. “عندما تأتي الثورة…” تذكر أومار فريق (تمبتيشنز). تخيلهم واقفين على المسرح ببدلاتهم الأنيقة، يرقصون على الإيقاع الرتيب لهذه القصيدة الفاتنة. سار الشاعر الأكبر سنا نحو مؤخرة المسرح، وقال بصوت أجش: “قل لي يا أخي، قل لي يا أخي عندما رأيت لأول مرة ابنك الميت ابنك المولود من فرج مات من زمن أسود طويل ابنك متعثرا في غضب أعمى خارج الصندوق… شفاه متورمة…” 

ظلت الكلمات تخرج من فم الشاعر الأسود، أسرع وأعلى بينما هو يومئ بجنون – أسرع وأعلى وأكثر غضبا. “قل لي يا أخي…” تصبب جبينه عرقا. غنى اللاتيني لحنا رقيقا في الخلفية. كان له صوت عال جذاب. كان الشاعر الأكبر سنا أشبه بواعظ في كنيسة. وبدت القصيدة أشبه بعظة. ألهب حماس جمهوره بصوته الشامخ الوقور. “قل لي يا أخي… كيف كان شعورك عندما خرجتَ من البرية… وليد يصرخ… وليد!” 

انصهرت الكلمات داخل صوت الشاعر الخشن الأجش. كانت هذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها أومار هذا النوع من الموسيقى. أحس بنغمات القرار تتردد في أنحاء جسده. تجولت أفكاره عائدة إلى اليوم الأخير من المدرسة في (ساوث هاي)، إلى القصيدة التي قرأها بصوت عال للمدرسين، والتصفيق والضحك من الطلاب، وهم يحيونه، مشجعين إياه على الاستمرار، بشكل أوضح وأسرع، كيف توهج بالبهجة والانتصار. الابتسامة المتوترة على وجه جيوفاني. تذكر أباه، الذي كان يتمرن على الترومبيت هناك في قبوهم، فقط تحسبا لأن يدعوهم أحدهم للعزف. ولم يفعلها أحد. جُن سوني هولينج. من خلال العنف المنغم للكلمات والإيقاعات التي تناثرت من المسرح كان بمقدوره أن يسمع النغمات الحالمة والناعمة لترومبيت أبيه. “كيف لك ألا تعزف؟ كيف لك ألا تعزف؟” أمامه مباشرة، نهضت فتاة من مقعدها. صفقت بيديها وتمايلت بفخذيها. تأرجح معها نهداها الصغيران المستديران. صرخ الشاعر: “وليد… وليد!” نظر أومار إلى الفتاة ذات البلوزة البيضاء ذات التطريز الفاخر. إلى كتفيها العاريين بلون الشيكولاتة. لم تلاحظه وهو يراقبها. سمع الموسيقى والكلمات عبر جسدها، رأى الأصوات في الحركات المتدفقة لفخذيها ويديها، ووجهها الشاب المشع. لم يعد أومار شاعرا بأنه هو نفسه، لم يكن متحكما في أفكاره. كأن شخصا ما يغرس إبرا في مخه. رأى الخال جان، شقيق ماما. الخال جان، غافيا على المقعد أمام منزله، وإلى جواره زجاجة البوربون الفارغة. رأى سيارة الخال جان البونتياك الصفراء. كان في الحادية عشر من عمره. سرق المفاتيح من جيب بنطال خاله البالي وفتح باب السائق. وصلت رأسه بالكاد إلى أعلى عجلة القيادة. أدار السيارة. غطى صوت المحرك على شخير خاله. وضع قدمه على بدال البنزين وقاد السيارة في الشارع وهبط بها التل. أعماه نور الشمس الساطع. كان الخال جان غاضبا. “حطمتَ سيارتي! كان يمكن أن تموت قتيلا!” الضرب الذي ناله، أولا من خالته، ثم من أمه. الإحساس الحارق على ظهره ومؤخرته. لكن – استطاع أن يقود السيارة.

توقفت الموسيقى. كان الأمر أشبه بالاستيقاظ من النوم. تصفيق وهتافات من أجل الشعراء الثلاثة وعازف الطبول القادمين من نيويورك. غادر أومار قاعة المحاضرات. كان بضعة طلاب واقفين في الرواق، يثرثرون ويدخنون. تجاهل نظراتهم المرتابة وتابع سيره خارجا إلى الهواء الطلق. أغمض عينيه قليلا في مواجهة ضوء أكتوبر الأبيض المغبش. لم يعد يشعر بثقل المسدسين. من قاعة المحاضرات كان ما زال بمقدوره سماع أصداء الكونجا والصوت الرخيم للاتيني. كلمات إسبانية غير مفهومة. سمع حشرات وحيوانات تتحرك في الهواء الدافئ الرطب. الصمت. رأى غيوما ناعمة، مثل ريشات مرسومة على خلفية زرقاء. كان منظرا مبهجا. كرؤية السماء لأول مرة. ضحك. عرف أن قلة النوم كانت تشوش حكمه على الأمور، أن كونه مستثارا بسبب تكليف إيفانز له جعله مفرط الحساسية، لكنه لم يبالِ، لأنه بعد العرض سيذهب إلى الشعراء ويسأل ذلك اللعين المغرور ذا القميص الداشيكي القبيح عن عنوانهم في هارلم. والليلة، في البيت، سيكتب قصيدة جديدة. لا بد أن هناك كراسة قديمة مخبأة في واحد من أدراج خزانة ملابسه.

* الرواية صادرة مؤخراً عن دار صفصافة بالقاهرة.

كريستين أوتِن:

كاتبة ومؤدية ومخرجة مسرحية وصحافية موسيقية هولندية من مواليد 1961، تنطلق في أعمالها من التزام عميق بالقضايا الاجتماعية، وتستلهم في رواياتها أشخاصا حقيقيين وأحداثا حقيقية. تقدم عروضها الأدائية بانتظام في المهرجانات الأدبية والمسارح. أسست مشروعا مسرحيا بعنوان (مونولوجات السجن)، وتقوم بتدريس الكتابة الإبداعية للسجناء.

كريستين أوتِن | christineotten.nl

خاص قناص – فصل من رواية

مجلة ثقافية تنفتح على أشكال الأدب والفنون في تَمَوجها الزمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى