معبد بينغ لينغ: أرض المائة ألف بوذا
تكاثف الغيوم الذي يحجب أديم السماء، يسبقه حركة متمهلة، بطيئة، وغير ملحوظة، لكنها مستمرة، رغم هبات الرياح واتجاهاتها. فنحن لا نبصر المسافات التي قطعتها السحب، ولا مرات تبخرها وتكونها، بل نظن أن تشابكها في الأفق حدث صدفة، وبشكل مفاجئ.
كان صباحاً مغلفاً بالغيوم، وأفق تغيب عنه الشمس. ولكن اليوم يغمره دفئ لا أفسره، رغم برودة الطقس، وبعد المسافات. على متن مركب صغير يجري في النهر الأصفر، تحاوطني الجبال السامقة، تبدو كغابات حجرية ممتدة، تتسربل بالأخضر، ويفضي عليها سحرا غريبا. ثم بدون مقدمات، يتحول المنظر-أمامي- إلى لوحة صينية مرسومة بالحبر؛ تبهت الألوان، وتبقى ثلاثة منها متصدرة المشهد: الأبيض، والرمادي، والرمادي الداكن. كان ذلك بفعل البرودة والضباب، ولكن رغم كل شيء تشق أسراب الطيور السماء، وتقطعها طولاً وعرضاً، ثم تتلاشى في الأفق المديد، وكأنها جزء من حكاية أسطورية قديمة. وقع صوت الأمواج وحركتها التي تفتعلها سرعة المركب، تثبت وجود اللحظة وواقعيتها.

أحياناً نجد أنفسنا جزءاً من حدث، لم نتوقعه، ولا نعرف كيف بدأ، وبغض النظر عن تفاصيله، ينبهنا إلى أن وقع الأيام قد يتبدل بشكل غير منتظر، وأن الحياة تدرج المرء إلى مسارات لم يخطر على باله المضي فيها. ومن هنا، تأملت صدفة الذهاب إلى هذا الحيز الغامض، وندرة فرصة التواجد فيه.
وصلت إلى وجهتي، بعد قرابة ساعة في النهر الأصفر. المكان يغلفه الهدوء، ويحاوطه النهر، وتطوقه الجبال. أسير بمحاذاة سور رمادي اللون عليه نقوش بارزة. ثم أمر من بوابة، تفضي بي إلى عالم مغاير تماماً.
أنا في معبد بينغ لينغ. واحد من أبرز المعابد الكهفية البوذية في مقاطعة جانسو شمال غربي الصين، وتحديداً بمدينة لين شيا ذاتية الحكم لقومية خوي المسلمة. فعندما زرت متحف مقاطعة جانسو، علمت أن بمقاطعة جانسو -وحدها- 14 معبدا من معابد الكهوف.
أعادني معبد بينغ لينغ إلى زمن سحيق، حيث فتحت كهوفه في عصر أسرة تشين الغربية -واحدة من الممالك الستة عشر- في نهاية القرن الرابع الميلادي، وذلك مع بداية انتشار البوذية في الصين. وفيما بعد تم توسيعه وإعادة إعماره على مر عصور مختلفة، بداية من عصر مملكة وي الشمالية، ووصولاً إلى عصر أسرة يوان، ومينغ، وتشينغ. يرجع تاريخ المعبد إلى أكثر من 1600 سنة، وهو من أول كهوف النهر الأصفر على طريق الحرير القديم.
أسير في ممر ضيق متمعج محاذ للجبل، وفجأة تلوح -تباعاً- تماثيل بارزة من الجبل، وكهوف صغيرة، وأخرى أكبر حجماً، ومحاريب، كلها تضم تماثيل بأحجام مختلفة، ونقوش جدارية، ورسوم ملونة، ينتمي كل منها إلى عصر مغاير، ويروي قصة مختلفة. المعبد يجسد الفنون البوذية، بل ومن خلاله يمكن الاطلاع على ملامح المجتمع الصيني قديماً، والتقرب إلى الفنون المختلفة من موسيقى ورقص، وفنون الحلي وأطرزة الملابس وغيرها. كما أن قيمة معبد بينغ لينغ تكمن أيضاً باحتفاظه بالعديد من أطرزة ومدارس الرسم والنحت من داخل المناطق المختلفة داخل الصين وخارجها: كالهند، وباكستان، ونيبال وغيرها.

ووفقاً للمحاضرة الرائعة التي أعطاها لنا -عالم الآثار، ونائب مدير معهد بحوث حماية الآثار الثقافية لمعبد بينغ لينغ- الأستاذ تساو شِويه ون: معبد بين لينغ يضم 216 كهفاً ومحراباً، و815 تمثالاً، كما أن الرسومات الجدارية به تمتد مساحتها إلى 900 متر، وعلاوة على ذلك، هناك ما يقرب من 500 قطعة من المعبد معروضة في متاحف مختلفة في الصين. كما أن معبد بينغ لينغ بمثابة نقطة تلاقي اجتمع عندها طريق الحرير وطريق تانغ بوه القديم (وهو واحد من أشهر الطرق القديمة في الصين، والذي كان يبدأ من تشانغ آن، وينتهي في لاسا، و يعد واحدا من أهم أجزاء شبكة طريق الحرير، والذي أيضاً شهد العديد من التبادلات الثقافية، والتجارية وغيرها).

أعيد رسم جدران الكهف في عصر أسرة تانغ .كان لمعبد بينغ لينغ أسماء مختلفة على مر الأزمنة والعصور، وآخرها كان بينغ لينغ؛ وبينغ لينغ تعني «أرض المائة ألف بوذا» باللغة التبتية، ووفقاً لما قرأته حول المعبد في مقال بصحيفة الصين اليومية: إن معبد بينغ لينغ في حد ذاته موسوعة لدراسة الكهوف الحجرية، كما أنه واحد من ضمن أهم ستة كهوف حجرية في الصين.
أحب تسجيل اللحظات، التي وجدت إلى قلبي سبيلاً. فبينما أنا منشغلة بالتقاط بعض الصور، لتسجيل كل التفاصيل التي أريد أن أبقيها معي، مددت بصري إلى السماء، فوجدت نفسي أقف أسفل تمثال ضخم، منحوت في الجبل وجزء منه، تصل ضخامته إلى حد أن يبدو المرء كنقطة صغيرة عندما يقف أسفله أو بجواره. والمثير للدهشة ليس فقط حجمه الضخم وطوله الشاهق، ولكن تفاصيله المنحوتة بعناية ودقة. تمثال بوذا، جالس في شموخ، يضع يد على ركبته والأخرى على فخذه، وكل التفاصيل الأخرى واضحة جلية، بداية من ملامح وجهه، مروراً بثنيات ملابسه.
واستناداً إلى محاضرة عالم الأثار تساو شِويه ون، يعد تمثال بوذا الجالس، هو أضخم ثالث تمثال لبوذا بمقاطعة جانسو، وخامس أضخم تمثال لبوذا في الصين، وتاسع أضخم تمثال لبوذا على مستوى العالم. ويبلغ ارتفاعه27 متراً. ويعتبر هذا التمثال من الأعمال الفنية المميزة لعصر أسرة تانغ.
وبجوار هذا التمثال الضخم العديد من الكهوف والمحاريب، والتماثيل المنحوتة في الجبل. كما أن معبد بينغ لينغ يحمل بداخل كل زاوية من زواياه مادة تاريخية ثرية، وخاصة كهف رقم 169، يعد أقدم كهف مؤرخ -بوضوح- في الصين، حيث وجدت على جدرانه أقدم كتابة -مؤرخة- كتبت بالحبر، وتعرف باسم «مقدمة جيان خونغ»، والتي تم اكتشافها في الكهوف الحجرية الصينية، بل وتعد من أكثر الاكتشافات البراقة التي حدثت في ستينيات القرن الماضي في علم آثار الكهوف الحجرية. كهوف معبد بينغ لينغ تحمل بين طياتها أسرار الحضارة الصينية، وتحتوي على مادة ثرية تجمع بين ملامح الفكر، والفلسفة، والثقافة الصينية، وشكل الحياة على مر العصور المختلفة في الصين، بل وتعد شاهداً على امتزاج الثقافات على طريق الحرير.
لم تتوقف خطواتي عن المسير في المكان، كأنما هناك طاقة ما تحركني. صعدت الجسر الذي يربط بين ضفتي المعبد، وقفت تماماً في منتصفه، ثم التفت مجدداً إلى تمثال بوذا، فبدا لي أضخم وأوضح. ألا تظهر لنا -أحياناً- بعض التفاصيل التي كانت تغيب عنا عندما تبتعد خطواتنا؟، فبعض المسافات ليست بمسافات، بل هي اقتراب مما عجزنا عن استوضاحه من مكاننا الأولي.

نحت مثل هذا التمثال الضخم بتفاصيله بهذه الدقة، في زمن خلى من التكنلوجيا، واستخدم فيه البشر أدوات أولية للبناء والنحت، هو أمر مدهش، يستدعي التأمل.
عبرت إلى الناحية الأخرى من المعبد. وجلت ببصري في المكان. ثمة هدوء ينبعث من داخلي، وكأن قلبي يفيض به. تسلل جمال الطبيعة إلى روحي، أما التاريخ، فجذبني إليه من اللحظة الأولى.
يندمج الإنسان مع الطبيعة، فتلهمه، وحينها يطلق العنان للإبداع. والذين ينتمون إلى حضارة عريقة، لديهم مصدر مغاير للقوة، تكون خطواتهم أكثر رسوخاً، مهما صدمتهم لحظات قاسية. ففي النهاية سينبههم تاريخهم إلى شيء، وحينها لن تكون العودة إلى الهوية بداية جديدة لهم، بل إعادة إحياء لماض ذاخر وثقافة ثرية.
الكاتبة المصرية مي عاشور








