انقلاب مركزية السلطة من الأنثوية إلى الذكورية
وضّح تشيخوف في مسرحيته التي قدّمها في مطلع القرن العشرين “الشقيقات الثلاث”، أن حالة الرضوخ واليأس التي تعيشها المرأة ليست وليدة العصر، بل هي امتداد للحضارات السابقة التي قلبت كفّة المركزية من المركزية الأنثوية إلى المركزية الذكورية، فبالنظر إلى الحضارة الرومانية، نجد استحواذ الآلهات الأنثوية بشكل ملفت، ديانا إلهة القمر، فينوس إلهة الحب والجمال، جونو ملكة الآلهة، فورتونا آلهة الحظ، سيريس آلهة الزراعة والأرض، والكثير من الشواهد الدالة على مركزية المرأة في ما مضى، وقد اسقطت تلك التجربة على الحضارة الرومانية عوضاً عن سابقتها اليونانية لكونها امتداداً لما قدّمه تشيخوف على اعتبار أنَّ الكاتب متأُثر ببيئته الثقافية السابقة أو الحاليّة. ولكن هذه المرّة يقدم تشيخوف مسرحيته التراجيدية ليس من أجل المتعة وحسب، كما يفعل كثير من الروائيين والمسرحيين الذين يقدمون نصوصاً روائية شكلية لا تعكس المضمون بل تأخذ القارئ/ المشاهد للخيال ومدن التنظير والإشباع الوقتي، هذه المرّة يقدّم نصاً استفزازيّاً حينما يصل إلى ذروة المسرحية بالتحديد من خلال تنبؤه بحدوث إعصارٍ يكسر كل الكسل واللامبالاة التي تعيشها روسيا، ويقدّم بواعث الأمل والتغيير القريب، وبعدما أبدع في تصوير مشاهد الإذعان واليأس التي عاشتها كلِّ من أولغا وماشا وإيرينا واللاتي كان جلَّ حلمهنَّ هو الخروج من الريف والذهاب إلى موسكو المدينة دون رغبة في الرجوع إلى الريف المُمِل على حدِّ تعبيرهن، وكأنها الخلاص الروحي – كما أراد تشيخوف تصويره – للفتيات الشقيقات للخروج من دوامة الضجر، بيد أنَّه أبدى في ذروة المسرحية بأنَّه قد أوهم المشاهد بحقيقة ما تعانيه الشقيقات، فالخلاص ليس موسكو المدينة وإنما التخلّص من الإذعان وحالة اليأس التي تعيشها المرأة الروسية في تلك المرحلة الإقطاعية التي شهدتها روسيا لمرحلة طويلة اتسمت بهامشية المرأة في ظل استمرار روسيا القيصرية في الدخول في حروب عديدة مهّدت تفوّق الرجل ومركزيّـة دوره الأكثر أهميّة من المرأة.
المسرحية تقدّم تصويراً دقيقاً عن مأساة الشعب الروسي ربما وليس المرأة وحسب، وهنا نجح أيضاً تشيخوف في خداع المشاهدين من خلال إدخال مشهد الفرقة العسكرية التي أرست معسكرها في الريف الذي تسكن فيه الفتيات الثلاث والذي وقعت فيه الأخت الوسطى في عشق ضابط وبدى لها أخيراً وكأن القدر بأكمله سيتغيّر وسيحوّل حياتها المضجرة إلى حياة مليئة بالحياة، بيد أنَّ تشيخوف – كما بدأ لي – كان يقدّم عزاءً للعساكر الذين يحاربون بشكل مستمر، فالأوامر العسكرية ترغمهم على الامتثال للقائد دون قلوبهم، وهو ما أبداه تشيخوف من خلال اصدار أوامر عسكرية بمغادرة المعسكر الريفي في الحال، الأمر الذي حدا بالعسكريين خسارة علاقاتهم الغرامية، ووفاة عشيق إيرينا في الحرب فيما بعد، وهو ما أبدع فيه تشيخوف وبشكل مدهش في إظهار الجانب السلبي للحرب المستمرة على المجتمع الروسي.
خاص مجلة قنّآص
أنطون تشيخوف “غيتي“
بسّام الكلباني؛ باحث وروائي عُماني، صدر له: كتاب فصام الأديان ورواية عزلة الرائي. (الصورة: facebook.com/Oman24News )