تغيّر كلّ شيء منذ قُرِئت فاتحتها. لقد كانت تظنّ، فيما سبق، أنّ يزورها الدّم كضيف ثقيل كلّ شهر، كافيّا لأن تدخل عالم النساء، لكنّ هذا التفصيل ظلّ محدود الأثر إلى أن قام ثدياها حقّ قيامتهما، واستدارت عجيزتها بمدار إهليلجي، عند هذه اللحظة أيقنت أن التبدّل قد اكتمل، ومن ثمّ أتى شراء جهاز العرس، وما تضمّنه من ثياب داخلية، ليمحو معتقداتها السابقة، فالأنثى لا تصبح أنثى، إلّا عندما يدخل الرجل حياتها.
في طريق عودتها من العاصمة مع أمّها، كانت تحدس أنّه يراقبها من بعيد، لكنّها لم تره. تمنّت أن تخلو به للحظات كي يسمعها كلامًا أخيرًا يظلّ في ذاكرتها ما دامت حيّة، إلّا أنّه ظلّ مختفيّا أو خفيًّا، كأنّه إحدى بنات أفكارها. أخيرًا همست لنفسها: لم يكن إلّا ظنّا. لم تطل التفكير بذلك، فقد كانت منهكة من يوم السفر الطويل، لكنّ شعور الخجل الذي راودها فيما كانت أمّها وحماتها تساومان البائع على ثمن الثياب الداخلية، استمر معها إلى أن ولجت سريرها مع سؤال بلا إجابة: من أين لأمها وحماتها هذه الجرأة؟ فهي اعتادت رؤية أمها، وهي تنشر الثياب الداخلية في أماكن خفية، لا يصل إليها حتى الضوء، إلّا في ظلال شاحبة.
****
أشرقت الشمس على البلدة، وكما ينتشر شعاعها بخفّة اللصّ، تفشى خبرٌ، بأن قطعتي ثياب داخلية، (سوتيان أصفر وسليب أسود)، معلقتان على أجمة القصب في أعلى الشلال، كأنّهما رايتان. جاء الرجال والشباب والأطفال والنساء والفتيات للمشاهدة وتبادل الأحاديث حول من فعل ذلك، تتناهشهم التخمينات والشكوك والظنون. امتعض المتزوجون، وتنادر الشباب، في حين طُلب من الأطفال أن يقذفوا قطعتي الثياب الداخلية بالحجارة، كي تسقطا ويجرفهما الشلال. مرّ الوقت ثقيلًا على البلدة وفي خضم ساعاته، دارت صراعات خفيّة بين المتزوجين، وطالب الآباء بأن تتفقد الأمهات أردية بناتهن الداخلية، إذا كان قد فُقد منها شيء، إلّا رجلًا واحدّا، انتظر أن يخلد أفراد أسرته للنوم، ومن ثمّ بدأ باستجواب زوجته الطريحة الفراش نتيجة كسر في ساقها.
لقد كانت أردية زوجته الشابة، هو يعرفها، فقد طلب منها، أن تشتري (سليب أسود وسوتيان أصفر) لأنّه يراها كالنحلة، أمّا هو فقد كان اليعسوب. كانت زوجته تبكي بين يديه اللتين تعصران رقبتها، وتقسم بأعظم الأيمان وتبرّر، وتسبّب، وتستنتج، بأنّها لا تعلم شيئًا. كانت ليلة قاسية لم تعرف النحلة مثلها، منذ ولدت. وكانت متيقنة؛ إن لم يذبحها زوجها، فإنّ أخاها سيفعل ذلك.
أشرقت الشمس من جديد على البلدة التي نامت على ألف قصة وقصة، ظنّ بها أهلها، بأنّ يوم الغد سيطوي الفضيحة. وقد حمدوا ربّهم بأنّه لم يدخل أي غريب بلدتهم، فيفتضحوا في شرفهم بين البلدات والقرى المجاورة.
لم تتطهّر العيون المستيقظة من النوم بعد، حتّى كرّر اليوم الجديد، سيرة اليوم السابق. ففي ذات المكان الذي لا يمكن أن يصله أحدٌ عُلّق قميصٌ داخليٌّ أسود شفاف على أجمة القصب. لم يكن هذا القميص من مقتنيات النحلة، وعندما تعالت أصوات امرأة تُضرب من قبل زوجها، تنفست النحلة الصعداء، وحار يعسوبها ماذا يفعل.
اجتمع الرجال في بيت رئيس البلدة يتدارسون هذه الفضيحة التي تكرّرت لليوم الثاني، وأقنعوا الرجل الذي صبّ جام غضبه على زوجته، بأنّ في الأمر أكثر من ممّا يوسوس الشيطان في نفسه، وأن غسل الشرف يحتاج إلى شهود، والحدّ يُدرأ بالشبهات، فليتقِ الله.
للحقيقة، لقد تمنّت بعض النسوة ألّا تشرق الشمس، إلّا وقد اقتلع سيلٌ أجمة القصب من جذورها. حتّى أن بعض الرجال رغبوا بأن لاتشرق الشمس مطلقًا، فقد تناهى تفكيرهم إلى أن دورهم آتٍ. لم تتحقق أمنيات النساء ولا الرجال، وأشرقت الشمس من جديد على القرية المنكوبة بسروال من الدانتيل الأحمر، وسوتيان أحمر مطرّز بالأسود، في حين بدت لهم أجمة القصب كمهرج يسخر من أهل البلدة التي أصيب أهلها بالحمق، فقد راودتهم عن أنفسهم فكرة أن يغيّروا مجرى النهر.
اقترح رئيس البلدية بأن يتخلّوا عن أفكارهم الجنونية في تبديل مجرى النهر، فالعاصمة فشلت في ذلك. وأن يقوموا بدلًا من ذلك بنوبات حراسة بين البيوت وعلى ضفة النهر بمحازاة الشلال، ليقبضوا على هذا الشيطان الذي حلّ في بلدتهم.
عسعس الرجال في شوارع البلدة، وسهرت النساء قرب خزاناتهن وصناديق ثيابهن، لكنّ الأمر لم ينفع، ومن جديد كانت الأجمة، قد أظهرت ثيابًا داخلية جديدة. همست امرأة إلى زوجها بأنّ تلك الثياب الداخلية تعود لها، فأمرها بالصمت، وإن ثرثرت بالحقيقة إلى جاراتها، سيطلقها، إن لم يذبحها.
تتالت الأيام، وأجمة القصب تزدهي بالثياب الداخلية النسائية، التي تشعل رغبات العزّاب، وتُخجل الفتيات اللواتي نهدت أثداؤهن وتكوّرت أردافهن، فيما الرجال وبعد أن اقتنعوا بعدم جدوى الحراسة في الطرقات وعلى ضفة النهر قرب الشلال، قاموا بوضع ثياب نسائهم الداخلية في صناديق وسهروا على حراستها. لكن هيهات أن ينفع شيء، فالأجمة تنمو، ويتطاول قصبها، وأخبارها وصلت إلى البلدات الأخرى، فبدأ سكانها بالتوافد، واختراع الأسباب للمرور عبر البلدة التي فضحت نساؤها بأن ظهرت ثيابهن الداخلية إلى العلن. بدأت أعمال عنف من قبل شباب البلدة تجاه من تسوّل له نفسه بالقدوم لرؤية أجمة القصب، وسمعت هتافات من شباب البلدة: الشعب يريد إزالة أجمة القصب! هذا الواقع المستجد والخطير استدعى أن ترسل العاصمة قوات حفظ النظام إلى البلدة، وتأمين ضفة النهر، لمن يود أن يأتي سائحًا وعلى إثر ذلك انتشرت عربات بيع الفول والحلويات والمشروبات الغازية قرب الشلال.
لم يترك أهل البلدة مقترحًا كي يخرجوا من هذه المصيبة، إلّا وقد حاولوا تنفيذه، حتّى أنّهم طلبوا سيارة إطفاء بسلم طويل كي يمدّوه فوق الشلال، ويتطوّع أحد الشبّان المشهود لهم بحسن السيرة أن يتدلّى بواسطة سلم الإطفاء نحو الأجمة عبر حبل ويعمل منجله فيها. لكن ذلك لم يحدث، ليس لأنّه من المستحيل أن تصل سيارة الإطفاء إلى ضفة النهر فقط، بل لأنّ السلطات في العاصمة رأت بأن الأمر ليس له من ميزانية مرصودة في هذا العام ومن الضرورة الانتظار إلى العام القادم. وعندما طلب أحد الشبّان أن تقصف بالطيران، قوبل اقتراحه بالرفض، ومن وقتها لم ينم في بيت أهله، فبعد غروب الشمس جاءت سيارة بيجو نزل منها عدد من الرجال وأخذوه معهم.
فكّر الشبّان الغيورون والذين كانوا على وشك الزواج، بأن عرائسهم سيفتضحن، فربطوا أجسادهم الشابة بالحبال وخاضوا في النهر السريع الجريان، إلّا أنّ التيّار كان يدفعهم بعيدًا عن أجمة القصب التي تنتصب في وسط النهر كالقذى في العين. الكثير منهم أجّلوا زواجهم، حتى يأتي الشتاء ويجرف طوفان النهر أجمة القصب، مع علمهم بأنّها كانت تصمد دومًا، شتاء وراء شتاء.
تجادل أهل البلدة، بأنّ الثياب الداخلية هي لنساء متزوجات وليست لعزباوات وهذه رحمة من رب العالمين، فمن سوف يتزوج بناتهم عندما تنشر ثيابهن الداخلية على الملأ؟ وكأنّ أجمة القصب قد سمعت بالذي تجادلوا فيه وأضمروه، فلم تشرق شمس جديدة حتى ظهرت على قصباتها المتطاولات الثياب الداخلية لعزباوات القرية، والأخطر من ذلك أنّها كانت ثيابًا تجهّزت بها المخطوبات ليرتدينها في اليوم المنشود، حيث سيرفع المنديل الأبيض دليل عذرية لم تمس.
جنّ أهل البلدة وقرّروا مغادرة بلدتهم إلى غير رجعة. استشعرت الخطر العجوز التي كانت تدير بيتًا مخفيًّا للدعارة، لكنّه معروف للجميع، من رئيس البلدية إلى أصغر ولد في المدينة، فإن غادر سكان البلدة، فهذا يعني أن أعمالها ستكسد، ولم يعد في العمر متسع، لتأسيس بيت جديد في بلاد الهجرة، لذلك ارتدت أجمل فساتينها وتزيّنت كما لو أنّها في أول صباها، وقصدت دار البلدية، حيث تم عقد اجتماع يقرّر فيه كبار أهل المدينة ما هو الحلّ الأخير، فمن غير المعقول أن تكون مغادرة البلدة هو الحلّ الأخير. دفعت العجوز الباب ودخلت على المجتمعين، مستندة على عصاها، وقبل أن يهجموا عليها بالأخلاق والأعراف وقواعد الدين، صرخت بهم: كلكم مررتم على أسرة بيتي، فاجلسوا هادئين، أيّها الأطفال. ألم تلاحظوا، بأنّه لم تعلّق أية قطعة ثياب داخلية ممّا تلبسه فتياتي على أجمة القصب. أنتم أعلم بثياب فتياتي الداخلية التي تحفظون تصاميمها أكثر بألف مرة من ثياب زوجاتكم، لذلك اسمعوا؛ إن من يفضح شرفكم عبر نشر ثياب زوجاتكم وبناتكم، ليس من الأرض، بل من السماء، إنّها الشمس، أيّها الحمقى! إنّ ثياب بناتي الداخلية، على الرغم من جرأتها، فهنّ ينشرنها على شرفات البيت وسطحه، الذي تمرون من أمامه، وتختلسون النظر إليها، لذلك لم تجدوها على أجمة القصب، فهناك حكمة قديمة تقول: بأن الشمس تحبّ أن تنشر الثياب تحت أشعتها، وتكره أن تنشر في العتمة والأماكن المخفيّة. اليوم وليس غدًا، دعوا نساءكم وبناتكم ينشرن ثيابهن الداخلية على الأسطح والشرفات، وسوف ترون كيف ستختفي أجمة القصب.
صدّق البعضُ العجوز، ورفض آخرون كلامها؛ لكنّ الواقع أصدق إنباء. لقد بدأت الأجمة تفقد قصباتها، قصبة تلو أخرى، ما إن تنشر أنثى ثيابها الداخلية على السطح أو في شرفة بيتها. رويدًا رويدًا، اقتنع الجميع، واختفت أجمة القصب. سألت إحدى الفتيات العجوز الحكيمة: كيف عرفت ذلك؟ ابتسمت العجوز ابتسامة تعود إلى أيام شبابها ومن ثمّ خرجت من غرفتها، كي تتفقّد فتياتها. كانت إحداهنّ غاضبة من أحد الزبائن وتجادله، لحظة وصول العجوز إلى غرفتها. ضربت العجوز بعصاها الرجل قائلة: كن لطيفًا أيّها البغل.
*****
استيقظت الفتاة هلعة من كابوس ألمّ بها أثناء نومها، تتعوّذ بالله من شرّ الشيطان الرجيم. قفزت من سريرها نحو أكياس الثياب التي جاءت بها من العاصمة، وبدأت بتفقد ثيابها الداخلية، واحدًا، واحدًا، وفي هذه الاثناء كانت الشمس قد بدأت بالبزوغ.
خاص مجلة قنآص
باسم سليمان؛ أديب سوري، صدر له: تشكيل أول -نصوص، تماماً قبلة -قصص، لم أمسس -شعر، نوكيا -رواية، مخلب الفراشة -شعر، جريمة في مسرح القباني/ الحد والشبهة -رواية، الببغاء مهرج الغابة.
الصورة: basemsoliaman.wordpress.com