أحمد زكريا، ينسج هويته ورؤاه في المجموعة الشعرية «ما لم أستطع قوله لأحدهم، بلغة أخرى»
الشاعر المصري الشاب، أحمد زكريا (1984)، والمترجم إلى اللغة التركية، أصدر جديداً شعريا بعنوان «ما لم أستطع قوله لأحدهم، بلغة أخرى»، عن دار النهضة العربية، بيروت. والديوان هو كناية عن تسع عشرة قصيدة أتت جميعها على شكل أناشيد، مقسّم كلّ منها إلى مقاطع شعرية غير متناسبة في أحجامها، لا تتجاوز الثلاثة، ولا تقلّ عن المقطع الواحد.
أول ما يلفت في العنوان الطويل، وغير الرائج، أنّ الشاعر قصد منه الإيحاء بخصوصية المحمول الشعري، وبأنه رديف للبوح الذي يصعب النطق به، بلغة أخرى، أي باللغة الأخرى التي يتقنها الشاعر (التركية) والتي لا تقوى على حمل تضاعيف تجربته، ومشاعره، ومعنى وجوده، بخلاف ما تمتاز به العربية، لسان مولده، والدليل على وجوده وفعله وانفعاله وتدوينها في آن.
يهدي الشاعر عمله الشعريّ الثاني، بعد «جدالية» الصادر عام 2009، والذي نال عليه جائزة محمود درويش للعام 2015، إلى شريكته في الترجمة إلى اللغة التركية ملاك دينيز أوزدمير. ويقع الكتاب في أربع وسبعين (74) صفحة من القطع الوسط.
مسألة الهوية في شعر أحمد زكريا
بداية، لا بدّ من القول إنّ الشاعر أحمد زكريا إذ اتّخذ من قصيدة النثر نوعاً شعريا غالبا-عدا قصيدة يتيمة في شعر التفعيلة، «واحد من هؤلاء»- ألفى نفسه قادرا على اختيار ما تشاء له تجربته الشعرية والحياتية من مواضيع أو موتيفات، وما يتّفق مع بلورة رؤية إلى العالم خاصّة به، بدأ يتلمّس ملامحها، ويعبّر عن ذاته من منطلقها، وهو المصريّ المولد، والعربيّ اللسان، والمغترب عن وطنه طلباً للحرّية وتحقيق الذات ثقافيا عبر اللغة التركية، والتزام ترجمة الشعر العربي الحديث إليها.
يقول في قصيدته الأولى، وهي بعنوان «ما لم أستطع قوله لأحدهم، ذاك الصباح»:
أريدُ أن أمسكَ بلحظات الضعف/ وألقي بها في الهواء
مثلما يبدي عزمه على الكتابة عن بلاد أخرى، غير بلاد ناظم حكمت، مدركاً أنّ هويّة الكائن شأنه لا يختصرها مسقط رأسه، وإنما تكوّنها التجربة الروحية (الولادة الثانية) واندماج الذات المنفعلة بما جاورها. يقول بهذا الشأن:
وُلدتُ أكثرَ من مرّة/ لكنّني في كلّ مرّة كنتُ أولد في إبريل/ ولدتُ بجوار النيل والبوسفور/ وقلعة صلاح الدين وبرج جلطة/ وفي كلّ مرّة/ كان يهمسُ الرّبيع في أذني ويقول:/ يمكن للزمان أن يكون هوية/ ويمكن أن تصاحبَ شجرةً، في مدينة غريبة… (ص:6).
وعلى هذا فإنّ التزامن والتلازم بين مكاني الهويّتين (المصرية، والتركية) حاصلان في ذاته، وأنّ الاندماج بينهما واقع، لا محالة، في روحه، مما يفضي إلى ولادته الثانية التي طالما رجاها، وهو المقيم في تركيا. ولربما لا تكفيه الولادة الأخيرة، يستكمل بها هويّته الجديدة، وإنما يرى إلى لغتيْ المكانين عاملاً لازماً لتمكين هذه الهوية، يضاف إليه عامل التراث الشعري التركي، المنتمي الى المنظومة الفكرية والأدبية اليسارية، والمتمثّل بشعر ناظم حكمت وعزيز نيسين، وغيرهما.
صوَر المدينة والغنائية الشفيفة
لا تحضر الهوية من دون الكلام عن المدينة، بل المدن التي أقام فيها الشاعر، وجعلها مادة لتأمّله في ما يمكن أن يكونه المهاجر، والكائن المهمّش فيها، والباحث عن أسرارها، باعتبارها (المدينة بعامة) متاهاً لذاته ومعبراً إلى تكوين ذاته. وبهذا المعنى، تكون محاولة اندماجه في المدينة معادلاً للنفاذ إلى هويّتها العميقة، واندراجاً في نسيجها المتعدّد، الكوزموبوليتي، والأهمّ الانحياز الى إلظواهر والفئات المهمّشة، والمهاجرين، والثوّار، والأقلّيات، وغيرهم. يقول:
المدينةُ: كلمة فضفاضة كأحلامِ الغزاة، ومعقّدة كالنّقوش الحجريّة/ ضواحي المدينة، وسط المدينة/ الشوارع الشهيرة في المدينة والشوارع الخلفية/ الأحياء المحافظةُ في المدينة، والحياةُ الليليّةُ للمدينة/ المدينة المقاومةُ، شعراءُ المدينة… (ص:15).
ومن هذا القبيل أيضا، ما يستشفّه القارىْ من نبرة حزن ساكنة، ترين على المشاهد التي يعرضها الشاعر تباعا، ويبلغ حدّ التأسّي على ما لا يُحصى من العرب، المصريين والشوام وغيرهم، المنضوين في جيش الامبراطورية العثمانية، وقد عادوا قتلى مهزومين إلى الديار، وما بقي منهم سوى الشواهد في شارع أوسكودار. يقول:
نغنّي في الطريق الى اوسكودار وجدتُ منديلاً/ وأجدُ فيه رائحتَكَ يا أبي/ نتسكّع بين القبور القديمة/ نبحثُ عن أسماء أجدادنا الذين أُخذوا إلى الحرب/ ولم يعد منهم غير الأغنيات/ أتريد أن أصف لك أوسكودار يا أبي؟/ تاريخٌ مهزومٌ يتمشّى على الساحل… (ص:11).
وثمة أيضا غنائية ليست صادحة، شفيفة، ولكنها دالّة على نزعة إلى التجاوز، والفرار، وطلب المحال، الوطن الأجمل، ولربما كان هذا الوطن الشعر. ولعلّه ماثل في قصيدة «هروب»، ومنها نقتطف:
وحينَ يكتب الشعر/ يرى ظلّه طفلاً في الشوارع التي يحاول نسيانها،/ وتطارده كالهوية/ يناديه:/ خذني معك/ إلى حزيران خذني معك/ إذا ذهبتَ إلى الجنوب/ أو نضجتَ كثمرة تينٍ في إحدى هضاب الأناضول/ خذني معك/ وإنْ ضيّعتَ أجملَ الأيام/ في استكشاف رائحة التوابل في البازارات/ خذني معك.
الولادة الثانية وما وراء الشعر
لا يخرج الشاعر أحمد زكريا، إلاّ ما ندر، في مجموعته الشعرية هذه عن مسألته التي يجادل فيها- ومجموعته الشعرية الأولى بعنوان «جدالية»- وعنيتُ بها الهوية، بكلّ دلالاتها العميقة؛ إذ يعتبر، في نشيده بعنوان «قد أولد من جديد» يحاور الشاعر ذاته، بل يجادلها، في إمكانية الولادة الجوّانية، ولادة الذات الشاعرة، انطلاقاً من وقفته التأمّلية الطويلة بعيداً عن وطنه الأم (بلادي، رأس الحسين، راس الحسين)، وتجريد ذاته من الحنين إليه، ومداواته بالمقابل من «نسيم البوسفور/ أهل البوسفور فقط». ثمّ يختم هذه المناجاة الدامية بمفادة أنّ عودته إلى هويّته الأولى مستحيلة، وغير مأمولة، ويقول:
أيها الوطن…
أخرجني من رأسك الصفيح/ وألقِ بذكرايَ في النيل/ وأنا أعدُكَ بأن أنسى طفولتي/ وألاّ أشوّه اسمَك المنحوتَ في ملامحي… ابتعدْ عنّي أيها الرمزُ/ سوفَ ألطّخكَ بدموعي/ وأنتَ أيّها الحنين/ سوفَ أجرحكَ بحكاياتٍ/ عن جثثٍ تجرفها الدباباتُ مثل القمامة… (ص:22).
في إشارة الى ما كان قد حصل في ميدان التحرير في القاهرة، إبّان ثورة 11 كانون الثاني من العام 2011، وسقوط أعدادٍ كبيرة من المتظاهرين قتلى، في ما سمّي وقتذاك بثورة اللوتس، أو ثورة الشباب.
وتعاود الشاعر مسحة من المرارة كلّما وردت في خاطره صوَرُ الميدان وفعالياتها التي كان الشاعر مشاركاَ فيها، وتدوينه لحظات شعر فيها كأنه في بلدٍ عدوّ:
الوقتُ أضيقُ من أنْ نعلّق صوَرنا على الجدران/ أو ندوّن ذكرياتنا عن الخارجين من الميدان/ وهم يضعون أيديهم خلف رؤوسهم كالأسرى/ ويبحثون عن بلادهم في بلادٍ أخرى… (ص:29).
مواجع الغرباء
ولا ينسى الشاعر، أحمد زكريا، في ما تستوقفه مشاهد المدينة، في معرض اندماجه المعنوي في بيئة موطنه الثاني، أن يدوّن مواجع الغرباء، والمهاجرين، والأقليات (المقدونية، الأرمنية، الأشورية) التي سيمت صنوف العذاب، والاضطهاد، ولم يتسنّ لها العبور من البوسفور إلى بلاد أرحم من بلاد مصطفى أتاتورك:
كأنّ طبقات صوتكَ تشبه بلادكَ تماما/ طبقة تحملُ أوجاعَ الأقلّيات/ وأخرى صدىً لوقع أقدام الهاربين من المذابح/ طبقة تحمل الرسائل التي لم تصل/ من عاشقة مقدونية إلى حبيبها في الحرب…/ وهذه النبرة الحزينة/ هي ثورة شرقية على تركة جمهورية أتاتورك… (ص:38).
الموتيفات
وعلى الرغم من وحدة المسألة -أي الهوية- بمختلف أوجهها التي عالجها الشاعر أحمد زكريا، في مجموعته الشعرية الثانية هذه، لم يألُ جهداً في تنويع الموتيفات، أو الموضوعات الفرعية الداخلة في المسألة مباشرة عبر قصائد (في لغة أخرى، ولا أبحث عن بلادي، قد أولد من جديد)، والمبيّنة تفرّد الكائن الشاعر في تجربته الشعرية (لا أحمل جراح غيري، يوميات)، وتظهير الانتماء الفكري والأدبي المعارض ( ثورة شرقية على تركة جمهورية، لحن جديد للنشيد الأممي)، ومحاوراته المفترضة مع أبيه، وكلام موجز في ما وراء الشعر، وغيرها.
اللغة الشعرية عند أحمد زكريا
لا جدال في أنّ معجم الشاعر أحمد زكريا المبسّط والأليف، والمنقّى، مستفادٌ من تراث شعريّ واسع، ممتدّ من التراث الشعري العربي الحديث (الشعر الحرّ، أو شعر التفعيلة)، وانتهاء بتراث قصيدة النثر العربية الذي اتّسع أخيرا الى حدود غير مسبوقة، وإن تكن مبلبلة ومتفاوتة القيمة. ومع ذلك، يجد الشاعر لنفسه موقعاً، ويشقّ سبيلاً إلى رسم هويّته الإنسانوية، والشعرية، والأسلوبية، على حدّ سواء. وهنا، قد يلحظ القارىْ ميلاً غالبا عند الشاعر إلى توسيع جملته الشعرية، أو سطره الشعري، بجعلها فضاءً متاحاً للسرد، ونقل المشهد الشعري، والمحاجّة بشأنه، والحرص على الإيقاع الداخلي، وإنْ أمكن ادخال إيقاع شعري معروف، كما حصل في قصيدة (واحد من هؤلاء) المنظومة على وزن بحر الكامل مجزوءا، للإيحاء بأنّ ثمّة بعداً جماليا ممكناً لدى الشاعر، يمتاز به عن غيره، وأنّ حجبه كان اختياراً لبسط الرؤية الأوضح والاعم.
***
أحمد زكريا، جدل الهوية شعريا في «ما لم أستطع قوله لأحدهم، بلغة أخرى»؛ بقلم د. أنطوان أبو زيد
أنطوان أبو زيد؛ شاعر لبناني. حائز على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها. من مؤلفاته: بين الأيديولوجيا والظاهرة: فلسفة اللغة لدى كمال يوسف الحاج، كوريغرافيا العابر، أعمق من الوردة، وفضاء حر. ومن أعماله السردية: زهرة المانغو، والحفار والمدينة.