بول لينش الحائز على جائزة البوكر البريطانية للعام 2023: «أغنية النبي» محاولة للتعاطف الجذري مع اللاجئين الذين يتجهون نحو حدودنا، وفاشية العصر الحديث
ترجمة: عاطف الحاج سعيد
حصل الروائي الإيرلندي بول لينش على جائزة البوكر البريطانية للعام 2023م عن روايته «أغنية النبي»، أجرى معه موقع الجائزة حواراً حول هذه الرواية عندما ظهرت ضمن القائمة الطويلة للجائزة. نشر الحوار على موقع البوكر بتاريخ 21 أغسطس 2023م.
الصورة: بول لينش في حوار على موقع البوكر
thebookerprizes.com
*كيف يشعر الإنسان عند ترشيحه لجائزة بوكر، وماذا سيعني لك الفوز بها؟
تتبادر إلى الذهن بضعة أسطر من قصيدة «الخطوة الأولى» لكافافي:
هو أمر صعب ونادر أن تُدرج في سجلات الشرف هناك…
ليس بالأمر الهيّن أن تصل إلى تلك النقطة
تمثل كل جائزة، سواء أن كانت كبيرة أو صغيرة، نعمة للكاتب، فغرفة الكتَّاب معزولة، وطويل هو الوقت الذي يحتاجه الكاتب لكتابة رواية، وعلى عكس الموسيقار أو الممثلة التي تتلقى التصفيق على المسرح كل ليلة، أو نجم السينما الذي يرى اسمه مضيء في الأنوار، ينظر الكاتب إلى حديقة ممطرة لسنوات طويلة. لذا، الترشيح لجائزة أو الحصول عليها، هو بطريقة ما يمثل تصفيق بصوت عال، وتربيت على الكتف من الكون. وبالطبع، جائزة البوكر هي المسرح الأكبر على الإطلاق.
*كم استغرقت من الوقت لكتابة رواية «أغنية النبي»، وكيف هي طريقة عملك في الكتابة؟ هل تكتب مستخدماً لوحة المفاتيح أم باليد؟ هل ثمة مسودات متعددة، فترات طويلة من التوقف، أم نشاط مفاجئ؟ هل تقوم بقدر كبير من البحث والتخطيط قبل بدء الكتابة؟
استغرقت كتابتها أربع سنوات طويلة، خلال فترة الوباء والحياة الطبيعية التي أعقبته، خلال فترة جائحة كورونا الطويلة وما تبعها. وُلد ابني إليوت قبل أن أبدأ في كتابتها، وعندما أنهيتها كان يركب الدراجة.
التنفيذ السريع للمسودات ليس مناسبًا لي. أكتب (غالباً) خمسة أيام في الأسبوع، وفي كل يوم أكتب بعناية بضع مئات من الكلمات، وغالبًا ما أقوم بالبحث وبتحرير النص أثناء الكتابة، فتكون مسوداتي الأولى قريبة إلى حد كبير من الشكل النهائي.
قبل أن أكتب «أغنية النبي»، كنت قد قضيت ستة أشهر في كتابة رواية خاطئة، وكنت أعلم ذلك أيضًا، لكنني استمريت في المضي قدمًا عبر الصخور على أمل إحداث اختراق. ثم في يوم جمعة، حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، توقفت عن الكتابة وفكرت، هذا الرواية خاطئة – سأعود صباح يوم الاثنين وأبدأ رواية جديدة. كنت أشعر بوجود شيء يتربص تمامًا خارج الرؤية، ولكنني لم أكن أعرف ماهيته.
في صباح يوم الاثنين، أنشأت مستندًا جديدًا – خط نوع جانسون، هوامش 1.5 إنش، تباعد 1.6، بتنسيق صفحات ماك (أحب أن تبدو الصفحة ككتاب)، أغلقت عيني فجاءت الصفحة الأولى من «أغنية النبي» تقريبًا كما تقرأها الآن. خرجت تلك الجمل من العدم، وأستطيع أن أقول بصدق أنها واحدة من معجزات حياتي الكتابية. كيف علمت أن ثمة رواية أخرى هناك؟ حقًا، لا أعرف. حتى لم أكن أعرف الرواية التي كنت على وشك كتابتها، ومع ذلك، كانت الكثير من معاني الرواية مشفرة في تلك الجمل الافتتاحية. كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ مرة أخرى، لا أعرف. يتعلم الكتَّاب الثقة في حدسهم، وهو ما حدث معي، ستصبح النغمات الافتتاحية لأغنية روائية.
*أين تكتب بالضبط؟ كيف يبدو مكان عملك؟
كان لي مكتب في الطابق السفلي من المنزل قبل أن أنجب أطفالي، ثم صعدت إلى الطابق العلوي وحوّلت غرفة نوم إلى مكتب. كتبت بداخله «أغنية النبي». في الوقت الحالي، تم طردي من المنزل إلى استوديو صغير يقع أسفل الحديقة كان في السابق حظيرة عفنة من الطوب. إنه مكان هادئ ومثالي، يحتوي على نافذة كبيرة تطل على حديقة (ممطرة)، وثمة جدار من الكتب خلف المكتب أعتبره مصدرًا للطاقة.
خلال الستة أشهر الأولى من العمل على هذه الرواية، كان لدي أيضًا مكتب في جامعة ماينوث (Maynooth)، حصلت عليه بصفة كاتب مقيم. ساعدتني المساحة والوقت اللذين قدمتهما لي الجامعة كثيرًا وأظل ممتنًا لذلك. هذا العام، عدت إلى ماينوث في إقامة مختلفة، فالجامعة تمتلك الآن برنامجا ممتازا للكتابة الإبداعية بقيادة الشخصية الرائعة بيليندا مكيون.
*ظهر ضمن القائمة الطويلة لجوائز بوكر هذا العام أربعة كتّاب أيرلنديين – وهو أكثر من أي عام سابق – وقد قال بعض المعلقين إنه كان يمكن أن يكون هناك المزيد منهم. بكل وضوح، تمتلك إيرلندا تقليداً أدبياً غنياً، ولكن يبدو أنه ثمة الكثير من الأدب المثير الذي يخرج منها في الوقت الحالي – لماذا تعتقد أن ذلك يحدث؟
لن يكون أي من هذا ممكنًا دون دعم الدولة الأيرلندية. حصلت على منحتين من مجلس الفنون خلال الأربع سنوات التي استغرقتها كتابة هذه الرواية، بالإضافة إلى فترة الإقامة في جامعة ماينوث، ونحن نستفيد جميعًا من إعفاء الفنانين من ضريبة الدخل. إذا قمت بتخفيض النفقات الثابتة الخاصة بك، كما فعلت، يمكنك أن تكرس نفسك بشكل كامل للكتابة، وعندما تفعل ذلك يومًا بعد يوم، تركز ذهنك حول الرواية فتنتج أفضل أعمالك.
أنت واحد من عدة كتّاب على القائمة الطويلة الذين نشروا أعمالهم في دور نشر مستقلة صغيرة، وقد فازت ناشرتك بجائزة بوكر مرتين من قبل. ماذا يعني لك ذلك، وكيف يؤثر ذلك عليك ككاتب؟
جوليت مابي، ناشرتي/ محررتي في Oneworld، هي شخصية أسطورية إلى حد ما. الكتب التي نشرتها قد فازت، أو تنافست على الأقل، في جميع الجوائز الكبرى في المملكة المتحدة خلال العقد الماضي تقريبًا. أصبحت Oneworld الآن دار نشر أدبية رائدة ولكنها تظل مستقلة. كتبت آني ديلارد مرة أن الكتّاب الجيّدون مثل لاعبي التنس يلعبون على حواف الملعب، «هناك حيث الإثارة» كما قالت، «يضرب اللاعب للأعلى. يدفع الحدود». جوليت ما زالت تنشر للكتّاب الذين يلعبون على حواف الملعب، سواء كانوا يحققون نجاحًا تجاريًا أم لا. العديد من العلامات التجارية لدور النشر الكبيرة تفتقر إلى المخاطرة ولهذا السبب، تستمر Oneworld، جنبًا إلى جنب مع فيتزكارالدو (Fitzcarraldo) وغيرها من الدور الصغيرة المثيرة، في جذب الإعجاب وتحصيل الجوائز.
*تقدم «أغنية النبي» صورة لإيرلندا في عالم مظلم، وتصور حكومة تتجه نحو الطغيان. ما الذي ألهمك لأن تجعل أحداث الرواية تقع في بلدك الأم، وهل كانت الرواية مستوحاة من أحداث حقيقية وقعت في العالم؟
كنت أحاول أن ألقي نظرة على الفوضى الحديثة، على اضطرابات الديمقراطيات الغربية، وعلى مشكلة سوريا بوصفها انهيار دولة بأكملها، وعلى أبعاد أزمة اللاجئين الخطيرة واللامبالاة الغربية حيالها. حينها لم يكن الغزو الروسي لأوكرانيا قد بدأ. لم أستطع الكتابة مباشرة حول سوريا، لذلك جلبت المشكلة إلى إيرلندا كمحاكاة. بدأت الرواية بمشكلة يواجهها لاري ستاك: كيف يمكنك أن تثبت أن فعلًا ديمقراطيًا ليس فعلاً ضد الدولة؟ ثم نمت الرواية في تعقيدها وطورت منطقها المتصلب الخاص، وبدأت تتحدث عن واقع سياسي متعدد في وقت واحد. هناك سطر من كتاب كورماك مكارثي «العبور» حاولت استخدامه كتمهيد يعبر عن قصدي، لكن كورماك كان مريضًا ولم نستطع الحصول على إذن في الوقت المناسب للنشر: «مهمة الراوي ليست سهلة … يبدو أنه يتوجب عليه اختيار قصته من بين العديد من القصص الممكنة. ولكن بالطبع ليس هذا هو الحال. الحال هو صنع العديد من القصص من قصة واحدة».
*قالت لجنة تحكيم جائزة البوكر أن الرواية تلتقط «القلق الاجتماعي والسياسي في لحظتنا الراهنة». هل تهدف الرواية إلى أن تكون حكاية تحذيرية، متجذرة فيما يحدث الآن؟
قال أودن في وقت ما: «الشعر لا يجعل شيئاً يحدث». في أعماقي، أعتقد أنه على حق، وأميل إلى عدم إعجابي بالرواية التي تستخدم الأدب بمفرده لأغراض سياسية – حتى لو كنت، كمواطن، أتفق مع تلك القيم. فكرت بعناية كبيرة أثناء كتابة «أغنية النبي» حول متطلبات العمل الفني: الحزن وليس الشكوى، العمى والتعقيد على حساب الكلام الفارغ واليقين. وقد ألتزمت بقوة بهذه القوانين، ومع ذلك، أعتقد أن روايتي تحمل قيمة أخلاقية. ويمكن قراءتها كتحذير، يمكن أيضًا قراءتها كمحاكاة لأحداث تحدث في مكان ما في العالم الآن.
كنت على علم أثناء كتابتها بأنني أتناول، جزئياً، مشكلة حديثة: لماذا نشعر في الغرب بنقص في التعاطف تجاه اللاجئين الذين يتجهون نحو حدودنا؟ “أغنية النبي” هي محاولة جزئية للتعاطف الجذري، لفهم أفضل، يجب أن نعيش التجربة بأنفسنا، لذا سعيت إلى تعميق السيناريو المظلم عن طريق إضافة درجة عالية من الواقعية، أردت اغراق القارئ بعمق لدرجة أنه في نهاية الرواية، لن يعرف فقط، ولكنه سيشعر بنفسه بهذه المشكلة.
*تركز الرواية على إيليش ستاك، وهي امرأة أُجبرت على فعل كل ما يلزم للحفاظ على عائلتها بعد اعتقال زوجها. يظل السرد قريبًا من وعي إيليش طوال الوقت. لماذا اخترت سرد القصة من خلال صوت هذه الأم؟
نادرًا ما تكون الشخصيات من اختياري. إنها تخرج من الظلام وتطالب بأن تُكتب – غالبًا ما يكون هناك موقف يثير فضولي. كنت قد فكرت في البداية أن «أغنية النبي» قد تكون رواية اجتماعية: تصوير لشخصيات مع تركيز كبير على عائلة. ولكن بسرعة كبيرة قالت الرواية لا. كان على الرواية أن تتركز حول إيليش، وهي تولع بالانتباه إلى الحياة الخفية للأفعال غير المسجلة، وتطرح باستمرار السؤال: إلى أي مدى يمتلك الفرد وكيف يتصرف عندما يجد نفسه محاصرًا ضمن هذه القوى الهائلة؟ من هذا الناحية، أعتبر الرواية ميتافيزيقية بدلاً من سياسية. نحن نفقد حساسيتنا يوميًا عند رؤية أحداث مثل هذه على وسائل الإعلام، ولذلك أردت أن أطالب بالخيال الروائي، لأظهر للقارئ ما يمكن أن يقوم به الخيال على نحو فريد.
*أي كتاب أو كتب تقرأها في الوقت الحالي؟ وهل هناك أي كتَّاب تعتقد أنهم يستحقون مزيدًا من التقدير؟
أقرأ رواية Orbital لسامانثا هارفي، التي نشرت في نوفمبر من قِبل جوناثان كيب، هي رواية عجيبة فيها إبداع جميل وذكي، قرأتها وأنا مندهش مما حوته من إحساس بالدهشة، ومعرفة وحكمة، وجمالها الخارق تقريبًا، فقد وصل هارفي إلى مكان يخصه بشكل فريد. رواية The Dust Never Settle لكارينا ليكوريش كوين، أولى رواياتها (نشرت بواسطة Oneworld)، هي رواية ساحرة – رواية جنوب أمريكية طموحة وواسعة على طريقة ماركيز وديو مورييه. هل حصلت على الاهتمام الذي تستحقه؟ لا.
*هل لديك رواية مفضلة من الروايات الفائزة بجائزة بوكر أو التي ترشحت لها، وإذا كانت الإجابة بنعم، فلماذا؟
أدهشتني رواية A Long Long Way لسيباستيان باري (تم ترشيحها للبوكر في العام 2005م) وأدهشتني عندما قرأتها. كان جدّي الأكبر عسكريًا في الجيش البريطاني وقاتل طوال الحرب العالمية الأولى كرقيب أول في الفرقة الملكية للمدفعية الميدانية. ظل خيالي مأخوذا على الدوام بالحرب العالمية الأولى ولكنني لن أكتب رواية عنها أبدًا لأنها لا يمكن أن تكون على قدر رواية سيباستيان التي، بعد الانتهاء من قراءتها، علقت فوق رأسي مثل سحابة سوداء لمدة أسبوع.
ما الذي تعكف عليه الآن؟
في الفترة الأخيرة عملت على رواية خاطئة (مرة أخرى)، لكنني تحولت مؤخرًا نحو الرواية الصحيحة، وكتبت منها حاليا ثمانية آلاف كلمة. لا أستطيع قول الكثير عنها خوفًا من أن أفسد سحرها، لكن سأوضح بأنها كتبت بضمير المتحدث، وهي الرواية الأولى لي التي أكتبها بهذه الطريقة.
= = =
حوار مع بول لينش الحائز على جائزة البوكر البريطانية للعام 2023 عن رواية «أغنية النبي»؛ ترجمة عاطف الحاج سعيد
الروائي والمترجم السوداني عاطف الحاج سعيد