الفلاح والرئيس: الفيلم الوثائقي «إخفاء صدام حسين» لـ مصطفى هالكوت
نشر المقال الأصلي في موقع الاتحاد الدولي لنقاد السينما (fiPREScI) بقلم أحمد العياد، وكُتبَ بمناسبة عرض الفيلم الوثائقي «إخفاء صدام حسين» في مهرجان عمّان السينمائي الدولي الخامس (يوليو 2024).
هناك الكثير من الأفلام التي تناولت حياة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، من نشأته حتى تبوئه سدة الحكم في العراق، وما رافقها من حروب وحصار دولي جوّع الشعب العراقي حتى احتلاله من قبل الأمريكان في 2003. هذه الأفلام كانت على طرفي نقيض لا يجمع بينها إلا هذه الشخصية؛ إما مبجلة للقائد المناضل، وإما منتقدة للديكتاتور.
الفيلم الوثائقي العراقي النرويجي «إخفاء صدام حسين» يتناول هذه الشخصية من زاوية جِدّ مختلفة، زاوية إنسانية إن صحَّ التعبير، عبر قصة يسردها الفلاح علاء نامق الذي تفاجأ يوما بزائر لا يخطر على بال، إنه السيد الرئيس الملاحق من قبل آلاف الجنود الأمريكان، لجأ إليه فأخفاه لـ 235 يوماً في مزرعته جنوب تكريت على شطآن نهر دجلة. رصد الفيلم مراحل البحث عن الرئيس العراقي الذي أُعدم لاحقا في 2006 في بغداد أبي جعفر المنصور، وحقق أرباحاً غير مسبوقة وصلت إلى مليون دولار أمريكي بعد 17 يوماً فقط من عرضه في دور السينما العراقية.
نترجم هذا المقال لأنه يسلط الضوء على فيلم أدهشنا بصدقية سرديته على لسان من أسماه المخرج برجل الظل، الفلاح علاء نامق الذي ظهر بنفسه راويا قصة تلك الأيام العصيبة، التي انتهت به إلى التعذيب الوحشي والانتهاك في سجن أبو غريب. وعلّق علاء نامق على دوره في القصة قائلاً: في العراق واجبنا هو إكرام الضيف وحمايته حتى لو كان ذلك يعني التضحية بنفسك وكل ما تملك».
***
إخفاء صدام حسين هو فيلم وثائقي للمخرج الكردي هالكوت مصطفى، يوثق بشكل مؤثر الأيام الأخيرة في حياة الرئيس العراقي السابق صدام حسين. يحكي قصة علاء نامق، القروي العراقي الذي أخفى صدام حسين لمدة 235 يوما في حفرة في جنوب تكريت، بينما كان الجيش الأمريكي يبحث عنه في كل ركن من أركان العراق.
قدم المخرج مصطفى هالكوت الذي تم اكتشافه في المشهد السينمائي الخليجي فيلمه الأول «قلب أحمر» منذ أكثر من عشر سنوات كجزء من مهرجان الخليج السينمائي. يعود مصطفى الآن بفيلم وثائقي استفزازي، بعد 12 عاما من الجدل الذي دار حول عمله الأول.
يشدُّ الفيلم جمهوره منذ اللحظات الأولى بتفاصيل دقيقة وسرد للأحداث التاريخية الهامة بعناية فائقة. فهو لا يكتفي بتوثيق الأحداث، بل يذهب إلى أبعد من ذلك ليقدم منظورا إنسانيا للشخصيات التي شكلت جزءا من القصة، سواء من خلال الصراع الداخلي لعلاء نامق أو من خلال استكشاف الظروف المحيطة بصدام حسين في أيامه الأخيرة.
يوظف البناء الوثائقي للفيلم المواد البصرية لتحل محل غياب الأحداث السردية. وهو بذلك يتميز بالحفاظ على طبيعة غير اصطناعية، حيث يشعر المشاهدون أنهم أمام محاكاة بصرية بدلا من تمثيل واقعي. يعمل المخرج باستمرار على كسر الوهم المستمر من خلال العودة إلى الحاضر عبر صوت علاء نامق الذي يروي القصة.
يستعرض المخرج مهارة استثنائية في استخدام المواد الأرشيفية والمقابلات لبناء سرد شامل يوازن بين الجوانب الوثائقية والدرامية. استغرق إنتاج الفيلم أكثر من عشر سنوات، مع جهد كبير واضح في عمق البحث والاهتمام بالتفاصيل. استفاد مصطفى هالكوت من آلاف الساعات من اللقطات الأرشيفية وعشرات الآلاف من الوثائق لتقديم رؤية شاملة للأحداث.
لا تنبع القوة الدرامية فقط من إيقاع الفيلم المنضبط أو توظيفه الدقيق للمواد الأرشيفية، ولكن من القصة الإنسانية التي يرويها. يتناول في إطار درامي العلاقة الفريدة التي تطورت بين الفلاح والرئيس الهارب، يقدم لحظات غريبة ومؤلمة، مثل مشهد علاء نامق وهو يرى تعذيب صدام حسين على يد الجنود الأمريكان بعد عثورهم عليه في الحفرة، مما يضيف عمقا عاطفيا لعلاقتهما.
على الرغم من أن الفيلم يبدو محايدا على السطح، إلا أنه يقدم بشكل أساسي وجهة نظر نقدية للفساد الاستبدادي والديكتاتورية. يتجنب المخرج مصطفى هالكوت اتخاذ موقف واضح تجاه شخصية صدام حسين، مما يتيح للمشاهدين حرية التفكير والتأمل والتبصّر في الأحداث. يثير الفيلم أسئلة حول التاريخ والتحيز، مع التركيز على التجربة الإنسانية التي يتقاسمها الفلاح والرئيس خلال فترة الاختباء.
يكمن ضعف الفيلم في تمثيل المشاهد الوثائقية، حتى لو كان هناك بعض الفائدة من التشابه الجسدي بين الشخصية المركزية والرئيس العراقي. ومع ذلك، فإن هذا لا ينقل الواقع بشكل مقنع، مما يجعل من الصعب التصديق التام بمطابقته للأصل في استدعاء شخصية صدام حسين.
يعرض الفيلم سرديته بطريقة حساسة ومدروسة، مما يسمح للمخرج بتقديم قصة مؤثرة دون الوقوع في التحيز. لا يسعى إلى تجميل أو تشويه أي جانب، بل يركز على تقديم الحقيقة كما يراها صناع الفيلم، مما يجعله فيلما وثائقيا قويا يساهم في توثيق جزء مهم من التاريخ العراقي.
يعزز التصوير السينمائي واقعية الأحداث، مما يجعل الجمهور يشعر كما لو كانوا جزءا من القصة. تلعب الموسيقى أيضا دورا مهما في بناء السياق والأجواء، مما يزيد من تأثيره على المشاهدين. هذا يجعلنا، كمشاهدين، نشعر بعناصر تلك الحقبة بشغف وترقب تجاه الأحداث المتوالية في الفيلم.
إخفاء صدام حسين هو أكثر من مجرد فيلم وثائقي؛ إنه عمل سينمائي يجمع بين الحرفية الفنية والشجاعة في النهج. يعيد بناء الأحداث المهمة في التاريخ العراقي الحديث، ويقدمها بطريقة تجعلها ملموسة الوقائع وذات صلة بالجمهور. إنه فيلم يجب أن يشاهده كل من يهتم بفهم تلك الفترة المعقدة من التاريخ العراقي والعربي.
في الختام، يقدم فيلم «إخفاء صدام حسين» رؤية معقدة استفزازية لشخصية صدام حسين والأحداث المحيطة بأيامه الأخيرة. لا يتعلق الفيلم بتوثيق حدث تاريخي فحسب، بل هو دعوة للتفكير في العلاقات الإنسانية وعواقب السلطة والديكتاتورية.
أتوقع أنه بمجرد عرض الفيلم على المنصات السينمائية، سيثير الكثير من الخلاف الجدلي حول هذا الحدث الهام، خاصة بسبب توجهه المشحون سياسيا وطريقة تعامله مع شخصية صدام حسين.
***