غزلان تواتي تكتب: الاعتراف والكلب الرمادي ذو العين الزرقاء
صدرت حديثا المجموعة القصصية «توقيت غير مناسب لشراء السمك» للكاتبة الجزائرية غزلان تواتي، عن دار هُنّ elles للنشر والتوزيع؛
ننشر هنا قصتين، هدية رائعة من المؤلفة الأستاذة غزلان تواتي لـ منصة قنّاص الثقافية.
الاعتراف
فكَّرَ القس قليلًا، كان بينه وبين البار حجاب خفيف، يرى منه الأبُ الابنَ والابنُ لا يراه. رآه يقضم أظافره، مطأطئ الرأس، ذاهلًا، ولكنه مدرك للمكان والزمان. بادره القس قائلًا: «بُنَي اِفتح قلبك للرب، فهو رحيم»، لكن الابن لا يعلم مدى رحمة أو قسوة الرب، وفي تلك اللحظة الحاسمة من حياته، كان يتمنى أن يتأكَّد أوَّلًا من صفات الرب ثمَّ يعترفُ بخطيئته. تذكَّرَ كم كانت الحياة قاسية عندما انتحرت أمه وعمره ثلاثة أشهر، ثم ضربت يد القدر ثانيةً وأخذت جدَّته عندما كان في السادسة فقط من عمره، بعد أن اعتاد عليها، ماتت حين أوقعتها بقرة بأحد قرنيها، جرَّتها مسافة قدَّرها الجيران بأربعمئة متر، ثم ماذا؟ لا شيء، كان يشاهد تدفق دم العجوز بسخاء.
أشياء أخرى كانت في حلق البار، خمَّن أنَّه من الجيد تأجيلها إلى لحظة أخرى، ثم رفع رأسه باتجاه الأب الذي لا يراه، قال: «أبتي، هل يَضحك الرب؟» تمتم الأب كلمات قليلة ثم أجاب: «لدي سؤال آخر، الناس يقولون أنّه يضحك، لكن لماذا؟» تنهَّد البار، ثم قال: «أحقًا يقولون ذلك؟» أجاب الأب: «نعم، ويقولون إنَّه يبكي أيضًا». قال البار: «لا أعلم إنْ كان الرب يضحك، هذا يُحيِّرُني فعلًا، لكن إن كان يضحك فهذا أمر جيد وإن كان لا يفعل فهذه مصيبة». لم يرد الأب، إنّما في نفسه كان فضوله قويًا ليعرف ما خطيئة البار الشاب. كيف أخطأ وأين ومتى؟ أحسَّ بالتقصير في مهمته، فقد قام بتربية البار في الدير على مبادئ صارمة، إلى أن أصبح هو الآخر راهبًا مقتدرًا. كيف له أن يخطئ وما خطيئته، تلك الحيرة الكبرى التي تفسد الإيمان، ردَّد القس في نفسه. طلب مجددًا من البار: «يمكنك الاعتراف فالرب رحيم، رحمته كالكون وربما أكبر»، وبالنظر إلى أنَّ الشاب لا يعلم شيئًا عن مدى سعة الكون، إلَّا حدود مصحِّ الأمراض العقلية وبعض ما شاهدته عيناه طيلة الخمس وثلاثين سنة الماضية من حياته في القرية، فإنه لم يكن بالنسبة له هذا دليلًا كافيًا عن رحمة الرب.
انصرف البار لأنَّ وراءه واجبات أخرى بعيدًا عن الدير، عليه أن يعود السيدتين خارج البلدة ويساعدهما في ترتيب المنزل وقضاء بعض الأمور وزيارة واحدة منهما لابنتها المجنونة المحجوزة في مصحٍّ في المدينة المجاورة. هنا راح يكلِّم نفسه: «كيف تُعاقَبُ هذه العجوز الكفيفة بجنون ابنتها الوحيدة؟».
في الليل، ولفرط الفضول، حلم القس أن البار يعاشر الكفيفة، إلَّا أنَّها كانت في الحلم شابة جميلة، وليس كما في واقع المرأة خارج البلدة. رأى كل المقاطع المخجلة. عَلِق في بصره منظر المرأة تتلوَّى فوق البار، تصرخ مراتٍ، تسكن في أخرى، كما لو أنَّ هدوءًا إلهيًّا حلَّ بها، ثمَّ بعد حين رأى البار يبكي، رأسه على فخذيْ الكفيفة الجميلة. كان حزينًا، إلَّا أنَّ صورة المرأة عارية كانت لذيذة، اشتهاها القس؛ لمسها… استيقظ مبتهجًا، نادمًا من أجل نفسه، وحزينًا لأجل بكاء البار.
ثم في الغد وجد البار في انتظاره، كان تعيسًا، أكثر من أمس، شاحبًا أكثر، رآه قبل اختفائه وراء الحجاب الفاصل بينهما. اِرتبك القس وتذكر الشابة في حلمه، تنحنح قليلًا ليجلي ما علق في حلقه من حلاوة منظرها. انتظر البار ينطق أولًا، إذ من قواعد الاعتراف أنْ يترك المُعترِف يتكلم أولًا، وألَّا يقاطعه مهما حصل، وألَّا يواسيه مهما بكى، وألَّا يؤنِّبه مهما ضحك أو صرخ، هكذا يصعد الاعتراف مباشرة إلى السماء نقيًّا، دون تلطيخ من صوت وكلمات أخرى هجينة. قال الشاب: «لقد أخطأت أبتي!»، رد الأب: «الرب رحيم». واصل الشاب: «ولكنني غير متأكد من غفرانه لخطيئتي…». استحضر القس ما رآه في منامه، لم يرغب في قول: «أعرف ما فعلت، وهذا ذنب مغفور أيضًا، ما يحدث في اللحم يبقى في اللحم…». لكن الشاب قاطع تخمينات الأب قائلًا: «قبل يومين طلبت من الرب أن يعترف بذنوبه، طالبته بشدة، بكيت وصرخت في وجهه وأخبرته أنه يسمح بوقوع كل الشرور دون شعور بالذنب، سألته أشياء لا أرغب بذكرها…» وبكى بصوت مرتفع، بكى كثيرًا… «لكن رحمة الرب تغفر هذا أيضًا» قال القس. رد الابن: «الغفران التام يتطلب نسيانًا تامًا، هل ينسى الرب؟ أنا لم أنس ما فعلته الأقدار بأمي وجدتي والعجوز الكفيفة خارج البلدة. لا أنسى».
خرج البار مسرعًا من وراء الحجاب الذي كان في مكتب القس. خرج باكيًا. القس في حيرته، لم يفهم لماذا يجب أن ينسى الإساءة ليتمكَّن من الغفران؟ تذكَّر أشياء قرأها قديمًا عن استحالة ضحك الرب. إن كان المجيب عن السؤال فيلسوفًا فسيقول: «الله لا يضحك لأنَّ الضحك خاصة الإنسان»، وإن كان لاهوتيًا عقلانيًا سيقول: «لا يضحك الله لأنَّ الضحك يتطلب الدهشة، ولا شيء ممَّا خلق الله يمكن أن يدهش الله»، أمَّا إن كان المجيب لاهوتيًّا تجسيميًّا قال: «إنّما يبتسم الله، لكن سرورًا فقط».
غادر القس مكتبه، رأى زهرة صغيرة نبتت في شق بين بلاطتين على الرصيف، في الساحة طير وحيد يغرد بأعلى صوته، قبل أن تتحوَّل الشمس إلى وسط السماء ويطير بعيدًا، أما البار ففي طريقه إلى العجوز الكفيفة، يفكر جديًّا في طلب الغفران لأنَّه ضايق الله.
***
الكلب الرمادي ذو العين الزرقاء
قالت المرأة الأولى للثانية: «مثل كلب الصيد أنا، أعود دائمًا، أعود حين لا يتوقع أحد عودتي». وبدأتْ تسرد قصة كلب صيد رمادي رأته في الشارع وسط السيارات وقد تبدلت أحواله. صار بدينًا، بطنه يكاد يلامس الأرض. «ربما كانت كلبة حامل»، قالت.
ضحكت المرأة الثانية وقالت: «ولكن لا يمكن، فكلاب الصيد ذكور».
فأجابت الأولى: «من يدري هل كانت ذكورًا أم إناثًا؟ لم يطرح أحد هذا السؤال على كلب صيد». وواصلت تروي حكاية كلب الصيد البدين: «كان يقطع الطريق بين سيارات عديدة، يزحف كأنه سلحفاة تخلَّت عن قوقعتها»، ثم سرحت أكثر في التمثيلات والتشبيهات.
«عندما وصل الكلب إلى الطرف الآخر من الشارع، وقف أمام امرأة، كانت تشير بأصابعها وتتكلم بصوت يسمعه من وقفوا في الضفة الأخرى من الشارع مثلي، إمَّا بسبب الكلب السمين أو لأسباب أجهلها، قالتْ. ارتفع صوت المرأة أكثر. كانت تصرخ، ثم شرعت في البكاء الشديد. لم تمنع نفسها عن شيء؛ الحركات، البكاء، الحديث والصراخ. لكن هل تعلمين ما المدهش في هذا؟ أنَّ الكلب لم يكن يتأثَّر ولم يتحرك من أمامها، بدا لي متعاطفًا. كان يميل كما تميل ويحرك قدميه كلما صرخت، كأنه ينتظر منها أمرًا. لم تكن صاحبته على الأرجح؛ من يملك كلبًا بدينًا كذاك؟ لم تكن هي أيضًا تبدو ممن يَقْدرون على حب الكلاب.
ظل الكلب واقفًا وعندما انتبهت المرأة لوضعها المثير للشفقة، مسحت دموعها بسرعة، صمتت وبدت بمنتهى الهدوء كأنها شخص آخر حلَّ محل الأول. ذهبتْ وبقي الكلب واقفًا. لا تتخيلي أن الأمر دام ساعة! هذه الأشياء تحدث في لحظات، لحظات فقط وسرعان ما ينتبه المرء إلى ذاته ليغادر حاله تلك إلى أخرى تليق بالمكان والناس من حوله.
انتقلتُ إلى الضفة الأخرى حيث الكلب. كان شديد الجمال بعين بنية وأخرى زرقاء شهلة. حاولت تخمين كيف تعرضت عينه للفقء. هل لهذا السبب ضاع من صاحبه وحل بالمدينة ليأكل وينام ويصبح بدينًا هكذا؟ تعلّم في المدينة الهدوء والإنصات لعويل الناس، وكأنه إسفنجة تمتص آلامهم وتكدسها ثمَّ يحوِّلها إلى شحم. لا تستطيع كلاب الصيد العيش بدون وظيفة، لا تقدر على البطالة. وربما… يحتمل أن تكون وظيفة الكلب الرمادي ذو العين الزرقاء، منذ غادر حياته الأولى، هي أن يسمع في صمت رهيب آلام الناس وتخزينها بين فروته وعظامه. تخيَّلتُ كم من الآلام خَزّن، ليصبح بذلك الحجم، وحزنت لأجله. بدأتُ أنا أيضًا أحزن لأجل أحزان الكلاب.
*غزلان تواتي، كاتبة جزائرية، نُشرت لها مجموعة قصصية «النساء لا يفعلن ذلك» وعدد من المقالات.