التجربة القصصية عند البشير الأزمي
بقلم عزيز العرباوي
عرفت التجربة القصصية للكاتب المغربي البشير الأزمي تطورًا ملحوظًا منذ إصداره الأول في هذا الجنس الأدبي عام 2007 من خلال مجموعة «الضفة الأخرى»، مرورًا بمجموعة «أحلام معلبة» الصادرة عام 2013، وانتهاءً بمجموعة «بهجة تهجع في الذاكرة» عام 2021، حيث تعددت أسالبيه الكتابية على مستوى اللغة والشكل والمضمون، فتارة يكتب القصة القصيرة جدًّا، وتارة يكتب القصة المتوسطة والطويلة بطريقة إبداعية تميز أسلوبه القصصي عن باقي أساليب الكتاب الآخرين. فالبشير الأزمي ينهل من الواقع الاجتماعي الذي يعيشه ويتعايش معه، ويحاول استدراج الشخصيات المتعددة على مستوى الوعي الثقافي والحالة الاجتماعية والموقع الاجتماعي والموقف الإنساني… بشكل يوحي للقارئ والناقد أنه أمام نص واقعي أو على الأقل أمام نص تخييلي يكاد يطابق الواقع الذي يعيشه.
يخصص البشير الأزمي مجموعاته القصصية المتعددة، لتوجيه القارئ نحو الوعي بالواقع الاجتماعي المغربي بالدرجة الأولى، وبدرجة أقل العربي؛ حيث يذهب إلى الحد الذي يستدعي فيه وقائع وأحداثًا اجتماعية وسياسية كبرى من أجل نقدها بشكل سردي ضمني محاولًا تشكيل جبهة اجتماعية تقف في وجه النزيف الاجتماعي والسياسي الذي نعيشه جميعًا. فبشكل أو بآخر، يحاول القاص أن ينمي لدينا كقراء ونخب مثقفة ملكة النقد والتحليل والتموقف الإيجابي تجاه الأحداث والقرارات. فاستدعاء الحلم والأمل والرغبة والجمال والمشاعر والعواطف الإنسانية في الكتابة القصصية لدى الأزمي دافعه القوي هو إيمانه بأهمية هذه الأشياء في التعبير الحر والجميل عن كل ما يؤمن به كإنسان وكمثقف، ثم ما يؤمن به ككاتب ويأمل أن يحصل في مجتمعه مستقبلًا.
أبدع البشير الأزمي في القصة، كما أبدع مؤخرًا في الرواية، حيث دخل المدونة السردية المغربية متسلحًا بثقافة مغربية أصيلة، وعربية قوية قوامها الوعي بالواقع المعاش وفهم عناصره الجمالية والثقافية والإيديولوجية من أجل إعادة تشكيل الوعي حولها ومن خلالها. ولقد تمكن في فترة قصيرة، قياسًا بمن هم من قبيلته الأدبية، أن ينشر مجموعات قصصية متميزة بوأته المكانة التي يستحقها ككاتب مناضل يضحي بجهده وبماله من أجل المساهمة الفعالة في بناء الوعي الثقافي بمجتمعه، وتوطين الثقافة الأصيلة داخله.
يستند البشير الأزمي في تجربته القصصية على الذاكرة باعتبارها مرجعًا قويًا قادرًا على استدعاء الأحداث والوقائع الأساسية في حياته وحياة شخصياته الأثيرة في كل نص قصصي؛ فالذاكرة القوية، وخاصة الذاكرة الطفولية تستطيع أن ترسم ملامح السرد وأحداثه المتعددة التي تساهم في بناء السرد القصصي بشكل يوحي بمدى التقاط السارد/ القاص لتفاصيل مهمة وأساسية. فهي نافذة منفتحة على العالم، على الناس، على الأحداث، على الأمكنة والفضاءات، وعلى الأزمنة السردية المحيلة على المرجعيات الثقافية التي ينطلق منها القاص البشير الأزمي.
أُصيْص الأحلام
ينطلق القاص في مجموعة «أصيص الأحلام» (2017) من الأحلام، ومن أهميتها في الحياة، بل من قدرتها على التغيير وعلى العيش بقليل منها أفضل من العيش بدونها، حيث يستدعي مقولة مارسيل بروست (إن كان القليل من الأحلام قد يُضر بنا، فالعلاج ليس بالتوقف عن الحلم، بل بأن نحلم أكثر وأكثر طوال الوقت). فالحلم وسيلته في الكتابة القصصية في المجموعة، حيث من خلالها ينفلت من عقال اللغة النحوية المركبة والقوية، وبوساطتها ينفرد بنصوص جميلة تصل بالقارئ إلى المعنى دون مجهود كبير منه. ومن هنا يتأكد لنا أن نصوص المجموعة -قصص قصيرة جدًا- تكاد تصل بنا إلى فهم معنى أن تحلم، معنى أن تجد للحلم في حياتك مجالًا فسيحًا للتعبير والتأويل والانطلاق في الكون وعالم الإنسان الغريب وإدراك الأشياء المعقدة واستعادة الشخصيات التاريخية العظيمة وإعادة تشكيل العالم وفق نظرتك له.
يتأكد لنا بعد قراءة نصوص المجموعة أن القاص يحاول الابتعاد ما أمكنه ذلك عن تجاوز ما يتركه الحلم من حيرة وقلق وتشاؤم وتشتت ذهني، خاصة عندما يكون الحلم مثيرًا لحفيظة القارئ والقاص معًا؛ فالحلم بالديمقراطية مثلًا، والتحضر، وحق العودة، والمساواة، والعدالة، والحب، والشفافية، والسلام… في مقابل التزوير، والتخلف، والنفي، والتسلط، والظلم، والاستبداد، والكره، والحقد، والكذب، والخيانة، والحرب، هو أمر يورث انتكاسة نفسية، ويكاد يثمر نتائج كارثية على الشخص الحالم.
سفر تحت الجلد
إن أسرار الكتابة القصصية عند البشير الأزمي في مجموعة «سفر تحت الجلد» (2018) تنطلق من تلك الأسرار الدفينة التي يقودها سفره المحمول على نعش الموت والحياة في آن، السفر الذي ينطلق من إيمانه بالأمل والحب والعشق والرغبة في التعلق بالحلم، الحلم بالبقاء، بالمستقبل الجميل، بالحياة المفعمة بالحرية والسلام. فالحب عنده كما يعتقد سارد قصة «طائرة ورقية» هو الحب الموزع بين المرأة والخمرة، بين حبيبة تخاف عليه وبين خمرة تنسيه أحزانه وتطهره منها، بين امرأة تغار عليه من النسيم وبين خمرة تدفئه في ليالي الفراق والبعد.
بين الموت واللاموت، بين اليأس والظلمة والاختناق، بين رائحة الضياع والقيظ والظمأ، بين السفر فوق الصمت والسفر تحت الجلد… هناك بصيص أمل يبهر المرء من خلال نظرته إلى المرآة، مرآة روحه الدافئة، مرآة ذاته المتشظية المنكسرة على أرض قاحلة. يقول القاص في قصة «أنا والمرآة»: (أحفر قبري… أتمدد فيه… أعيد التراب على جسدي… أحس بظلمة واختناق… أجهد نفسي في نزع التراب الذي يغطي جسدي… أخرج من قبري… أركض وأركض. أصل إلى بيتي، ألجه. أقترب من المرآة، أنظر إلى وجهي المنعكس عليها… أرى وجهي والوردة المطلة من المزهرية خلفي… أراهما يذبلان… يتراخيان… يميلان ويسقطان…) -ص. 16. فمن الأمل في الارتباط الأبدي إلى الخيانة والبحث عن لذة عابرة تخفي جبالًا من الألم والحزن والرغبة، نتيجة مأساوية ومؤلمة لمن هو في موقع ضعيف كالزوجة والأبناء، يتأكد شعور السارد في قصة «ظل الألم» بصعوبة الحياة وبالقدر الخفي الذي يفاجئ الفرد ويضرب كل آماله في المستقبل عرض الحائط.
تأتي قصص المجموعة المذكورة في إطار من التعبير عن الذاكرة الحية بكل مآسيها وأحزانها وأفراحها ومسراتها في الوقت نفسه، وهذا دليل على نشاط هذه الذاكرة ورغبة صاحبها في الحياة بكل تفاصيلها وممارستها بكل ما فيها وما تعبر عنه بشكل أو بآخر. ففيها يجد المرء نفسه ملاحقًا بالشوق والعشق، مكبلًا بالضياع والخوف، محاربًا بالصمت عن الذات المفقودة والمحاصرة في مكان محدد. ولا نكاد ننتهي من قصة الذاكرة، حتى نجد أنفسنا أمام قصة تواجه كل أشكال الوهم وكره الجمال والنساء وتكريس الجهل المركب والرعب في النفوس لدى البسطاء والأحرار باسم عناوين مختلفة ترتبط في أغلب الأحيان بكل ما هو ديني مغلف بغايات مرسومة سلفًا لدى جماعة أو فرد؛ يقول القاص في قصة «تمثال بجماليون»: (فكرتك تستند إلى الوهم يا جورجياس… فكرتك تحيد عن الحقيقة… بجماليون الذي كره النساء نحَتَ تمثالًا من العاج لامرأة جميلة ووقع في شرك عشق التمثال. هؤلاء يستندون بدورهم إلى الوهم، وتبتعد أفكارهم عن الحقيقة… يمقتون الجمال ولا يعشقون التماثيل لأنهم يرون نساءهم من رخام ويتناسون أنهن من لحم ودم وعقل…) -ص. 31.
نوافذ: مرآة وسواد
أول نافذة تبدو في مجموعة «نوافذ» (2020) هي نافذة الموت الذي زار الجد في صورة امرأة تتشح بوشاح أبيض، حيث تجلت قدسية الموت وصدمته القوية وقدرته على إسكات الجميع في حضرته رغم الصراخ والبكاء والنواح والعويل. فالموت في أوج سطوته يفقد الميت قدرته على إحداث أي أمر أو الإتيان بفعل ما، بينما يدفع أهله إلى استعادة تفاصيل حياته معهم وكل ما اقترفه في حقهم إيجابًا أو سلبًا. حيث تعيد كل العادات والتقاليد حضورها وسلطتها الثقافية لتفرض سلفًا نوعًا من القيم والأفكار والأشكال الحياتية التي يمنع منعًا كليًّا على أي كان أن يخرج عليها مهما أوتي من علم ومعرفة وثقافة حداثية. ومن أهم هذه القيم هو عدم التفكير في الزواج من أجنبية واحضارها إلى المجتمع المصغر كما فعل السارد في قصة «أرجوحة» ظنًّا منهم أنها ستفسد أخلاقهم وثقافتهم بثقافتها الغربية المتهتكة التي تنافي تعاليم الدين والقيم المغربية السائدة. يقول السارد في القصة: (عند باب البيت وقفت أمي وإخوتي وزهرة بنت خالتي وبعض الجارات ينتظرون وصولي. الكل يبتسم إلا أمي وزهرة، لاحظت أن عودتي هيّجتْ دموع أمي، وضعت يديها على عينيها محاولة إخفاءهما. أصابعها لم تكن قادرة على ذلك. غابت الابتسامة عن محيا زهرة كذلك وقفت مسمرة، تجيل عينيها بيني وبين أَنْخِلينِس وتضع صفحة يدها على فمها خشية أن تنفلت منها صرخة) -ص. 17.
كل النوافذ التي استحضرها القاص في قصص المجموعة، هي نوافذ مشرعة على الأمل في الحياة، على الرغبة في تجاوز الصعاب والمشاكل والصراعات النفسية والخروج من الورطات، بل مفتوحة على حياة جديدة ملؤها الحب والفرح والأمل في التغيير، وكأن هذه النوافذ المتعددة والمشكلة لانفتاح السارد في كل قصة على واقع جديد صارت ملاذًا وملجأ آمنًا له شكل مختلف يعبر عن ذات متشظية تتوسل الجمال والحب لكي تعيد بناء نفسها وتعبر عن وجودها بشكل أو بآخر في مواجهة التخلف والجهل والتشدد والتطرف. هذه النوافذ المرتبطة أساسًا بالأحلام، أحلام النوم واليقظة معًا، كانت بمثابة البلسم بالنسبة إلى السارد/ القاص ليعبر عن علاقاته المتعددة بأفراد الأسرة وأشكال تفاعله معهم بالإيجاب والسلب، وكأنه في حلبة صراع خفية غير ظاهرة للعيان، مؤكدًا على أن الرابطة الأسرية لا يمكنها أن تكون قوية دائمًا وسليمة من المشاكل إلى الأبد؛ وكما يقول في «ميثاق غير ملزم»: بيني وبينك ميثاق، أنا السارد وأنت المتلقي… ولنترك بشيرًا (يقصد المؤلف نفسه) خارج النص، فلا سلطة له، بعد أن اختارني فاعلًا أساسيًا ممسكًا بخيط السرد، أن يلزمني بأفكاره وأهوائه… -ص. 79.
بهجة تهجع في الذاكرة
يستدعي السارد/ القاص البشير الأزمي في مجموعة «بهجة تهجع في الذاكرة» (2021) الذاكرة وهو مفعم بالحيوية والرغبة في إعادة شريط الحياة بكل تفاصيلها، مشكلًا لذاته نوعًا من التنويع على مستوى التفكير والشعور بها. نجد في قصص المجموعة نوع من العودة إلى الطفولة، طفولة السارد، وحياته الأولى، والتي تأثر بها فيما بعد تأثرًا واضحًا لم يستطعْ رده. فأغلب ما كان يقترفه أبوه مثلًا في حق نسائه، وما عاشه في كنفه، يعيد إنتاجه بشكل أو بآخر، أو على الأقل مازال يؤمن به إيمانًا مترددًا. يقول في قصة «سكون داخلي»: (أتذكر تلك الفترة التي تقاسمتها وإياك، أتذكرها بالتفاصيل الدقيقة. كنتَ قاعدًا وأذناك متأهبتان لسماع خبر يفرحك. التعب يراقص جسدك وأنت تودع قلبك أحلامًا تنزف من ذاكرتك… قلب مترع بالأحلام. كانت أحلامك صغيرة بقدر صغر عمرك، وكبيرة بسعة الأفق؛ كان حلمك أن تضحى مقيدًا بوثاق العشق وأنت تركض سعيًا للحاق بالسماء. قلت لك حينها إن السماء مأوى العاشقين. ابتسمت، وقفت، اقتربت من النافذة، نظرت إلى السماء وقلت وأنت تخاطب طيفًا تراءى لك: لبيكِ… سأبحر وإن كنت أدري أن لجاج العشق قادر على أن يجرفني إلى الأعماق) -ص. 21.
هذه اللغة الجميلة المفعمة بالشعرية، والتي تنهل من معجم العشق والذاكرة الطفولية للسارد/ القاص، والتي نكاد نجدها في أغلب قصص المجموعة، وحتى في باقي مجموعاته الأخرى؛ تؤكد لنا أن الأزمي مبدع يجتهد كثيرًا في اختيار لغته السردية بعناية كبيرة، ولعل اللازمة (أتذكر… أتذكر أن…) التي يفتتح بها كل قصة من المجموعة كافية للتأكيد على كلامنا هذا. لقد استطاع القاص أن يطور من لغته السردية بعد توالي المجموعات القصصية ودخوله عالم الرواية، حيث ابتسمت له اللغة وانساقت بسلاسة لتنطبع في قصص جميلة ومبدعة.
إن قراءة هذه المجموعة الأخيرة للبشير الأزمي تجعلنا نؤمن بأننا أمام نصوص مترابطة فيما بينها حتى لنخال أنفسنا في نهايتها أننا قد قرأنا رواية قصيرة مكتملة الأركان، وليس مجموعة قصصية؛ فكل العناصر المكونة للنص الروائي موجودة، خاصة مع ضمير المخاطب (أنتَ) الذي يهيمن على جميع النصوص، إضافة إلى التكامل الموضوعي والفني والجمالي الذي يربطها دون الحديث عن عنصريْ الزمان والمكان واللذيْن لا يمكن استبعاد تعالقهما الواضح بشكل آلي وبارز في المجموعة. وهذا ما يؤكد على أن القاص قد تمكن من تطوير لغته السردية وبنائها بناء جماليًا وفنيًا مختلفًا عما قرأناه عند الكثيرين غيره.
***
التجربة القصصية عند البشير الأزمي: من غرابة الحلم إلى تكريس الحقيقة
عزيز العرباوي؛ كاتب وناقد مغربي