بقلم وداد سلوم
منذ ألف ليلة وليلة والحكاية الشعبية تشكل أحد أساليب السرد في التراث الأدبي ومع تطور الرواية كجنس ابداعي احتفظت الحكاية الشعبية بمكانتها الخاصة، بما توفره من فضاء واسع والفانتازيا ذات صلة بالمخزون الجمعي المحبب لشد القارئ ونقله برشاقة دون التقيد بالزمان والمكان.
يستخدم وحيد طويلة في روايته (الحب بمن حضر) الصادرة عن دار بتانة لعام 2024 أسلوب الحكاية على الطريقة الشعبية المصرية إذ يبدأ السرد بالاستهلال المتعارف عليه كان يا ما كان، متقمصاً دور الراوي بمهارة مع تطعيم الكلام بمفردات عامية تخصه وتجعل القارئ يهيم بجو الحكاية العام ولكنه يستبدل الربابة التي يستخدمها الرواة الشفويون في المقاهي الشعبية والموالد بالناي فيبدأ فصول الرواية بـ «راوٍ على الناي» في محاولة لابتكار خصوصية ناجحة، خاصة أن نغمات الناي الحنونة والحزينة فيها من أنفاس الانسان وآهاته ما يناسب معاناة الحب الذي يوحي العنوان بأنه موضوع ومحور الرواية.
والناي أيضاً يستخدمها الحاوي لإخراج الأفاعي من مخابئها، فهل نجح طويلة بنبش أفاعي الهواجس والأفكار والأحلام والضغائن البشرية من نفوس أبطاله لإيصال أفكار الحكاية ومقولته للقارئ؟
يقول صاحب رواية حذاء فليني وعلى لسان الراوي أن «الحكاية طبقات والدنيا طبقات» وعليه سنجد أن في الرواية مسارين متشابكين؛ فالحكاية-الأسطورة تبدأ بها الرواية وتبقى قائمة في خلفية الأحداث وتتشابك اليوميات معها وهي أسطورة القمينة التي يشوى بها الطوب وتحفظ الحياة في البلدة، يدبر أمورها عجوز غلب عليه التعب وصار يشعر أن دوره انتهى وبدأ القلق يساوره في انتظار شاب غريب يحدس أنه سيأتي ليسلمه العمل فيها. وإلا فستحترق القمينة وتحرق معها البلدة وهذا ما كان يخشاه إذ كان ذلك يحدث كل مئة عام.
قام الكاتب بتأسيس حكايته بمهارة على صعيد المكان والشخصيات والأسماء، فاختار للشاب القادم اسم “موعود” في دلالة مزدوجة للاسم فهو ما وعد أهل البلدة به ليحمل مهمة الإنقاذ، وفي دلالة وعد الانسان بنيل مبتغاه إذ يسعى ويتعب، وهو ما ينتظره موعود بعد كل الشقاء، حتى حين يختفي من البلدة في نهاية الرواية سيترك على شرفة حبيبته تمثالا لطائر تحتفظ به لحين عودته إنه الأمل بالحب الذي سيبقى حياً وممتداً حتى في الانتظار.
أما البطلة رفيقة موعود وحبيبته فاسمها بهجة، وهو اسم على مسمى فهي تضحك كأنها بهجة الدنيا التي يصعب امتلاكها مهما قضى الانسان يسعى في طرقها تبقى صعبة المنال عليه ولن تعده بشيء.
المكان بلدة كانت مسرحاً لحكايات قديمة وعديدة، أبرزها قصة الولد التائه من جماعة الغجر والذين عرفوا دوماً بالسرقة، ولكن حين سُرق منهم ابناً رحلوا. فملأ البوم المكان، إلى أن تسرب الناس إليه من قطار تعطل بالقرب، فكانوا يعيشون مع البوم، ما يذكرنا بالمصريين القدماء الذين ربطوا بين البوم والروح البشرية إذ كانوا يعتقدون أن روح الميت تغادر الأرض ليلا على شكل طائر البوم، ولكن بوجه بشري.
على جانب البلدة بحيرة بينما الواقع يشق دربه في الحكاية بطريق الاسفلت الذي شقته الحكومة فشطر المكان بشكل لافت في إشارة إلى عالمين عالم الحكاية ببطليها موعود وبهجة وبين المجتمع القائم بهشاشته وصراعاته إذ سنرى كيف يتصدع ويتزعزع بنيانه عند أول إشاعة حملتها رسائل تدسها يد مجهولة في الشرفات وتتهم النساء بإخلاصهن مثيرة لدى الرجال حمية الدفاع عما انتهك من شرفهم ولا تلبث أن تصل مثيلتها للنساء تفضح خيانات الرجال منذرة بحريق كبير يشبهه الكاتب بالقيامة فتلك الرسائل تكشف ليس فقط هشاشة المجتمع والعلاقات الإنسانية بل أيضاً الزيف الأخلاقي والاجتماعي وكم يحدث من ظلم خلف تلك الطقوس المعمول بها، يتبدى عبر السير المروية على هامش السرد.
لا أحد يعرف من يشعل تلك الفتنة المنذرة بالحريق، رغم استمرار القمينة وقيام موعود بالحفاظ عليها وحراستها، تشك بهجة بأنه هو الفاعل المجهول الذي يقوم بإرسال الرسائل، وتبقى محتارة في شكها لا تستطيع فضحه لعدم التأكد ولا تستطيع مسامحته. تبحث عن سبب يدفعه لذلك فتجد احساسه بالظلم والوحدة التي يعيشها بعد أن تعلمت بهجة وأخذتها الحياة عنه، فالغيرة وكسر القلب والحرمان تدفع إلى ارتكاب الشر لكن ضمير موعود يستيقظ حين تقطع بهجة السبل به وتواجهه، وقد أحس أن البلدة على شفير هاوية وكأن موعد فنائها اقترب وبدل أن يقوم بحمايتها من الحريق المذكور في الأسطورة قام بإشعاله فعلاً فيعود إلى محاسبة ذاته مستعيداً طيبته ونقاءه الإنساني ويتذكر قول العجوز الذي ابتلاه حين اختاره للمهمة: إذا أردت ان تصلح شيئاً أفسدته بيدك، فعليك أن تغمس هذه اليد في النار التي تشوي الطوب، وكأن هذه قاعدة أو طقس مقدس، وهذا ما يفعله موعود فيتطهر بالنار كأنه يفتدي البلدة ومن ثم يغادرها لتعود الحياة هانئة كما كانت في غابر الأيام.
سمحت الحكاية بفضائها الواسع للكاتب بفانتازيا مشوقة وممتعة فالقمينة مكان التطهير وهي سر الاستمرار، ألم يكن آدم وحواء من طين؟ أوليس شيّ الطوب هو بناء(خلق) الحضارات والمدن، والقمينة لا تموت طالما هناك من يحب، فمن يعمر الكون إذاً سوى الحب؟
أكثر صاحب رواية باب الليل من ضخ الرموز والاشارات في روايته فأعطاها بعداً أعمق لكل حدث. وكان للحكايات الثانوية التي أتت في استدراك الراوي لسرده التعريفي بالشخصيات وعرض تاريخ البلدة دوراً هاماً في إكمال رسمه لمجتمع البلدة القائم، كحكاية سماح وحكاية علعول وحكاية الشيخة صباح وغيرها. نسجت هذه الحكايات مع حكاية موعود وبهجة ثوب الحكاية المتكامل مع تنوع المستويات وتشعبها الممتع.
تحضر المرأة بقوة إذ يسلط الضوء على موقف المجتمع منها في أكثر من مكان عبر قصة صباح مثلا وتلاعب الأب العاشق والعاجز جنسياً بها وتعذيبها. وفي قصة بائع التموين الذي يقوم باستغلال النساء. وفي كلام الراوي الذي يؤكد كل حين كيد النساء وخبثهن ثم يشبه المرأة بالبومة هذا التشبيه يحمل وجهين بين حقيقة موقف المجتمع المتخلف من المرأة كوجه الشؤم وبين رؤيتها كحكيمة، فالقارئ يستطيع أن يلمس أن الكاتب يورد السائد لكشفه بالنقيض، هكذا انتقد طويلة البنية الاجتماعية للبلدة التي تشكل نموذجاً لمجتمع كامل يحمل تناقضاته وزيفه وحياته السرية وإرثه الأسود وانتقد العلاقات والممارسات التي تدل على تفكك هذا المجتمع فالحكايات المروية كانت بلسان المتعاطف الإنساني ضد الظلم ونقده بصورة صريحة وينتقل لإعلاء قيمة الحب والطيبة والتطهر من الشر والانتقام والنوايا السيئة لتستمر الحياة بكامل بهجتها، وهو إذ يبدأ الرواية بأغنية افريقية تميز بين الحنان والحب يتسع في طرحه أبعد من الحب بين الرجل والمرأة إلى المحبة بين البشر ولهذا يأتي العنوان «بمن حضر».
استخدم وحيد طويلة الحاذق في تشويق القارئ لغة سهلة بسيطة تتناسب مع أسلوب الحَكّاء الشعبي ومفردات من العامية بالصياغة المشوقة التي درج عليها الراوي، لكنه وقع أحياناً في التكرار والاطالة في بعض المواقع حتى يكاد القارئ يتململ في انتظار الحدث، وهو ما ينطبق على تحميل السرد الخلاصات والحكم والعبارات الشارحة والجاهزة وهذا قد يناسب أسلوب الراوي في الروي الشفهي للحكايات الشعبية وليس في الرواية المكتوبة، لكنه برع برسم الحدث والشخصيات حتى تكاد تشعر أنك تشاهد في بعض الأحيان مشهدا سينمائيا أو فيلم مصري قديم، كما برع في تصوير الشخصيات الرئيسية وما يضطرب في عالمها الداخلي بمهارة واضحة على لسان الراوي البسيط.
في النهاية يعود قلب بهجة للخفقان على رفيقها موعود حين اكتشفت انه قد غادر وأن الحياة عادت إلى مجراها في البلدة فكما أشعل النيران أطفأها. وهو إذ يترك القمينة ويغادر يتحرر منها ويحرر البلدة من فكرة الحريق الذي تعيش تحت خطره في خوف السكان الجمعي الموروث، محرراً الناس من سلطة الخوف والشك وهاجس الفناء دون حماية الغريب الموعود.
ومعطياً للحب استمرارا حقيقياً حيث يحدث بلا أسباب ولا ينتظر نهاية ما في التجارب المتوالدة عبر الزمن. ويقودنا ذلك إلى العنوان «الحب بمن حضر» والحضور هنا أبعد من الوجود الفردي أي أن الكل معني به فالاستمرار الإنساني والحضاري يتوقف عليه. ويذكرنا الطائر المتروك على شرفة بهجة بطائر الفينيق المولود من النار في رمزية للحب المتأجج والمنتظر وهو ما يقودنا إلى قول طويلة القيامة أنواع وقيامة الحب أحدها ولعل البشرية في هذا الزمن احوج إليها لاستعادة انسانيتها.
*****
الكاتبة السورية وداد سلوم
